فصول من كتاب مديحة كامل.. الفصل السادس « 3 » .. مديحة والموت

مديحة كامل
مديحة كامل

محمد سرساوى

هل إحساس فقد الأحبة الذي داهم مديحة أكثر من مرة، له دور في قرار اعتزالها، ربما يكون أحد العوامل، خاصة أن مرارة الألم المصاحبة للفقد كانت عظيمة، ولكنها مع ذلك استمرت احترامًا لعملها الفني. وقد كان لها أكثر من حوار عن أثر الفقد في النفوس، وذلك الحنين الذي لا ينتهي، وكيف غير نظرتها إلى الحياة.

وهل ظل شبح الموت الذى ظهر فى حياتها منذ وفاة شقيقها الأصغر مصطفى  يطارد مديحة؟ توفى أخوها عن عمر يناهز العشرين عامًا، بعد صراع طويل مع المرض، وكان ذلك عام 1976. وقد اضطربت مديحة بسبب مرض شقيقها الصغير، الذى تحبه، ونقل إلى المستشفى،  ولكن ظل نشاطها الفنى مستمرًا، وفى المستشفى وأثناء إجراء جراحة له توفى، فاهتزت الأرض تحت قدميها، وطارت إلى الإسكندرية، تحتضن عواطفها الجريحة التى رحلت. قدر الفنان أن يتعذب، لكنه لا يستطيع إلا أن يستمر. واضطرت مديحة أن تعود إلى القاهرة لتقوم بطولة فيلم أذكياء ولكن أغبياء. ولم تستطع برغم حزنها أن تظل فى الإسكندرية ، فوجودها هناك يعطلها من جهة، ويعطل كل العمل حولها من جهة أخرى، وابتلعت مديحة دموعها واستمرت فى العمل.

وقد كشف حوارها مع الكاتب الصحفى سيد فرغلى بعنوان: «لم يعد عندى الطموح الكبير!» عن تأثير وفاة شقيقها عليها: 

«منذ أسابيع قليلة مديحة كامل تعيش معاناة شديدة، حيث اختفت من  وجهها الابتسامة المرحة، انطفأت من عينيها ومضات الأمل، وأصبحت اللامبالاة شعارها، لا تحزن على شيء، لا تلهث وراء شيء، أصبح الأمل سرابًا لا يستحق مجرد التفكير فيه. إن وراء الحالة التى تمر بها مديحة كامل أزمة شديدة تعرضت لها منذ شهرين. 

ولنبدأ الحكاية من البداية وعلى لسان مديحة: 

الإنسان فى فترة معينة من حياته يعيش بلا متاعب جسيمة يتعرض لمشاكل أو عثرات وبعض المسئوليات فيتحملها، ويحاول بكل ما يملك من قوة أن يشق طريقه وحياته ويكافح، لأن هناك طموحًا لتحقيق آماله لكن فجأة يعجز الإنسان أمام شيء واحد، وتتغير فيه أشياء كثيرة عندما يفقد عزيزًا. الإنسان دائمًا ينسى الموت، ويظل بعيدًا عنه حتى يصاب بفقد غالٍ ساعتها يفيق من غفوته، وتتغير فى داخله أشياء كثيرة. بالنسبة لى مثلا هنا لا أمتدح نفسى لكن أنا إنسانة غير سيئة، وأعمل الخير على قد ما أقدر. لا أتسبب فى إيذاء أحد فى حياتى، وكان ذهنى بعيدًا عن الموت حين أجد سيرته أمامى كنت أخاف من المجهول.

وتواصل مديحة: النهاردة أنا شايفة أنى كنت على خطأ يجب على الإنسان ألا يغفل عن ذكر ربه فى كل وقت ويشكره على نعمه، ويتقرب إليه بالحب، وأعظم لحظات الحب هى ساعة اللقاء، لا يحاول التفكير فى أى شيء آخر، وينسى كلمة «بعد الشر» عندما تجيء كلمة موت،  وقد تغيرت من قاموس حياتى كلمات كثيرة. لم أعد أحدد موعدًا مؤجلا، لم أعد أعلق آمالا على المدى البعيد. 

وتستدرك مديحة قائلة: 

لكن ليس معنى هذا أنى أضع يدى على خدى، المفروض إنى باشتغل، لى رسالة نحو ابنتى سوف أكملها لكن حقيقى من جوايا لم يعد عندى طموح كبير، اللهاث وراء أى شيء للحصول عليه.

إن الانسان لازم يعيش ويتمتع بكل فى الدنيا فى ظل المسموح، ولا يفكر فى امتلاك أو اكتناز أى شيء، ودلوقت فعلا قدرت أعرف معنى كلمة الرضا بما يقسمه الله لي، والرضا بفضائله وأصبحت أنظر للمشكلة الأولية وهى التسيير والتخيير تأكد لى بالقطع أن الإنسان مسير على طول الخط إن كان هناك تخيير فإنه مخير فيما هو مسير فيه.

-معنى كده أنك تعيشين الآن لحظات يأس، وقد تدفعك إلى الابتعاد عن العمل ما دام لم يعد هناك طموح؟

فعلا لم يعد هناك طموح لكننى لا أستطيع الابتعاد عن العمل، مفيش أى حاجة هتبعدنى عن عملى، لأنه واجب وقدر لم أختره ثم إنه أولا واخيرًا مصدر رزقى، وعندى بنت أربيها، وأنا محتاجة أن آكل وأشرب، وليس لى مطمع أكثر من هذا.

وعلق الأستاذ سيد  فرغلي قائلا:

-كثيرًا ما تنساب إلى الإنسان مثل هذه الأفكار عندما يمر بأزمة كبيرة، والآلام دائمًا تولد كبيرة ثم تصغر، عندئذ ستتغير كل هذه الآراء والأفكار وستعودين إلى طموحك من جديد.

أنا معك أن الآلام تولد كبيرة ثم تصغر، ولكن جميع أنواع الآلام في كفة، وألم الفراق لعزيز غالٍ فى كفة أخرى ليه؟ لأن أنا دلوقت لو كنت زوجة سعيدة وطلقت دى مشكلة حدث فظيع فى الأسرة لكن المرأة المطلقة تتزوج من جديد وتنتهى المشكلة، لو فشلت فى عملى قد أتعذب ولا أنام لكن عمل آخر جيد ينهى المشكلة، لو مفلسة وليس معى نقود قد تكون مصيبة لكنها تنتهى وتتحل لما ربنا يفرجها،  وقس على ذلك أى نوع آخر من أنواع الآلام لكن أن تفارق غاليًا هذا هو العذاب، ذلك هو الألم الذى لا يفارقك أبدًا مهما طال الزمن. 

وتستطرد مديحة بسؤال طرحته عليها صديقة عزيزة قالت لى: حادثة وفاة شقيقك هل قربتك من ربنا ولا أبعدتك؟

الدنيا بتلهى الإنسان عن أشياء كثيرة حتى عن الاهتمام بصحته ولكن بعد فاجعتى الأخيرة أصبحت فى دوامة العمل والأصدقاء وأثناء ممارسة حياتى العادية لا أرى أمامى إلا الله!

وظهر شبح الموت لمديحة مرة أخرى فى مصرع عازف الجيتار عمر خورشيد، فقد  تعرض لحادث سيارة مروع فى نهاية شارع الهرم بجانب مينا هاوس وأمام مطعم خريستو بعد انتهائه من عمله فى أحد الفنادق الكبرى، حيث كانت بصحبته زوجته اللبنانية دينا، ومديحة كامل. وهذا الحادث صعد كل آلام الفقد والحزن السابقة على شقيقها الأصغر إلى السطح بل أضاف إليها آلامًا جديدة.

وتحكى مديحة في إحدى حواراتها عن موت خورشيد ويظهر في حكيها الإيمان والألم العميق المتغلغل في النفس: 

«الموت قدر لا ريب «وكل نفس ذائقة الموت» قناعة لا تشوبها شائبة ولكن الموت اقترن معى بصدمات نفسية رهيبة للغاية قلبت حياتى رأسًا على عقب، وغيرت مفاهيمى تمامًا عن الحياة.

اختطف الموت أخى وتوفى بعيدًا عنى، ولم أشهد لحظات موته، ولم أشهد دورته الأخيرة فى الحياة ولا لحظات الفراق. بالعكس عندما وصلت الإسكندرية موطن رأسى كان كل شيء قد انتهى. كشف بالصدفة إحساسى بالموت أكثر مما بداخلى، وأصبحت أقشعر من هذه الكلمة، وأشعر أن عمرى قصير، وأن حياتى قد تتوقف بين لحظة ولحظة، ولكن موت عازف الجيتار الفنان عمر خورشيد أمام عينى وفقد أغلى أصدقائى فى الوجود أحدث انقلابًا كبيرًا فى حياتى!

جمعتنى بزملائى فى العمل صدقات حميمية قد تؤدى إلى إشاعات فى الوسط الفنى مما قد يتسبب في قطع شرايين هذه الصداقات ولكن صداقتى  بعمر خورشيد امتدت لأكثر من 13 عامًا رغم كم ونوع الشائعات التى تعرضنا لها معًا.

وكنت قد تعرفت عليه قبل زواجه من الفنانة ميرفت أمين وعملت معه فى فيلم «التلاقى» للمخرج صبحى شفيق، واستمر تصويره عامًا كاملا كان خلالها نعم الصديق ثم عملنا معًا فيلم «العرافة» مع المخرج عاطف سالم، ثم تباعدنا فترة بعد سفره إلى لبنان حيث عمل هناك وتعرف على زوجته الجديدة دينا.  وجمع ثلاثتنا فكر وقلب واحد وصداقة مشتركة، ولم نبتعد رغم كل الأقاويل والإشاعات وعندمت بدأت تجربة إنتاج فيلم «امرأة قتلها الحب» تولى عمر خورشيد وضع الموسيقى التصويرية، وكانت من عناصر نجاح الفيلم فقد كان يرحمه الله شديد الحساسية  بالمواقف الدرامية، وكان إنسانًا مبتسمًا ساخرًا محبًّا للناس وصديقًا للجميع.

كنت خزانة أسراره وكان هو فى تعامله معى يقوم بنفس الدور، نعم كنت الصديقة المقربة إليه وبين حين وآخر يفضى إليّ بأدق خصوصياته، والتى كان يفضل أن يكتمها بينه وبين نفسه، وكثيرًا ما كانت تجمعنا فى بيته سهرات لمشاهدة أفلام الفيديو، وكان يتفكه ساخرًا: سأدفنكم وسأعيش حتى مائة سنة ثم تعلو وجهه فجأة سحابة حزن غريبة لن أنساها ما حييت.

فى إحدى الأمسيات كنا نقضى سهرتنا بمنزل أحد أصدقائنا بالزمالك عندما اتصل به صديقه سعيد المطوع الشاهد الأول فى الحادث، وطلب انتظاره لتكملة السهرة معه فى فندق مينا هاوس، وغادرنا المنزل وركبت سيارة سعيد المطوع بينما دينا بصحبة زوجها وفى شارع الهرم تعرض لنا الطالب السعودى أحمد فهد عبد الرحمن الشامخ، وبدأ فى ملاحقة السيارتين مما أثار غضب عمر خورشيد، وأصر على مطاردته طوال شارع الهرم.

انتابنى قلق شديد ودق قلبى بشدة، واستيقظت فى داخلى مشاعر الخوف والرهبة، وشعرت بقرب وقوع كارثة، وتصطدم السيارة بعمود النور.

وصارت ليلة 28 مايو كابوسًا يطاردنى أثناء الليل وأثناء النهار، وانهارت أعصابى تمامًا، وما أفجعنى أن يحفظ التحقيق فى القضية باعتبار أن الطالب المتهم لم تكن له أى علاقة بالمجنى عليه.

لفد اختطف الموت عمر خورشيد وهو فى ريعان شبابه، وافتقدنا موسيقيًّا فى مجد تألقه. منذ تلك الليلة وحتى اليوم فقدت الطمأنينة والاستقرار وبات الخوف نديمًا ورفيقًا يلازمنى لحظة بلحظة. وتأكد بداخلى أنه بقدر نجاحى يزداد خوفى ويتراكم بداخلى قلق أكبر، كل إنسان يحقق نجاحًا غالبًا، ولا أريد أن أصل إلى مرحلة النجاح المبهر، ولذلك قررت الاعتزال لأننى أخشى الموت. 

بعد فترة من الاعتزال والهم والإحباط والخوف من هجمة الموت تسللت إلى سمعى فجأة تلاوة لآية من ذكر الحكيم فى الراديو. استوقفتنى كلمات الله سبحانه وتعالى «يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة» يومها تغيرت نظرتى للموت، وإننى بأحب أستمتع بالحياة وبالعمل والصداقة كأننى أعيش أبدًا، وأن أعمل لآخرتى كأننى أموت غدًا. 

اقتنيت تسجيلات المصحف المرتل للشيخ مصطفى إسماعيل، وكنت أرتاح لسماع صوته وهو يتلو كتاب الله وبدأت أعرف طريقى فى فتح المصحف وقراءة القرآن، واقتربت أكثر من مغزى الحياة ولغز الموت، وأن حياة الإنسان ممتدة حتى بعد رحيله بقدر ما يقدمه للآخرين من مساعدة وعون ومودة.

لم أعد أخشى الموت ولا الزمن أصبحت قدرية، ومن واجبى أن أستمتع بالحياة، وأتقن عملي لأن إرادة الله غالبة ولا راد لقضائه مهما حاولنا ومهما كابرنا.