أيها المصري، في شهر رمضان المعظم، يطيب لي أن أتقدم لك ولوطننا العظيم ولشعبه المصري الأصيل، وإلي الأمة كلها، والإنسانية كلها، بخالص التهاني، بهذا الشهر الجليل، الذي يتجدد كل سنة بالنور والنفحات، ويفتح الله فيه أبواب الرحمات، ويجعله شهرا تتجدد فيه علاقة الإنسان بمنظومة القيم، ويعاد فيه بناء الإنسان علي المعاني الفاضلة، والأخلاق الحميدة.
ومازلت هنا يا صديقي أمهد بعدد من الأمور قبل فتح باب الاستماع إلي همومك، وإبداء النصح والمشورة والمساعدة في مشاكلك، وقد أحببت اليوم أن أشاركك في فكرة كانت خطرت لي، ألا وهي أن منظومة العبادات والمعاملات والسلوكيات التي أمرنا الله تعالي بها في رمضان وغيره لها أثر قوي في تعديل طبع الإنسان، والعمل المستمر علي فتح آفاق عقله وتفكيره وتحليله للأمور، لأن الناس في الحقيقة كالمرايا‏،‏ وكما أن المرآة تعكس الواقع، وتكشف معالمه وتضاريسه، فكذلك عقول البشر علي ثلاثة أقسام‏،‏ في إدراك الواقع ثم في كيفية التعامل معه.
فالقسم الأول منهم إنسان كالمرآة المقعرة‏، ‏تصغر الأشياء‏، ‏فتري ذلك الإنسان في فهمه وتصوراته وعقله وتحليله وإدراكه للأحداث والمواقف‏ يميل دائما إلي إدراكها وتصورها علي نحو أصغر وأقل مما هي عليه في الواقع، وتعمل قدراته الذهنية دائما علي استيعاب الحدث مصغرا، أو مبتورا، أو مبتسرا، فتأتي قراراته وردود أفعاله دائما دون مستوي الحدث، أو أبطأ منه، أو أقل بكثير مما ينبغي، أو تأتي تصرفاته موصوفة بالاستهانة والاستهتار، وعدم تقدير الأحداث بما يناسبها، فيكون مثله كمثل إنسان يريد أن يضع أردبا من القمح، في إناء لا يستوعب إلا ربع أردب، فإن ضيق الإناء يجعله لا يستوعب الأمر كاملا، ويجعل أكثر القمح يتبعثر ويتبدد هنا وهناك.
والقسم الثاني منهم إنسان كالمرآة المحدبة، تكبِّر الأشياء عما هي عليه في الواقع، فتري ذلك الإنسان في فهمه وتحليله وإدراكه يميل دائما إلي تضخيم الأحداث وتهويلها، وتراه يعايش الحدث فيستقبله عقله مضخما، منفعلا، هائلا، فيصدر رد الفعل في المقابل أكبر بكثير مما يقتضيه الحدث، فتري حينئذ المبالغة والتهويل، وردود الأفعال الطائشة العشوائية.
وهذان النوعان من البشر، القائمان علي التهوين أو التهويل، يخوض كل منهما في أحداث متخبطة، وتصورات مغلوطة، وردود أفعال غير معقولة ولا مناسبة.
وهناك نوع ثالث من البشر، كالمرآة المركبة من المقعرة والمحدبة، فتجده في فهمه وعقله وكيفية تصوره لأحداث الدنيا من حوله، يميل إلي تصغير الكبير، وتكبير الصغير، وتقريب البعيد، وتبعيد القريب، وتقبيح الجميل، وتجميل القبيح، فتأتي تصرفاته وردود أفعاله دائما طائشة، فيتعامل مع الخطر ببرود، ومع الأمور المعتادة بهلع، ويمكنك أن تتصور مثلا أن رجلا يقود سيارته، ويتصور أن الأحجام والأبعاد التي يراها في مرآة سيارته حقيقية، وتكشف عن الواقع وتعبر عنه بالفعل، ويبني قراراته عليها، فإنه بسبب ذلك ينحني بسيارته إلي اليمين أو اليسار في الوقت الخطأ، فيقع الاصطدام بما يجاوره من سيارات، ويقع الموت والدمار، والسبب هو أنه بني قراره علي معلومة مغلوطة، وتصور مغلوط، وعلي تقدير خاطئ للأحجام والأبعاد والمسافات، وأن مرآته قد ضللته، ولذا تري علي مرآة السيارة سطرا مكتوبا ينص علي أن ما تراه في مرآتك من مسافات وأبعاد غير دقيق.
ويبقي القسم الأخير من البشر، وهو المرآة المستوية، التي تعكس كل شيء علي ما هو عليه، دون تكبير ولا تصغير، وهم نمط من البشر تكامل عقله، واعتدل طبعه ومزاجه، فصار في فهمه وتصوراته وتعقله واستيعابه موزونا، يري البعيد بعيدا، والقريب قريبا، ويري كذلك الحُسْن حُسْنا، والقُبْح قبحا، ويري الكبير كبيرا، والصغير صغيرا، فتصدر ردود أفعاله علي قدر كل حدث، وتأتي مناسبة تماما لمقدار الحدث وحجمه وموضعه وتفاصيله، فيري الناس في قراراته ومشورته وكلامه الحكمة، ويأتي الواقع مصدقا لما يقول.
ومهمة الأنبياء وورثتهم من العلماء والخبراء والأساتذة والعقلاء هي أن يوصلوا الإنسان الذي تكون مرآته محدبة أو مقعرة أو مغبشة أو مشوشة، إلي أن تكون مرآته مستوية، وذلك من خلال إضافة عدد من المقادير والخبرات والمعارف والقيم، والموازين الفكرية، وطرق الفهم، وطرق توثيق الأخبار وتحليلها وتوظيفها، والموازين النفسية العالية التي تحميه من العناد أو الطيش أو التسرع أو الصدمة، أو الكراهية، أو التطرف، أو ظنون السوء، مع التدريب المستمر علي كيفية المقارنة والتحليل والاستنباط، مع سعة الصدر وقابلية الاستماع الجيد للآخرين، قبل التحفز لإثبات الوجهة أو الرد، بل الحرص التام علي استيعاب فكرة الآخر بتمامها، قبل الانتقال إلي الحكم عليها بقبول أو رد.
إلي آخر تلك المنظومة من الخبرات التي كانت تصل إلي عقولنا تارة علي لسان رجل عجوز في القرية، عركته الحياة وحنكته فصار رجلا أريبا عارفا، خاض الحياة واستشف قوانينها وسنن الله فيها، فصار ينصحك في كل موقف بعبارات سهلة، وتبدو سطحية وتلقائية، لكنها تحمل من ورائها خبرات الأجيال، ورائحة الحكمة، وتارة تصل إلينا من العباقرة والخبراء في علوم النفس وقوانين الاجتماع البشري، وتارة تصل إلينا علي لسان واحد من العلماء الربانيين الذين يتفرسون وينظرون بنور الله، لكنها كانت تسري إلي عقولنا علي كل حال، فتعتدل منا المرايا، وترجع إلي الأمانة والدقة في الاستيعاب والفهم وتقدير المواقف.
فعليكم بالحكمة يرحمكم الله، فتشوا عنها، وتعلموها، وانتبهوا إلي أثر غيابها في تمزق المجتمع، وغياب الحقيقة، وشيوع تسطيح المعرفة، وصدق الله تعالي إذ يقول:( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب)(سورة البقرة، الآية269)، اللهم ألهمنا الحكمة والبصيرة، وارفع عنا يا مولانا الهم والغم الذي يجعل النفوس والعقول مضطربة متخبطة متسرعة في فهم أحداث حياتها ثم في التعامل معها، وأنزل السكينة علينا حتي تستريح قلوبنا، وسلام علي الصادقين.