خواطر الإمام الشعراوي

شركاء الغواية

 الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يقول الحق فى الآية 63 من سورة القصص:«قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ».

والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم، ومعنى«حَقَّ عَلَيْهِمُ...» أي: ثبت ووقع، فهو أمر لا محالة منه، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم، كما قال سبحانه فى موضع آخر:«فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ» «الصافات: 31».
وقال الحق سبحانه وتعالى: «وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ» «النمل: 85».
لكن، ما هو القول الذى وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم؟ القول: أن كلَّ واحد له مكان عندى فى الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم، وكل واحد له مكان فى النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم.
وماذا قالوا؟ قالوا: «رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...» سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى، كما قال تعالى فى شأن فرعون: «الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين» «يونس: 91».
الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم، فيدُكَ التى كنت تبطش بها، ورِجْلك التى كنت تسعى بها ولسانك.. كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك؛ لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «النور: 24».
ومعنى «هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ..» أي: المشركين «أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...» أي: لنكون سواء، هذه عِلَّة غوايتهم، أن يكونوا فى الخُسْران سواء، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم، وليكونوا أمثالهم.
وهذه المسألة تعطينا السيال النفسى لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً، لا يشاركه فساده وانحرافه، فيعزّ عليه أنْ يكون فى الهاوية وحده، ولماذا يمتاز عنه الآخرون؟ واقرأ قوله تعالى: «وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً...» «النساء: 89».
ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم، ليُزهدوهم فى الخير والصلاح، وليغروهم بما هم فيه، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم، كما يقول تعالى: «إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ» «المطففين: 29- 30».
وليت الأمر ينتهى عند الغَمْز واللمز، إنما يتمادى هؤلاء، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية «وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ» «المطففين: 31» يعني: فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضى شيئاً فى نفوسهم المريضة الحاقدة.
لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء، لذلك يتولَّى ربه- عز وجل- الدفاع عنه يقول له: لا تحزن فسوف نقتصُّ لك، ونسخر منهم، ونجعلهم أضحوكة فى يوم بَاقٍ لا ينتهى فيه عذابهم: «فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» «المطففين: 34-36».
وكأن الحق تبارك وتعالى يسترضى عباده المؤمنين: أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه فى حقكم؟ نعم يا رب، فسخرية الكفار من أهل الإيمان فى دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم فى دار الحق الباقية، وهى سخرية دائمة لا نهاية لها.
إذن: «أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا...» «القصص: 63» يعني: حتى نكون سواء، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله، ومن الصفائية التى كان ينعمَ بها مع الملائكة. أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير، فقد حَزَّ فى نفسه أن يلاقى هذا المصير وحده، فى حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه.
لذلك نجد إبليس- لعنه الله- لا يكتفى بأن تُغوى ذريته ذريةَ آدم، إنما يطلب من الله أنْ يُنظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية، فهو(المعلم) الكبير، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته فى الغواية قد لا ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول: «لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم».