خواطر الإمام الشعراوي| ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله

خواطر الامام الشعراوي
خواطر الامام الشعراوي

يقول الحق فى الآية 57 من سورة القصص: «وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».وهذه المقولة «إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ...»، قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله، وقال: إننا نعلم أنك جئتَ بالحق، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا، ولابد أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول. والخطْف: هو الأخْذ بشدة وسرعة.


إذن: فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق، وأنه على الهدى، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم.
فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس فى أموالهم أو فى أنفسهم- على فرض أن هذا صحيح- قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها، وهذا الخير الذى سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه.


أما إنْ ظلُّوا على كفرهم، فمتاع قليل فى الدنيا الفانية، ولا نصيبَ لهم فى الآخرة الباقية. إذن: فأيُّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذى جاء به رسول الله، هذه واحدة.
ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد الله عليهم: قُلْ لهم يا محمد: كذبتم، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم «أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».
فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به، تعبدون الأصنام فى جاهلية، ومكَّن لكم حياة آمنة فى رحاب بيته الحرام، ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذى زرع حيث يُجْبى إليه الثمرات من كل مكان، فالذى صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به، واهتديتم إلى الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟
ومعنى: «نُمَكِّن لَّهُمْ...» نجعلهم ممكنين فيه، كما فى قوله تعالى: «وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض...» والتمكين يدل على الثبات؛ لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان.


وقال: «حَرَماً آمِناً..» مع أن الأمن لمن فى المكان، لكن أراد سبحانه أن يُؤمِّن نفس المكان، فيكون كل ما فيه آمناً، حتى القاتل لا يُقتصّ منه فى الحرم، والحيوان لا يُثار فيه ولا يُصَاد، والنبات لا يُعضد حتى الحجر فى هذا المكان آمن، ألاَ تراهم يرجمون حجراً فى رمى الجمرات فى حين يُكرِّمون الحجر الأسود ويُقبّلونه.


وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم- عليه السلام- نجد أن له خطة، وأن الحق سبحانه يُعدُّه ليكون حرماً آمناً، فلما جاءه إبراهيم قال:«رَّبَّنَآ إنى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم...» «إبراهيم: 37».


هذا يعنى أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء، لأن نفى الزرع يعنى عدم وجود الماء؛ لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر، فلما علمتْ أنه اختيار الله لهم قالت: إذن لن يضيعنا.


وقد رأتْ بنفسها أن الله لم يُضيِّعهم، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ فى طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قَدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء فى سَعْيها، ولو أنها وجدته لكان سعيها سبباً إنما أراد الله أنْ يُصدِّقها فى كلمتها، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب لتتأكد أن كلمتها حق، ثم شاءتْ قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد، وهو يضرب بقدمه الأرض، ويبكى من شدة الجوع والعطش، وانبجستْ زمزم.

أقرا ايضا | حكم تقبيل الحجر الأسود وقت الوباء