عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، فقال رجل: يا رسول الله!! إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشراك نعلي جديداً، وذكر أشياء حتي ذكر علاقة سوطه، أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟، قال: (لا، ذاك الجمال، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدري الناس).
(إني لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلا) أي أن يكون ثوبي أنيقا ومغسولا ونظيفا وجميل الهيئة، (وأن يكون شعري دَهِينًا) أي أن يكون شعري مدهونا ومنسقا ومسرحا ومتناسقا، (وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا) أي أن أتخذ من النعال أجودها وأكثرها اتساقا وحسنا، قال: (وذكر أشياء) أي كأن الرجل ظل يذكر شدة عنايته وتحريه وولعه للأجمل في مختلف أموره، في مأكله، ومشربه، ودابته، وممشاه، وأدواته ومتعلقاته، مما يدل علي أن الجمال صار سمتا لا يفارقه، وصار طريقة حياة، غُرست في أعماق النفس والعقل، وحركت سلوك الإنسان، قال: (حتي ذكر علاقة سوطه) أي مازال يذكر شغفه بالجمال في ثوبه، وشعره، ونعله، وسائر شئونه، حتي وصل تحريه للجمال إلي أمر غريب لا يتصوره أكثر الناس، وهو أنه يتحري الجمال في علاقة سوطه، أي الموضع الذي يتخذ ليعلق عليه العصا التي يتوكأ عليها الإنسان، مما يوازي في زمننا الحاضر الشماعة التي تعلق عليها الثياب، فكان يحب أن تكون حسنة لائقة.
وإذا كان هذا مبلغ عناية الإنسان بالأرقي والأجود في ثيابه، أدواته وأشيائه، فإن هذا الحرص سينتقل من الأدوات والأشياء إلي المفاهيم والأفكار، وطريقة التفكير، وحركة العقل، والتصرفات والسلوكيات، فإذا به قد صار عقله حرا منيرا، مبدعا متألقا، وصار خلقه حسنا، وصار بين الناس شامة.
وللقرآن الكريم أربعة من القيم والمعاني والمواقف والمشاعر والانفعالات بوصف الجمال الصريح، والعجيب أن تلك المعاني الأربعة اجتمعت جميعاً في مواقف الخصومة والمنازعة والقضاء، فإذا أحضرت الأنفس الشح، وشجر بين الناس النزاع الذي تندفع فيه النفوس إلي النكاية وإلي الإيلام وإلي إلحاق الأذي بالغير، فحينئذ أمرنا سبحانه أن سلك هذه المسالك الشريفة الراقية، التي وصفها بالجمال.
فأمرنا سبحانه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، والسراح الجميل، حتي تظهر ثمرات الجمال في مواقف البشر عند احتدام النزاع والاختلاف والشجار.
الخلق الأول: الصبر الجميل، قال تعالي: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُونَ) لما أن تعرض سيدنا يعقوب إلي موقف منازعة أبنائه له في موقف فاصل عصيب فقد فيه يوسف وهو أحب أبنائه إليه وجاءه أبناؤه علي قميص يوسف بدم كذب فما الذي تخلق به نبي الله يعقوب وهو يري أمامه الكذب وافتقاد الابن؟ قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ).
الخلق الثاني: الصفح الجميل: قال سبحانه (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) فأمر سبحانه في مواضع الاختلاف والتكذيب منهم، وجحد الحق، بأن يعاملهم بالصفح الموصوف بالجمال والرقي.
الخلق الثالث: الهجر الجميل: قال سبحانه (وَاصْبِرْ عَلَي مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، فإذا لم يفلح الصبر الجميل، ولا الصفح الجميل، وكان الخصم غليظ الطبع، صاحب لدد ومعاندة في الخصومة، فاهجره هجرا موصوفا بالجمال، لا تشنيع فيه ولا تعيير، وألا يكون الهجر فيه قبح ولا فحش ولا إلحاق الأذي والسوء بل أن يكون الهجر جميلا.
الخلق الرابع: السراح الجميل، عند حصول المنازعة وتحتم الطلاق، قال سبحانه (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).
فأمرنا سبحانه عند المنازعة في الأمور الشخصية، وحيثما تثور في طباع العباد معالم الشح، ويريد كل واحد أن ينتزع من الآخر غاية الحقوق، فأمرنا بمقاومة اندفاع الطباع إلي الإساءة، وأمرنا سبحانه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل وبالسراح الجميل.
حتي يتبين لنا أن الله تعالي مازال يضخ في قلوب العباد معالم الحسن والجمال، لاسيما الأوقات التي تثور فيها الطباع، وتمتلئ بالأحقاد فإنها تستحضر وتحافظ علي بقاء معني الجمال صبرا وهجرا وصفحا وسراحا، كأنه سبحانه يريد منا ألا ندع شيئا من عواصف الانفعالات والغضب، تغلبنا علي أمرنا، وتحملنا علي التخلي عن معاني الجمال، التي حشد لها الشرع كل الأدوات والأحكام والآداب لغرسها في النفوس، ثم ها هو يأبي لها أن تتفلت من الإنسان في أشد أوقات تورة الطبع وتململ نوازع الشر عنده.
مما يبين لنا أن القصد من ذلك كله أن يرتقي الإنسان إلي محاسن الأخلاق والشيم التي تتحول عند الإنسان إلي نسق، وإلي عادة، تسري إلي الإنسان في سائر شئونه، في عقله، وفي فهمه، وفي تفكيره، وفي استنباطه، وفي علومه، وفي معارفه.
وخلاصة ذلك كله تظهر في سلوك الإنسان في كل أنشطة الحياة، وأنه ينبغي أن يكون مشغولا بكيفية بناء نفسيته وطريقة فهمه وتفكيره ومنظومة سلوكياته بحيث تكون نابعة من هذه القيمة العليا والتي هي الجمال والحُسن في كل شيء. ولابد من ظهور أثر الجمال في تعامل الناس في الشارع أثناء سيرهم وتحركاتهم وتعاملاتهم اليومية، حيث يمكن أن يغيب معني الجمال تماما فتري تضييق الناس علي بعضهم، والتسابق إلي المرور والتزاحم عليه، واحتكار الطريق دون مبالاة بمن يمشي معنا فيه، وكل إنسان غارق في الشح والأنانية، ونفسه تنازعه وتلح عليه أن يعبر هو، أو أن يمر هو، أو أن يسبق هو، وإن ارتكب في سبيل ذلك كل صور التضييق والمزاحمة والمسابقة، ولا يبالي بآداب الطريق أو حق أخيه الإنسان، ودون أن تفيض نفسه بالجود والكرم والسماح للغير أن يمر أو يسبق. ولابد من ظهور أثر الجمال في طريقة التفكير، وفي أسلوب التعامل، وفي توثيق المعلومة، وفي آداب التخاطب والكلام، وفي احترام الحرف والمهن، وفي توقير القيم العظيمة، كقيمة الوطن، وقيمة الأم، وقيمة الأخلاق، وقيمة الانضباط والنظام، وقيمة الإنسانية، وقيمة احترام الذات وعدم الرضا ولا القبول بأي صورة من صور السلوك والتصرف تجلها قبيحة أو سيئة.