يوميات الاخبار

ملامح مصرية في السيرة النبوية

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

أول ما نبدى القول نصلى ع النبى، نبى عربى، صلوا عليه وسلموا  تسليماَ.

الرَّحِم
نحن الآن فى مصر القديمة. ها هو رجل غريب الهيئة يأتى إلى أرض الكنانة ومعه زوجته، هذا الغريب هو نبى الله إبراهيم عليه السلام، أما زوجته فهى السيدة سارة. قابل إبراهيم وزوجته فرعون البلاد، وبعد مواقف عديدة بينهم، سأل فرعون سارة:
- من يخدمك يا امرأة؟
- لا أحد. فأنا وزوجى شيخان، ولا ولد لنا، وأنا أخدم بقدر ما أستطيع.
- قد أمرنا لك بجارية لخدمتك.
وصفق فرعون فدخل الحاجب، انحنى باحترام، فأمره الفرعون بإحضار الفتاة التى تسمى «هاجر». لم يلبث الحاجب أن أحضرها. وها هو فرعون يقول لسارة:
- هذه هديتك يا سارة، أحسنى إليها فهى من بنات الأصول، وستقوم على خدمتكما فى شيخوختكما.
- شكراً لك يا مليك البلاد. شكراً لك.
أما إبراهيم عليه السلام فقد بهت حين رأى الفتاة. يا إلهي، كم هى جميلة! وحين أفاق انحنى للفرعون شاكراً ومضى هو وزجته والجارية الشابة الجميلة.
كانت هاجر من قرية تسمى «أم دُنَين» بالقرب من بور سعيد الحالية. وها هى تشد الرحال مع نبى الله وزوجته عائدين لموطنهما.
اضطرمت مشاعر متناقضة فى نفس سارة، هذه البنت جميلة، والمصريات لهن سحرهن، هل تغار منها، من شبابها، من رقتها؟ أم تفرح لأنه صار لديها من تخدمها؟ كانت الأنثى فى نفس سارة تدفعها للغيرة، بل كانت تتمنى لو أن هذه البنت لم تُهدَ إليها، لكن المرأة العجوز التى تحتاج للخدمة كانت تشعر بالسعادة لأن الله رزقها بهاجر لتساعدها وتحمل عنها عبء الخدمة.
سارة الآن قد تجاوزت السبعين، شيخة مسنة، عاقر، لا يرجى منها حمل أو ولادة. ترى هل يمكن أن يتطلع زوجها لهذه البنت المصرية الشابة ليأتى منها بالولد؟ المصريات كلهن خصوبة، هل يمكن أن يداخله الحلم ذات يوم للإنجاب منها؟
إن سارة تشعر بأنها كانت أنانية، لأنها حرمت زوجها من الولد كل هذه السنين، أحياناً كانت تفكر فى أن تأتى له بعروس وتزوجه بنفسها حتى ينجب الولد الذى يحلم به، لكن الغيرة والحب كانا يمنعانها. رباه، لقد فتحت هذه البنت على سارة أبواباً كانت قد قاربت على نسيانها. لماذا جئت أيتها المصرية؟ لماذا؟
بعد أن استقرت سارة وزوجها فى بلدهما، بدأت تفكر فى الأمر بجدية، لماذا لا تهب هاجر لزوجها لينجب منها الولد؟ عانت كثيراً من التفكير، لكنها أخيراً غصبت على نفسها، واتخذت القرار الصعب. وها هى تذهب إلى زوجها، وتهبه الجارية المصرية.
الهجرة إلى مكة
حملت هاجر، وضعت. جاءت بولد ذكر جميل الصورة. فرحت به سارة. رغم أنها كانت تشعر بالغيرة من أمه. يقول بعض المؤرخين إن سارة حين أكلتها الغيرة أمرت إبراهيم أن يأخذ هاجر وولدها ويذهب بهما بعيداً عنها، فأخذهما عليه السلام إلى مكة، لكن القرآن الكريم يصحح هذا الكلام، فقد كان الذهاب إلى مكة بناء على أمر إلهي. ففى الحديث النبوى الوارد فى صحيح البخارى أن هاجر حين ذهب بها زوجها إلى مكة سألته: آلله أمرك بهذا؟
قال: نعم.
 قالت: إذن لا يضيعنا.
وفى رأيى أن هذه الهجرة كانت لأسباب أرادها الله.
أول هذه الأسباب: عمران مكة، فبعد تفجر زمزم، جاءت قبيلة «جُرهُم»، واستأذنت هاجر فى أن تستقر بجوارها، فأذنت لهم، ومن هنا بدأ عمران مكة.
السبب الثانى نكتشفه حين نتأمل قوله تعالى فى سورة البقرة:
«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128)».
وقوله: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125)».
وقوله فى سورة الحج:
 «وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)».
فى هذه الآيات نرى حكمته سبحانه برفع القواعد من البيت، وفى تشريع الحج، وفى تشريع أن يكون البيت الحرام أمانا لكل من يدخله، وأن يصلى الناس عند مقام إبراهيم.
ويمكن أن نضيف لهذه الأسباب سبباً آخر، هو: السعى بين الصفا والمروة، فلولا سعى هاجر بينهما، ما كانت هذه الشعيرة من شعائر الحج لتوجد وتبقى حتى الآن.
الذبيح
إسماعيل هذا جاءه والده ذات يوم وقال له: يا بنى إنى رأيت فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى؟
 فقال إسماعيل دون تردد: «يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)».
«فَلَمَّا أَسلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ (103)  وَنادَينهُ أَن يَاإِبرَاهِيمُ (104) قَد صَدَّقتَ الرُّءيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِى المُحسِنِينَ (105) إِنَّ هذَا لَهُوَ البَلؤُاْ المُبِينُ (106) وَفَدَينَاهُ بِذِبحٍ عَظِيم(107)».
من هنا سمى إسماعيل «الذبيح»، وفى ضوء هذا نقول إن النبى صلى الله عليه وسلم كان «ابن الذبيحين» فإسماعيل هو الذبيح الأول، أما الذبيح الثاتى فهو عبد الله والد النبى المباشر.
النبى إذن ينتسب لهاجر المصرية وابنها إسماعيل. وهذا هو الملمح المصرى الأول فى السيرة النبوية.
الذمة
فى العام السادس للهجرة أرسل النبى صلى الله عليه وسلم رسله لكبار حكام الدنيا يدعوهم للإسلام، لذا يسمى هذا العام «عام البعوث». وكان رسولة للمقوقس حاكم مصر يسمى حاطب بن أبى بَلْتَعَة. ها هو حاطب يقف فى حضرة المقوقس ومعه رسالة رسول الله. جاء المقوقس بالمترجم، فقرأ له الرسالة:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. من محمد رسول الله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى؛ أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، فاسلم تسلم ويؤتك الله أجرك مرتين.
« قُل ياَأَهلَ لكِتَابِ تَعَالَواْ إِلَى كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا للَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِ شَي‍ا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ للَّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ شهَدُواْ بِأَنَّا مُسلِمُونَ(64)».(سورة آل عمران).
استقبل المقوقس الرسول والكتاب استقبالاً حسناً، لم يمزق الكتاب مثلما فعل غيره، بل ناقش الرجل مناقشة هادئة استوضح فيها عن بعض الأشياء حول النبى والدين الجديد. وأحسن استضافته، ثم استدعاه بعد أن استراح من عناء السفر:
- يا سيد حاطب، تفضل، هذه رسالة منا إلى نبيك، وسنرسل معك بعض الهدايا، ونرجو الرب أن يحفظك فى رحلة العودة.
- شكراً يا حضرة المقوقس.
كان نص الرسالة يقول:
«لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط.
سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي؛ وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان عظيم فى القبط، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام».
ومن المؤكد أنه لم يذكر كل الهدايا، فقد أرسل مع الجاريتين عبداً يسمى مأبور، ويقال إنه أرسل عسلاً من بنها.
ما يهمنا فى هذا هو أمر الجاريتين. أما الجاريتان فهما:
- مارية
- سيرين (أختها)
أعجبت مارية النبى صلى الله عليه وسلم، فاصطفاها لنفسه. أما أختها سيرين فقد أهداها لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت. أحب النبى جاريته حباً جماً، وأخذ لها سكناً وحدها بعيداً عن بقية الزوجات. وكان لا يكاد يفارقها، حتى غارت منها عائشة رضى الله عنها، وهى أحب زوجات النبى وقالت: «ما غِرْت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة، جعدة (الشعر الأجعد  هو الشعر الذى به ثنيات»، وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم»..
وسرعان ما أثمر الحب طفلاً، وكان كل أولاد النبى من الذكور قد رحلوا عن الدنيا مبكرين، لذلك كانت فرحته بولده بلا حدود. ويقول الحديث الشريف إن الذى سماه هو الله، إذ أرسل جبريل لنبيه بالتسمية. المهم أن إبراهيم صار فرحة أبيه وقرة عينه.
بسبب مارية وضعت قاعدة ذهبية فى الإسلام للجوارى، فحين وضعت رضى الله عنها قال النبي: «أعتقها ولدها»، فصارت قاعدة: «أيما أمة وضعت من سيدها فإنها حرة إذا مات، إلا أن يعتقها قبل موته».
لكن المرض عاجَلَ الطفل، وكانت مارية تبكى بكاءً مُراً على ولدها، وجاءت سيرين لتقف بجوارها فى محنتها، وشاركتها الدموع على الطفل الجميل، لكن ملك الموت لم يلبث أن قبضه، فبكى الرسول لوفاته، وقال كلمات تقطر حزناً: «إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وصعدت روح النبى المحزون إلى بارئها بعد وفاة إبراهيم بفترة وجيزة، لكن مارية عاشت حتى السنة السادسة عشرة للهجرة. وماتت فى خلافة عمر بن الخطاب، فصلى عليها بنفسه، وحشد الناس للصلاة عليها، ودفنت بالبقيع. وقد أعفى معاوية قريتها (قرية حفن بالقرب من أنصنا بمحافظة المنيا الحالية) من الجزية تكريماً لها. وأوصى النبى بأهل مصر إكراماً لها: «ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيراً، فإن لكم منهم صهراً وذمة».
يقول ابن الكندى فى كتابه «فضائل مصر»: فأما الرحم فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليها السلام من القبط، من قرية نحو الفرما (مدينة قديمة شرق بور سعيد الحالية)، ... وأما الذمة فإن النبى صلى الله عليه وسلم تسرَّى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله... فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهة أمهم مارية... لأن أزواج النبى أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم».