دعاني ذات يوم إلي لقاء عاجل به وطرح عليّ فكرته في الترشح لمنصب »أمين عام الأمم المتحدة»‬ مبدياً رغبته في أن أستمزج الرئيس الأسبق »‬مبارك» الرأي في هذا الشأن وقد كان له ما أراد إنها  ليست صفحات مطوية لمذكرات شخصية، كما أنني لم أعمد إلي كتابة السيرة الذاتية إذ أفضل الحديث عنها من خلال أحداث جرت أو أمور حدثت ولا أستطيع في الوقت ذاته أن أنتزع الوقائع من سياقها وأن أقوم بعملية تشريح لمسيرة حياتي لمجرد أنني أريد أن أسجل أمام التاريخ شهادة إبراء ذمة دون تفاعل مع عنصر الزمان أوطبيعة المكان، ولعلي أقول صراحة أن ما أكتبه هو أقرب إلي »‬أدب الاعترافات» حول مراحل العمر المختلفة لا تحتمل الكذب فلا تحتاج إلي ادعاءات عنترية لا حاجة لنا بها، كما أنه لدي الكثير من الأسماء علي المستويين الدولي والمحلي رصيد كبير من هذا النوع من الاعترافات ليس أولها »‬جان جاك روسو» ولا آخرها المفكر المصري الموسوعي »‬لويس عوض» الذي أعترف بأن دهشتي قد بلغت حد الذهول وأنا أمضي بين سطور كلماته في (سنوات التكوين) ولقد ذكرت ذلك في تقديمي لكتاب الأستاذ »‬نسيم مجلي» عن ذلك المفكر الموسوعي، فالصدق هو مادة الإبهار الكبري والرصيد الباقي لصاحبه أمام الأجيال القادمة لذلك يجب أن يكون واضحاً أن صاحب هذه الاعترافات الذاتية قد دأب علي أن يفعل شيئاً من ذلك في عيد ميلاده كل عام وأن يعترف بنقاط ضعفه بل وأن يشير إلي خطاياه أيضا،ً فما أن برحت المدرسة الثانوية متجهاً إلي الجامعة وسط ضجيج العاصمة الصاخب وملايينها التي تدب علي الأرض كل صباح حيث كانت أسرتنا تنتقل في ذلك الوقت بين مدينتي »‬دمنهور» و»الفيوم» وراء عمل والدي رحمه الله وقد آثرت أن أبقي في »‬القاهرة» في الحالتين والتحقت بالمدينة الجامعية، وكان العام الأول لي في الجامعة صعباً للغاية فلقد تعرضت لظروف صحية كان فيها اشتباه عوارض »‬حمي روماتيزمية» بسبب الالتهاب الحاد في »‬الجيوب الأنفية»، وتعودت وقتها أن أبدأ الطريق من حجرتي في المبني الرابع بالمدينة الجامعية في »‬بين السرايات» إلي الجامعة في حماس بغير حدود وتعرفت علي كل كليات الجامعة وأساتذتها من خلال زملائي في المدينة الجامعية بتعدد تخصصاتهم وتنوع كلياتهم وشعرت دائماً بضعف تجاه كلية »‬الحقوق» التي كنت أحرص علي حضور بعض محاضراتها هاوياً خصوصاً وأن كلية »‬الاقتصاد والعلوم السياسية» كانت في مقرها القديم ضيفة علي ملحق كلية »‬الحقوق» بجامعة »‬القاهرة»، كما كنت مغرماً بحضور مناقشات الرسائل الجامعية لدرجتي الماجستير والدكتوراه ولازلت أتذكر احتفال مناقشة رسالة دكتوراه للطالب »‬يحيي الجمل» عام 1963 بل وأتذكر كلماته وهو يشير إلي غلاة الشراح في »‬نظرية الاعتراف» بالتوارث الدولي وكانت لجنة مناقشته مكونة من الثلاثة الكبار في القانون الدولي العام وهم »‬حامد سلطان» من »‬القاهرة» و»حافظ غانم» من »‬عين شمس» و»مصطفي صادق أبو هيف» من »‬الإسكندرية»، ولقد كنت أحضر ذات مرة مناقشة دكتوراه لطالب عراقي وكان رئيس اللجنة هو الراحل الكبير »‬د.حسين خلاف» الذي أومأ برأسه علي المنصة طالباً كوب ماء فإذا المفاجأة أن يقوم عضو اليسار »‬د.لبيب شقير» الذي كان نائباً لوزير التخطيط في ذلك الوقت من العصر الناصري بنفسه ليحضر لأستاذه كوب الماء وتضج القاعة بالتصفيق احتراماً للتقاليد الجامعية وحرص الأحدث علي تكريم أستاذه الكبير في بساطة وتواضع شديدين، ولقد أصبح »‬لبيب شقير» بعد ذلك بسنوات قليلة رئيساً »‬لمجلس الأمة» بينما كنت أمضي أنا في انبهار شديد بأساتذتي بدءاً من »‬زكي شافعي» العميد المؤسس لكلية »‬الاقتصاد» الذي ربطتني به صلة مباشرة من خلال دوري كرئيس »‬لاتحاد طلاب الكلية» مروراً بالدكتور »‬عبد الملك عودة» بأبويته المعهودة وصولاً إلي »‬بطرس غالي» الذي تعايش مع العصر الناصري في براعة غير قابلة للتكرار فضلاً عن أستاذي الموسوعي الذي كنا نسميه »‬الدكاترة حامد ربيع» لعلمه الغزير ومنهجه المتميز في فهم التقاليد الفكرية »‬للحضارة العربية الإسلامية» و»الحضارة الغربية المسيحية» في وقت واحد ولقد تعلمت منه أصول مناهج البحث والتفكير العلمي للدراسات الإنسانية والعلوم السلوكية، كما كان يأتينا »‬سعيد النجار» بأناقته ورقته رافضاً لما يسمي »‬بالاشتراكية العربية» ومتحدثاً في عشق عن الحرية الاقتصادية وآليات السوق، ولكنني أعترف أن النموذج الذي شدني أكثر من بين أساتذتي كان هو »‬د.رفعت المحجوب» بكبريائه المعهود ولغته الرصينة وتحليلاته الرائعة وهو يغوص في فلسفة علم الاقتصاد ويطرح تعريفات متعددة لذلك العلم الجاف بطبيعته مشيراً مرة إلي أنه »‬علم الندرة» ومرة أخري إلي أنه »‬علم المنفعة» ومرة ثالثة يتناوله باعتباره »‬علم الصيرورة»، ولقد بهرتني لغته الراقية وأناقته المعتادة وسيطرته الشديدة علي عقول طلابه أثناء محاضرته ولقد غيرت »‬نظارتي الطبية» لكي تكون من ذلك النوع الذي أستعمله حتي الآن تقليداً له وإعجاباً به، ولقد مرت السنوات واقتربت منه وأنا في مؤسسة الرئاسة وكان هو رئيساً »‬لمجلس الشعب» مثلما هو الأمر في علاقتي الدراسية مع »‬بطرس غالي» والتي تحولت إلي علاقة عمل عندما كان وزيراً للدولة للشئون الخارجية وأنا سكرتير الرئيس للمعلومات، ولازلت أذكر أنه دعاني ذات يوم إلي لقاء عاجل به وطرح عليّ فكرته في الترشح لمنصب »‬أمين عام الأمم المتحدة» مبدياً رغبته في أن أستمزج الرئيس الأسبق »‬مبارك» الرأي في هذا الشأن وقد كان له ما أراد، كما أنني نقلت إلي الرئيس الأسبق أيضاً رغبة »‬الجزائر» من خلال سفيرها في القاهرة» الذي جاء إلي مكتبي مرشحاً »‬الأخضر الإبراهيمي» لمنصب »‬أمين عام جامعة الدول العربية» وعندما أبلغت الرئيس الأسبق بذلك طلب مني أن يكون الدكتور »‬عصمت عبد المجيد» نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية هو مرشح »‬مصر» رسمياً لذلك المنصب وبذلك كنت شاهداً علي ترشيح »‬مصر» لمنصبي »‬أمين عام الأمم المتحدة» و»أمين عام جامعة الدول العربية»، ولعلي أتذكر الآن من ذلك الزمن الجميل أن الدكتور »‬بطرس غالي »‬ كان يدرس لنا في »‬قاعة البحث» لمادة »‬التنظيم الدولي» واخترت يومها بحثي عن »‬التنظيم الدولي الإسلامي» الذي طرحه المفكر السوري »‬عبدالرحمن الكواكبي» في كتابه »‬أم القري» الذي ذاع صيته مع مطلع القرن العشرين، وأتذكر أنني عندما عرضت البحث أمام أستاذي وزملائي أبدي البعض ملاحظة حول حفاوتي باللغة والاهتمام بالإسلوب ولكن الدكتور »‬بطرس» انبري مدافعاً عني قائلاً إن الشكل جزءٌ من المضمون وضرب أمثلة بمفكرين فرنسيين كبار كانوا يحتفون باللغة دون أن يؤثر ذلك في عمق الأفكار وسلامة المنهج، ولقد كانت بحق سنوات دراستي الجامعية هي سنوات التكوين الفكري والثقافي التي عشت علي رصيدها بعد ذلك، كما لم تخل حياتي الطلابية بالجامعة من بعض النوادر إذ جاءني مدرس شاب من قسم »‬العلوم السياسية» كان عائداً من »‬الولايات المتحدة الأمريكية» بعد حصوله علي درجة الدكتوراه عن بحث مرموق في وقته وطلب مني أن أفاتح إحدي زميلاتي في إعجابه بها ورغبته في التقدم لها وبسذاجة ابن القرية ذهبت إليها ـ وقد كانت زميلة راقية الخلق من أصول طبقية عالية ـ وطرحت عليها مطلب الأستاذ الشاب ولكنها اعتذرت وفوجئت في اليوم التالي بأستاذنا الراحل الدكتور »‬عبد الملك عودة» وهو يعلن في قاعة المحاضرات بأن الطالب »‬مصطفي الفقي» رئيس »‬اتحاد الطلاب» بالكلية قد أضاف مهمة جديدة لنشاطه الطلابي بأن يقوم بدور »‬الخاطبة» بين أستاذ وطالبة عندئذ ضجت قاعة الدراسة بالضحك والتصفيق في جو جامعي مرح بلا عقد أو حساسيات وتعلمت من ذلك ضرورة الحرص في استقبال ما يطلب مني، وظلت هذه النادرة في ذاكرة أستاذنا الراحل الدكتور »‬عودة» وزميل دراستي ودُرة خريجي كلية »‬الاقتصاد» وأول عميد لها من أبنائها الوزير الأسبق »‬د.علي الدين هلال»، ولقد تواصلت الحياة وتدفقت المياه ومرت السنون وترسبت أحداث كثيرة في أعماق الذاكرة.