كنت في محاضرة قبل سنة تقريبا، وخطر لي أن أسأل الطلاب سؤالا تفاعليا، بغرض تحريك العقول، وتحفيزها، ودفعها للتفكير، ولعلي أن أستخرج من حصيلة أفكارهم إجابة جديدة، أو لمحة عبقرية، أو فكرة طريفة، أو زاوية جديدة، لأنني أؤمن أن كل إنسان له عبقريته، وربما كان السؤال نمطيا أو تقليديا أو معتادا أو مكررا، لكن كان لي من ورائه هدف، وكان سؤالي: ماذا تعني مصر في مفهومك، وما معني ودلالة كلمة مصر في ذهنك، وما هي مجموعة المعاني والأفكار التي تمثلها مصر في خاطرك، وقد استمعت إلي إجابات كثيرة معتادة، وعبارات كثيرة مألوفة، وكلها عبارات صحيحة وصادقة، فمن قائلٍ لي: إن مصر هي الوطن، ومن قائلٍ: إن مصر هي خزائن الأرض، ومن قائلٍ إن مصر هي الأم، ومن قائلٍ: إن مصر هي الحضارة والتاريخ، ومن قائلٍ: إن مصر هي الشرف والعرض الذي ندافع عنه ونموت دونه، ومن قائلٍ: إن مصر هي الأزهر الشريف، ومن قائلٍ: إن مصر هي خير أجناد الأرض، ومن قائلٍ: إن مصر هي الخير ونهر النيل والنماء، ومن قائلٍ: إن مصر هي بيت العرب، وحاضنة الإسلام، وكعبة العلم، ومن قائلٍ: إن مصر هي البقعة الوحيدة علي وجه الأرض التي تجلي الله عليها حين كلم موسي عليه السلام، ومن قائلٍ: إن مصر هي مأوي الأنبياء والعلماء والصالحين، بدليل مرور سيدتنا العذراء مريم وسيدنا عيسي المسيح بن مريم، وسيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وسيدنا إدريس، وعدد لا يمكن إحصاؤه من العلماء والصحابة والصالحين وأهل البيت النبوي الكريم، إجابات من وراء إجابات، وعبارات تتطاير من ألسنتهم الصادقة هنا وهناك، ومحاولات محمومة للتفكير والتألق والاجتهاد في الوصول إلي الكلمة الجامعة، أو الإجابة الأدق، وكل إجاباتهم التي تفضلوا بها صحيحة، وكل كلمة منها كانت تصف زاوية من المشهد، أو تعبر عن جانب من الصورة، ومصر في الحقيقة هي مجموع ذلك كله، وفجأة جاءت الإجابة العبقرية التي كنت أنتظرها، وسطعت أمام عقلي وعقول الطلاب الموجودين في المحاضرة، أشار أحد الطلاب بيده، فأعطيته فرصة الحديث فأجاب بقوله: (أنا، مصر هي أنا)، فتوجهت نحوه بكياني كله، وقد تلألأت إجابته، وصار لها في ذهني وقع ورنين، وسألته: ماذا تقصد، اشرح لي إجابتك، تحدث عن المعني الذي تقصده، وخذ من الوقت ما تريد لوصف كل ما يجول في خاطرك من المعاني التي عبرت عنها بهذه الكلمة الفريدة، فأجابني بقوله: (نعم، مصر هي أنا، وإذا أنا انهزمتُ أو انكسرتُ أو يأستُ أو تراجعت فقد تراجعت مصر، وإذا أنا انتصرتُ فقد انتصرتْ مصر، وإذا أنا تألقتُ فقد تألقتْ مصر، وإذا أنا نجحتُ فقد نجحتْ مصر)، وعندما أتمَّ كلامه توقفت مندهشا من هذه اللمحة العبقرية، والشعور العميق الذي تتركه هذه الإجابة عند من يستمع إليها، وكيف أنها تترك عند صاحبها شعورا بالغيرة علي هذا البلد، والامتزاج به، والخوف عليه كخوف الإنسان علي نفسه أو أشد، إنها حالة رفيعة من التماهي والتوحد بين الإنسان وبين وطنه، شعور عميق تتصاغر أمامه الأنانية، والطمع، وتعلو في مقابله معاني الحماية والدفاع عن الوطن بنفس القدر الذي يدافع به الإنسان عن نفسه، بل إن هذا المعني أشرف وأرفع، لأنه يجعل الإنسان يخشي علي وطنه من أن يهتز أو يضطرب هو في داخل وجدانه فينعكس هذا علي البلد، فإذا به يندفع لحماية البلد من ذلك فتسامي هو في وداخل نفسه عن أن يحزن أو يضيق أو يفرّط أو يتخلي، أنها (الأنا) المنيرة، الشريفة، التي تفيض بالقوة والعنفوان والفتوة والنهوض والتجاوز للأزمات والمصاعب، والتي تأتي في مقابل (الأنا) المظلمة، التي تملأ الإنسان بالطمع أو الشراهة أو الأنانية أو الطغيان أو الاستئثار، أنا الوطن، فأحمي نفسي من الضعف لشدة غيرتي عليه من أن يضعف، وأنا الوطن، فأحمي نفسي من الحزن، لشدة غيرتي عليه من أن يحزن، وأنا الوطن، فلا أبخل عليه بوقفة شجاعة في وقت الأزمة، وأنا الوطن، فلا أنغلق علي نفسي، وأقدم مصلحتها ومطامعها ومكاسبها، وأترك الوطن العظيم يتعثر أو يعاني، أنا الوطن فلا أزاحم لكي أقتنص منه كل ما يمكنني ثم أظل طوال العمر محتاجا، ونفسي عازفة عن العمل، وقراري هو ألا أبذل أي مجهود حتي يوفر هو لي كل ما أريد، فتكون النتيجة ألا يبذل أحد شيئا، ولا ينال أحد شيئا، أنا الوطن فأدرك أن المصلحة العامة ترجع حتما علي صاحبها بمصلحته الخاصة، لكن المصلحة الخاصة تدفع صاحبها ليتقوقع علي نفسه، ولا يري إلا مطالبه، أنا الوطن فأردد في نفسي دائما قول الشاعر:
بلادي وإن جارتْ عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإن جاروا عليَّ كرامُ
إنها لمحة فريدة تعلمتها من ذلك الطالب النجيب، فأثّرتْ في نفسي، وحركت في وجداني مشاعر كثيرة، وتعلمت منها كيف أحمي الوطن من نفسي، وكيف أبذل له ما أبذله لنفسي، وأدركت منها أيضا أن التواضع للمعرفة يفتح أسرار المعرفة، وازدادت قناعتي بأن كل إنسان له عبقريته، وأن العصف الذهني يولِّدُ بالفعل جواهر من المعارف والأفكار، وأنه يستخرج من عقول البشر كثيرا من الدرر، نعم، أنا الوطن، فلا أفرط فيه، ولا أتخلي عنه، وأسعي في رفعة أهله وشعبه، وأتحمل منهم كل أذي، وأخفض لهم جناح الذل من الرحمة بهم والرأفة بهم، وأعتز بهم، وأفتخر بأني منهم، وأسعي بكل ما أملك في رفع كل لمحة معاناة تصيب واحدا منهم، نعم، أنا الوطن، حبا له، وتفانيا في خدمته، وبذلا للعمر في راحة وسلامته، ليبقي هو بعدما نمضي نحن ونزول عزيزا شامخا، وقد تجاوز أزماته، وتخطي مصاعبه، وسلام علي الصادقين.