تاريخ مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين هو تاريخ القناة وكانت القناة فى الأصل هى أكبر مشروع استثمارى عرفته مصر فى تاريخها الحديث بدأت مصر منذ أيام مشروعها العملاق فى توسعة قناة السويس، أو بالأحرى حلمها بإنشاء قناة سويس جديدة، تناسب المتغيرات العالمية والمنافسات الإقليمية والدولية فى مجال النقل والخدمات البحرية. وربما لا يعرف الكثيرون أن القناة ارتبطت فى الوجدان المصرى بقصص عديدة من التضحيات والكفاح، إلى الحد الذى دفع ببعض المؤرخين إلى القول بأن تاريخ مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين هو تاريخ القناة... إذ ارتبط أول غزو لمصر فى تاريخها فى العصر الحديث، وهو الحملة الفرنسية، بمشروع حفر قناة تربط بين البحرين المتوسط والأحمر. وعلى الرغم من فشل الحملة فى نتائج الدراسات الخاصة بالمشروع إلا أن الحلم الفرنسى بإقامة القناة استمر ليعود من جديد فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور مسألة جديدة فى السياسة الدولية آنذاك، وهى الصراع على مصر، إذ رفضت بريطانيا المشروع الفرنسى لحفر القناة، وقدمت مشروعًا جديدًا وهو إنشاء خط سكة حديد الإسكندرية ـ القاهرة ـ السويس ليكون بديلاً عن مشروع القناة، للحد من النفوذ الفرنسى فى مصر. ومنذ ذلك الوقت فتح الباب على مصراعيه للتدخل الأوربى فى الشأن المصرى، وأدى ذلك إلى الاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882، والغريب أن هذا الاحتلال لم ينجح فى الوصول إلى القاهرة إلا بالالتفاف من ناحية قناة السويس، والنزول على الأرض حيث دارت معركة التل الكبير وهُزِم عرابى وجيشه، لتبدأ صفحة سوداء من تاريخ مصر لم تنته إلا عام 1956، وأيضًا على ضفاف القناة حيث دارت معارك العدوان الثلاثى، ومعركة بورسعيد الباسلة. ومع تصاعد الصراع العربى الإسرائيلى ازدادت أهمية قناة السويس، ولما لا؟! خاصةً أن حلم الصهيونية منذ القرن التاسع عشر وحتى قبل إنشاء إسرائيل فى 48 هو إيجاد قناة بديلة عن قناة السويس، لإضعاف مصر وإثراء الوجود الصهيونى فى فلسطين. من هنا أدت حرب 67 إلى إغلاق القناة، لينجح الرئيس أنور السادات وبعد العبور العظيم، عبور القناة فى 73، فى إعادة افتتاح القناة، ويختار يوم 5 يونيو ليكون تاريخ إعادة افتتاح القناة ليمحو من الضمير المصرى ذكرى أليمة وهى يونيو 67. وكانت القناة فى الأصل هى أكبر مشروع استثمارى عرفته مصر فى تاريخها الحديث، وربما عبر تاريخها بالكامل. إذ أدت القناة إلى ربط الشرق بالغرب وأحدثت تطورًا نوعيًا فى تاريخ التجارة الدولية، الذى أصبح يؤرَخ بما قبل وبعد حفر القناة. لكن الاستثمار لم يقتصر على ذلك، إذ نشأت على ضفاف القناة عدة مدن جديدة، مثل بورسعيد التى سميت كذلك ـ أى ميناء سعيد ـ نسبةً إلى سعيد باشا الذى منح امتياز حفر القناة، والإسماعيلية نسبةً إلى الخديو إسماعيل الذى افتُتِّحت القناة فى عهده، وبورتوفيق نسبةً إلى الخديو توفيق، وبورفؤاد نسبةً إلى الملك فؤاد. وتم حفر ترعة من النيل لتوصيل المياه العذبة إلى منطقة القناة هى »ترعة الإسماعيلية«، وكان من المستهدف بعد ذلك عبور الترعة إلى سيناء حتى تتحول الرمال إلى أراض زراعية. لكننا توقفنا عندما صنعه الأجداد واكتفينا به، ولم ننجح فى استكمال مسيرة استثمار وتنمية القناة، التى دفع المصريون فى سبيلها على مر تاريخهم الأرواح والدماء. فهل آن الآوان للقناة الآن لتكون بمثابة المشروع القومى لعبور مصر إلى المستقبل؟