عاجل

فى السويس.. رجال يحبون الأرض

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كتب: هانئ مباشر

من قلب مدينة السويس، ووسط الأنقاض والبيوت المتهاوية، وتحت هدير المدافع، وفى مواجهة العدو الإسرائيلى الذى رفع أعلامه على ضفة سيناء الحبيبة، ووسط ظروف هزيمة ١٩٦٧ المريرة، انطلق هذا الصوت قوياً هادراً كالطوفان.. كبراكين الغضب يتحدى العدو ويرفض الهزيمة، ويناجى سيناء ويغنى لمصر.. لترابها.. وقنالها.. ولرجالها.. مبدداً ذلك الصمت الحزين الكئيب الذى كان يخيم على كل مدن القناة عامة وبشكل أكثر وجعا على السويس، ومبشراً بيوم النصر القريب..
صوت أولاد الأرض أبناء السويس، الذين رفضوا أن يتركوا مدينتهم، وظلوا فيها  يساعدون الجرحى ويحفرون الخنادق ويزيلون الأنقاض، ويحملون المؤن والذخيرة والسلاح، ويغنون على أنغام السمسمية.

رجال السويس يحملون السلاح ويغنون على السمسمية

السويس شهدت الكثير من البطولات

حتى السيدات شاركن فى المقاومة

١٤ يونيو عام ١٩٦٧: البيوت مهدمة.. والشوارع فارغة.. مهجورة.. والمدينة كلها غارقة فى الصمت والأحزان، ومعظم الأهالى رحلوا إلى المدن الأخرى البعيدة عن خط النار.. إلى الزقازيق والمنصورة وبنها وطنطا والقاهرة وبنى سويف.

وفى مواجهة السويس وبورتوفيق ارتفع العلم الإسرائيلي، وظهر الجنود الإسرائيليون وهم يرقصون ويوجهون ألفاظا بذيئة مغرورة ساخرة لكل من يشاهدونه على الجانب الآخر، صحيح الألم يعتصر قلب الرجال الذين قرروا البقاء، وينعكس ذلك فى عيونهم، لكنهم أبدا لا يبكون ولا يهربون، ويظلون فى السويس يواصلون عملهم فى حفر الخنادق، وكل أسبوعين يقومون بزيارات خاطفة لأسرهم ممن رحلوا، ويحصل كل واحد فيهم على بندقية، ويتجمعون داخل مواقعهم يرصدون حركة العدو الإسرائيلي.
فى تلك اللحظات الكئيبة، ووسط مشاعر الهزيمة والإحباط والانكسار، ومن بين أطلال الموت وركام الأحزان، ترتفع أصوات أولاد الأرض: «الحق دروبه واعرة.. لأولاده ماهواش صعب، يموت علشان ضحكته تتحنى بيها الأرض»..

أصوات فيها حزن عميق لكن فيها أيضا إصرار وتحدٍ.. فيها أمل، تخرج من أعماق السويس، وتتردد أصداء تلك الأصوات من خنادق بور توفيق لتصل إلى كل قرى ومدن مصر ليشتد صمود «المواطن المصري» من جديد بل وأقوى رغم الهزيمة وكل المحن.

كان هذا الصمود يثير جنون الإسرائيليين فيضربون السويس بشكل أشد مما قبل على الرغم من أنه لم يتبق بها سوى مجموعة من المدنيين، ويندهش الإسرائيليون أكثر لهذه الأصوات القوية التى تصاعدت فجأة من وسط بيوت وشوارع ومخابئ السويس، وبددت صمتها الحزين الطويل، فقد ظنوا أن الحياة فيها قد ذبلت وماتت إلى الأبد، اتجهوا إلى مدافعهم، وبدأوا يطلقون قذائفهم نحو السويس وبورتوفيق بشراسة ووحشية وبغضب مجنون..

يسقط واحد.. وعشرة.. ومئة من أبناء الأرض لكن صوت ويد الباقين لا يتلاشى ولا يتوقف ولا تنعكس فيه أى ارتعاشة خوف أو تردد أو تخاذل، ويصبح الصوت قويا هادرا.. تماما مثل المدافع.

رجال المقاومة الشعبية يقومون بعملية أسر أول ضابط إسرائيلى حاولت قواته رفع العلم الصهيونى على إحدى الشمندورات بمنتصف القناة عند منطقة «الميركاب» يوم ١٤ يونيو عام ١٩٦٧، ثم يتم تشكيل هياكل منظمة سيناء العربية عام ١٩٦٨ لتضم كل الفدائيين وتوحدهم تحت قيادة واحدة، وتنفذ العمليات الفدائية الكبرى ضد مواقع العدو فى جنوب البحيرات المرة غرب القناة وخلف خطوط العدو فى شرم الشيخ بجنوب سيناء.

- ٥ نوفمبر عام ١٩٦٩:
بدأت حرب الاستنزاف، وامتلأت المدينة بالجنود، والعربات، والمدافع، وتضاعف حماس كل الرجال وأصبحوا أشد قوة وإصرارا، مع طلقات المدافع المصرية التى بدأت تطال مواقع العدو فى سيناء، ومرة أخرى يعلو الصوت: «الحرب الحرب يا شعب وجيش..حل واحد غيره مافيش»!

وبدأ كل الرجال «أهل البلد وفدائيو المدن الأخرى والجنود جيش وشرطة» يتنقلون من موقع إلى موقع فى بور توفيق والسويس يغنون لمصر وهم يحملون المؤن والعتاد ويقاتلون، علاقات إنسانية رائعة ولدت وتوثقت فى مواجهة الموت وتحت هدير المدافع ووسط انفجارات القنابل.. علاقات الرجال فى وقت المحن، لقد جمعهم نفس الهدف وهو الدفاع عن مصر وعن الأرض، وكلهم جميعا أبناء لهذه الأرض.

رجال منظمة سيناء العربية يشاركون القوات المسلحة المصرية قتال العدو الإسرائيلي، ورجال وشباب يجتازون الاختبارات والتدريبات القاسية ليشاركوا فى العمليات الفدائية التى كانت تنفذ ضد القوات الإسرائيلية فى شرق القناة على أرض سيناء ومن بينها «عملية وضح النهار» التى تمت يوم ٥ نوفمبر عام ١٩٦٩ والتى تم فيها تدمير العديد من آليات العدو الميكانيكية وأسر أحد الجنود والعودة به إلى البر الغربي.

حتى الستات كانت الواحدة فيهن بألف رجل، وكنَّ كتفا بكتف مع الرجال فهذه السيدة كريمة محمد ياسين محمد التى رفضت ترك السويس وفضلت البقاء بالمستشفى من أجل تضميد جراج المصابين الذين كانوا يسقطون يوميا نتيجة الغارات الإسرائيلية وتزوجت من البطل صبحى عبدالمجيد عبدالفتاح أحد رجال المقاومة الشعبية وعاشت بجواره تؤدى دورها الإنساني، وينطلق الصوت هذه المرة من وسط الجنود المقاتلين الصامدين: «ملعون أى صوت يعلى فوق صوت المعركة».

- ٦ أكتوبر عام ١٩٧٣:
أصوات مصرية ترتفع فى الضفة الشرقية مهللة مكبرة «الله أكبر.. الله أكبر»، لقد عبر جنودنا قناة السويس، واجتاحوا خط بارليف، ورفعوا العلم المصرى مرة أخرى فوق رمال سيناء، واختفت الأصوات العابثة تماما، تلاشت الأصوات الإسرائيلية الساخرة المغرورة، وتحولت الصيحات المتغطرسة المتعالية إلى صرخات مذعورة، وهم يركعون تحت أقدام جنودنا الزاحفين ومن خلفهم الفدائيون المغاوير..

- 22 أكتوبر1973:
يحاول العدو اقتحام مدينة السويس، لإحداث الثغرة وكسر الانتصار المصرى ولكن كان فى انتظاره ملحمة صنعتها قوات مصر من الجيش والشرطة والشعب والكفاح المشترك لرده على أعقابه، حين خرق اتفاقية إطلاق النار وتكررت محاولاته حتى وصل لمشارف المدينة وأحاط بها.

وتبدأ المدينة الباسلة تنظم دفاعاتها بحسب الخطة الدفاعية بدعمها بمجموعة من صائدى الدبابات التابعين للفرقة ١٩ مشاة بأمر من العميد يوسف عفيفى قائد الفرقة الذين تسللوا للسويس محملين بعدد من صواريخ الآر پى چى المضادة للدروع تحسبا لاحتمال قيام الإسرائيليين باقتحام المدينة، وانضم إليهم عدد من جنود الإمداد والتموين وعناصر الدفاع المدني، ومتطوعون من أهالى السويس الذين يجيدون استخدام الأسلحة، ومن القاهرة يصل إليهم صوت الرئيس السادات عبر الأثير للسويس: (لا تسليم.. القتال حتى آخر رجل.... الله معكم).

- 23 أكتوبر 1973:
يتصل الجنرال شموئل جونين قائد الجبهة الجنوبية بالچنرال إيهود آدام قائد قوات العبور المضاد».. ويسأله فيه إن كان يستطيع احتلال السويس، فكان رد «آدام» أن الأمر متوقف على حجم ومدى مقاومة المصريين، فقال له «جونين» جملة واحدة هي: «لو كانت بير السبع اهجم ولو كانت ستالينجراد فلا تهجم».

فى إشارة لسهولة استيلاء قوات الهاجاناه على بير السبع فى حرب ١٩٤٨ مقابل صمود مدينة ستالينجراد الأسطورى أمام الألمان فى ١٩٤٣، وعلى ذلك قرر آدام اقتحام السويس بقوة لواء مدرع «حوالى ٨٠ دبابة» تحت قيادة كولونيل كيرين وكتيبة من المظليين مع وضع غطاء نيران مدفعى وجوى لقوات الغزو تحت أهبة الاستعداد.

فى نفس الوقت يعقد ضباط الشرطة اجتماعا بمبنى قسم شرطة الأربعين، لمناقشة وسائل التصدى إذا ما حاول العدو اقتحام المدينة بالدبابات، واقترح وقتها أحد ضباط قسم الأربعين أن يذوب رجال الشرطة بين أفراد الشعب مشاركين إياهم المقاومة الشعبية، ثم حث الجميع على التبرع بدمائهم والعمل على جمع القادرين على حمل السلاح وأقسم الجميع على الفداء.
بعد منتصف الليل وفى غمرة انشغال «السيدة كريمة» فى عملها فى تمريض الجرحى فى مستشفى السويس تسقط من شدة التعب حيث جاءها المخاض فقد كانت حاملا فى شهرها الأخير، ليخرج إلى النور مع آذان الفجر وليدها محمد أول طفل يولد بالمدينة فى شهر أكتوبر.

- ٢٤ أكتوبر ١٩٧٣:
فى الساعة السادسة والربع من صباح اليوم بدأت طائرات العدو فى قصف السويس بكثافة لإرهاب كل من بها وتمهيدا لاقتحامهم المدينة واتجه العديد من المواطنين إلى مسجد الشهداء يلوذون ببيت الله، فما كان من نقيب شرطة حسن أسامة إلا أن دخل المسجد واعتلى المنبر، ليشيد بأهل السويس، ويخاطبهم بحماس ويحثهم ويدعوهم إلى المزيد من العطاء فتسابق الجميع بالخروج حاملين أسلحتهم متوجهين إلى منافذ المدينة للمشاركة فى القتال، أما من لم يكن يحمل سلاحا فقد شارك فى إطفاء الحرائق.
بدأ اللواء المدرع الإسرائيلى فى اقتحام السويس فى الساعة الحادية عشرة صباحا بطابور من الدبابات امتد لمسافة ٢ كيلومتر على الطريق الرئيسى لمدينة السويس بمحاذاة شريط السكة الحديد «وهو امتداد لطريق القاهرة السويس حتى مسجد سيدى الغريب فى قلب المدينة».

اتجهت جماعات المقاومة إلى هناك حيث التقت مع مجموعة المستشفى واعتلى المئات من جنود القوات المسلحة والشرطة وأفراد الشعب مبانى الحى شرقى وغربى شريط السكة الحديد استعداداً لمواجهة الدبابات المعادية وكانت حوالى 30 دبابة تتقدم نحو المدينة حتى وصلت إلى ميدان الأربعين فى حوالى الساعة 12 ظهراً.

وبدا للدروع المهاجمة أنه لا توجد أى مقاومة فوقف قادة الدبابات من أبراج الدبابات المفتوحة فيما بدا وكأنه عرض عسكرى أكثر منه طابور غزو، فقام أحد عناصر المقاومة ويدعى محمود عواد بإطلاق قذيفة آر پى چى على دبابة القيادة فانفجر البرج وسقط مدفع الدبابة، على حين قام آخر ويدعى محمد سرحان وكان يختبئ فى حفرة بإطلاق قذيفة مماثلة على الدبابة الرابعة فى الطابور فاشتعلت فيها النيران، مما أعاق الطريق على المتقدمين واضطرت باقى الدبابات إلى الانحراف عن مسارها.

وعلى الفور ظهر صائدو الدبابات من الشوارع الجانبية براجمات الصواريخ المحمولة كتفاً يتبعهم عدد كبير من الأفراد المدنيين بالأسلحة الخفيفة وقاموا بإطلاق النار بكثافة على الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يقفزون من الدبابات المحترقة، وعلى أثر ذلك قام الكولونيل كيرين باستدعاء المظليين الإسرائيليين الذين دخلوا المدينة من نفس الطريق على ناقلات جنود ضخمة فانهمرت القذائف وزخات الرصاص عليهم من اتجاهات متعددة، فما كان من قائد المظليين ومن تبقى من جنوده إلا محاولة دخول سينما رويال للاختباء بها ففاجأتهم مجموعة من جنود الفرقة ١٩ مشاة وأحدثت إصابات كبيرة فيهم.

فقام الإسرائيليون باقتحام قسم شرطة الأربعين واحتلوا الدور الثانى بعد مقاومة عنيفة من رجال الشرطة قُتل فيها ٨ من عناصر الشرطة، وقام المصريون بحصار مبنى القسم وأمطروه بوابل من النيران وقنابل المولوتوف، فقام الإسرائيليون بالإفراج عن ضابط شرطة و طلبوا منه أن يتوسط مع المصريين.

وهنا تباينت الآراء إلى أن اتفق الرائد نبيل شرف نائب مأمور قسم السويس والنقيب عاصم حمودة على اقتحام القسم، وتولى الثانى قيادة محاولة الاقتحام واضطلع الأول بمهمة التغطية وبدأت المعركة فاستشهد فيها الرائد نبيل شرف متأثرا بإصابته، وراح النقيب عاصم حمودة يطالب أفراد مجموعته بالثأر للشهيد متقدما نحو هدفه، ولكن الضابط أصيب برصاصة فى فخذه واستشهد الرجال الأربعة المرافقون له.

بعد حلول الظلام قامت المدفعية الإسرائيلية بقصف محيط القسم لتشتيت المصريين حتى يتمكن الإسرائيليون من الخروج، وبالفعل خرج من تبقى من قوات الغزو عن طريق التسلل شمالًا بمحاذاة خليج السويس تحت قصف مدفعى كثيف بعد أن تكبدوا خسائر بلغت ٨٢ قتيلا و ١٢٠ جريحا و٤١ دبابة وعربة مدرعة و ٧ ناقلات جنود وعربات نصف جنزير، وتم أسر 68 ضابطا منهم قائد القوة الغاشمة للعدو وعشرات الجنود، وقبل شروق شمس اليوم التالى كانت السويس قد أصبحت «ستالينجراد»، واستمرت المقاومة لكل محاولات الاقتحام حتى يوم 29 أكتوبر، حين وصلت قوات الأمم المتحدة.

الرئيس السادات مع اللواء أحمد بدوى

- يوم 13 ديسمبر 1973:
جرى الحوار التالى فى مجلس الشعب بين الرئيس أنور السادات واللواء أحمد بدوى قائد الفرقة السابعة مشاة ميكانيكى بالجيش الثالث، والذى حاصرته إسرائيل خلال الثغرة وأعلن الرئيس السادات ترقيته وتعيينه قائدًا للجيش الثالث الميدانى وسط ساحة القتال..

- الرئيس السادات: تبلغت إليك الأوامر بالصمود وادعى العدو أنه احتل السويس.. هل احتلت السويس؟
اللواء أحمد بدوي: لم يتمكن العدو من احتلال السويس ودمرت جميع دباباته التى حاولت دخول السويس، وتمسكنا بالسويس وظلت صامدة ولم ينل منها العدو أبدا.

- الرئيس السادات: كانت قوات بدر تحت قيادتك حوالى 50 ألفا بأسلحتها ومعداتها.. هل حافظت على المعدات والأسلحة؟
اللواء أحمد بدوي: حافظت على جميع معداتى وأسلحتى وقاتلت العدو ورديت على جميع اشتباكاته بعنف وطورت الهجوم وعدلت مواقعى وكسبت أراضى جديدة.

- الرئيس السادات: فى لحظة من اللحظات حين تصور العدو أنه قد حاصركم وقطع عنكم الإمداد أصدرت أوامرى إلى القائد العام بأن تبقوا فى أماكنكم حتى ولو فنيت.. هل حافظت على أبنائى الجنود والضباط؟
اللواء أحمد بدوي: حافظت على الجنود والضباط وصمدنا ولم يستطع أن ينال منا العدو وكان فى جميع اشتباكاته ومحاولاته هو الخاسر وكان يخسر أكثر مما خسرنا ونتيجة لهذا لم يجرؤ العدو على أن يقوم باقتحام مواقعنا بعد أن كبدناه خسائر جسيمة.

- وتعود الحياة إلى السويس وبورتوفيق.. إلى الشوارع والبيوت ومعامل التكرير.. عادت أصوات وأيادى أولاد الأرض لتغنى وتعمر من جديد.