فصول من كتاب مديحة كامل .. قصة الاعتزال «1»

مديحة كامل
مديحة كامل

كتب: محمد سرساوى

كانت قد ترددت إشاعات كثيرة حول اعتزال مديحة للفن أكثر من مرة، خاصة فى عام 1986، حيث أشيعت إشاعة أنها فتحت مصنع التريكو فى شقتها القديمة، واعتزلت الفن نهائيًّا. ولكن كانت الحقيقة، أنه ما كان يعرض عليها، في فترة توقفها، إما أفلام تافهة وإما أفلام المقاولات التى لا تصور إلا لتطبع على أشرطة الفيديو للكسب من الإعلانات التى تطبع معها، بينما كانت هي تبحث عن دور في فيلم يمكن أن يصنف كفيلم من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية.

وهذا ما أكدته فى إحدى الحوارات أثناء استعدادها لدور زينات فى فيلم أصدقاء الشياطين: التوقف كان بسبب الأحوال الرديئة والصعبة التى كانت وما زالت مسيطرة على الساحة السينمائية حتى الآن، ولأن الأزمة كانت هى المسيطرة فإن الأدوار كانت رديئة جدًّا، ولذلك قررت أن أجلس فى بيتى، وأرفض كل هذه الأدوار لأننى لو قبلتها فسوف تسيئ إليّ وإلى مشوارى الفنى كله، ولذا كان الرفض والجلوس بالبيت انتظارًا لدور جاد

وظلت الإشاعات تطرح من وقت إلى آخر حتى جاء قرار اعتزالها أثناء تصوير فيلم بوابة إبليس من إخراج عادل الأعصر، ويشاركها فى البطولة محمود حميدة وهشام عبد الحميد وعايدة عبد العزيز وحسن الأسمر، وكان ذلك فى عام 1992. حيث شعرت بأنها لا تستطيع أن تستمر أحست بأن الله ينادينها، وبدأت تزهد في الحياة الفنية، وقررت الاعتزال.

ويحكى المخرج عادل الأعصر فى برنامج الستات ما يعرفوش يكدبوا عن اعتزال مديحة كامل أثناء تصوير الفيلمبعد ما تم تصوير نصف الفيلم تقريبًا اتصلت مديحة بي على الهاتف، وأبلغتنى بأنها لم تكمل الفيلم فظننت أنها تمزح. وذهبت إلى منزلها، قالت إنها لم تكمل الفيلم لأنها قررت الاعتزل، وسألتها لماذا ترغبين فى الاعتزال؟ وقالت: بدون أن أقول الأسباب.، فقلت لها: أتركك أسبوع أو 10 أيام

ولكن قرارها واحد لم يتغير قررت أن تعتزل، وفى الحقيقة أصبحت الدنيا أمامى لونها أسود،  وأخبرت المنتج إبراهيم شوقى بقرار مديحة بالاعتزال، والمنتج سألنى كيف سنحل هذه المشكلة، وقلت له دعنى أفكر. جلست أبحث عن حل لتلك المشكلة لمدة شهرين حتى عثرت على حل، وبعدها قلت للمنتج: وجدت الحل لإكمال الفيلم

وأكملت الفيلم مثلما شاهد المتفرجين بحيث كان من الصعب جدًّا أن يشعر المشاهد بأن مديحة قد غابت عن أى مشهد فى الفيلم، وكانت حاضرة فى كل المشاهد، فقد استعنت بنيجاتيف الفيلم الذي لم نكن نحتاجه، وجمعت كل مشاهدها وكان من ضمنها مشهد جعلته مرتبط بنهاية الفيلم  واستخدمنا دوبلير فى هذا المشهد. وقبل أن أنفذ تلك الفكرة، قلت لمديحة إنى سأكمل الفيلم قالت: هذا حقك، وقلت لها تأكدى حينما تشاهدين الفيلم ستشعرين بأنك كنت موجودة، والفيلم كسر الدنيا وحقق إيرادات كبيرة.

وذكرت الكاتبة ماجدة خير الله عن هذا الفيلم فى مقالة عنوانها فى بوابة إبليس اعتزلت البطلة فقرر المخرج قتلها!: أسدلت مديحة كامل الستار على حياتها السينمائية بفيلم سينمائى جماهيري جيد الصنع هو بوابة إبليس، وانزوت فى هدوء دون أن تحدث ضجيجًا ولا صخبًا إعلاميًّا ولا تصريحات جهنمية تلعن فيها أهل السينما والفن بل إنها التزمت الصمت وفضلت السكينة والهدوء، وهذا من حقها. أسعدت الملايين بمجموعة من أعمالها الناجحة، ولعلها تكون قد اختارت التوقيت المناسب للاعتزال وهى فى قمة تألقها ونضوجها الفنى.

  لا شك أن المخرج عادل الأعصر قد واجه عدة تحديات فنية حتى يتمكن من إنهاء الفيلم بلا بطلته التى انسحبت قبل إكمال دورها، وهنا اضطر أن يلجأ لحلول بهلوانية لإنقاذ الفيلم، وفرضت عليه الظروف أن يقوم بتغيير النهاية حتى تتفق مع ظروف اختفاء البطلة، ومع ذلك فإن المشاهد العادى من الصعب عليه أن يدرك أو يلحظ الفروق بين البطلة وبديلتها، أو يلحظ أن وفاة البطلة فى النهاية هو الحل الإجبارى الذي لجأ إليه المخرج للخروج من المأزق وإنقاذ الفيلم

وفي مجال المسرح كانت مسرحية حلو الكلام آخر أعمالها المسرحية، وعنها ذكر لي المخرج عصام السيد في حديث تليفوني معي: حينما كنا نحضر لمسرحية حلو الكلام، ذهبت  مع الفنان سعيد صالح  إلى مديحة كامل واتفقنا أن تشاركنا فى المسرحية الجديدة، وكانت بروفات المسرحية فى الإسكندرية، وحققت المسرحية نجاحًا كبيرًا حيث كانت فرق المسرح فى الإسكندرية  تنهى عروضها فى منتصف شهر سبتمبر بينما مسرحية حلو الكلام ظلت تعرض حتى آخر شهر أكتوبر، وعدنا إلى القاهرة بعد شهر فقط، وبدأت بروفات المسرحية مرة أخرى، وكانت ستفتح على مسرح ميامى بالقاهرة.

  وقبل الافتتاح بشهر اعتذرت الفنانة مديحة كامل عن استكمال العرض، ولم يكن هناك  خلاف بيننا، كانت سيدة جميلة، ولم تكن من الممثلات المزعجات والمثيرات للمشاكل، كانت مطيعة ودؤوبة جدًّا وملتزمة، وابنتها كانت مصاحبه لها باستمرار فى البروفات والعروض،  كانتا شخصيتان قريبتان ببعضهما البعض كأنهما صديقتان، وأدركنا فيما بعد أنها قررت الاعتزال وارتدت الحجاب، وتعتبر المسرحية آخر أعمالها، وتم الاستعانة بالفنانة سوسن بدر بدلا عنها.   

ما سر الاعتزال؟!

استقبل الجميع خبر اعتزال مديحة كامل بدهشة بل وصلت لحد الصدمة والحزن، كل من أحبها من معجبيها، وزملائها في مجال الفن خاصة المخرجين، وكذلك العاملين في مجال الإعلام، خاصة أن الفترة التي اختارت أن تعتزل فيها هي فترة تألقها الفني وبروزها. حتى أن كثيرين لم يصدقوا ذلك في البداية، إلا بعد مرور فترة.   

فما الذي دفع مديحة إلى الاعتزال، وهي في قمة مجدها الفني؟ 

يقال إن قرار الاعتزال قد استقر داخلها بسبب رؤيا جاءتها حين استسلمت مديحة للنوم بعد صلاة الفجر، وأن هذه الرؤيا هي التى دفعتها لاتخاذ القرار، فقد رأت شخصًا ما يتقدم إليها ويلبسها رداءً أبيض فضفاضًا، وينظر إليها بكل حنان ويهمس لها: لقد آن الأوان

واستيقظت مديحة من نومها وهى تتصبب عرقًا، ولكنها لم تعرف هذا الشخص، ولم تتمكن من تحديد ملامحه، وظلت تتردد فى أذنيها العبارة: آن الأوان، فلم تعرف النوم، وعند صلاة الفجر أخذت القرار، وحملت ملابسها وحقائبها وابنتها، وانطلقت إلى الإسكندرية مدينتها التى ولدت فيها ويعيش فيها أهلها، واتصلت بإحدى الصديقات، وقالت لها فى هدوء: بلغى كل الناس أننى اعتزلت الفن إلى الأبد، وما تبقى من عمرى سوف أعطيه للعبادة ولابنتى الوحيدة.

وربما نلمح عاملا آخر قد يكون أحد دوافع مديحة كامل الخفية للاعتزال، وهو ما حدث للفنانة فاطمة رشدى إحدى رائدات المسرح المصرى في نهاية حياتها، وذلك نستشفه من تعليقها فى إحدى حواراتها حيث ذكرت: اليوم تؤرقنى مأساة الفنانة العظيمة فاطمة رشدى فبعد كل ما حققته من مجد وشهرة ملأت آفاق العالم العربى وبعد صولات وجولات على خشبات المسرح تعيش خريف عمرها فى بؤس وفقر وعلى المساعدات الأهلية، مأساة فاطمة رشدى حقيقة تدفعنى لرسم خطواتى القادمة على ضوء ما حدث لها بمعنى تأمين مستقبل ابنتى ومستقبلى. هذا ليس حلمًا أو أمنية، ولم يكن لى يومًا أحلام خارقة للعادة كبقية الناس، ولم أفكر يومًا فى التربع على عرش الفن أو على أى عرش آخر، ولكن كل ما أريده هو أن أحتفظ بابنتى وصحتى، وأن أحصل على ما استحقه فنيًّا من تقدير، وخبرتى الفنية جعلتنى أحكم على الناس بأسرع من لمح البصر.

 وأصبح إحساسى أشبه برادار يستشعر نوعية مشاعر البشر من أسلوبهم فى التعامل بل أحيانًا من بريق عيونهم أو أصواتهم حتى عبر الهاتف، وأحاول أن أقيم العلاقات حتى مجرد الكلام مع أى شخص لا يعينى أمره، وهذا أمر صعب للغاية. أما عن وحدتى فأنا أرى السينما كالرجل الغيور إن ارتضيتها فلا مكان لرجل آخر معها. بقى القول إننى لم يعد لدى أسرار أخشى كشفها أمامكم، وإننى لست امرأة من الزجاج تتفتت مع الأيام كما يرى البعض بل امرأة من صنع الحياة وتقلبات الظروف والأحوال، أشعر دائمًا أن فى العمر بقية، وأنا أمامى أعمال كثيرة يجب إنجازها.

أتمنى مثلا أن أقرأ  كل الأعمال القصصية ليوسف إدريس وكتب الفلسفة والدين والتفسير، وأتمنى أن أزور كل ربوع مصر بنجوعها وقراها وشواطئها وبراريها، وأن أتمكن من زيارة الوطن العربى الكبير الذى انتمى إليه، أتمنى لنفسى شيخوخة كريمة ولابنتى الزوج المناسب الذى يسعدها وتسعده، وأتمنى أن أظل ممثلة حتى لو بلغت الثمانين من العمر ما دمت قادرة على العطاء والتجدد

وقد تكون هناك عوامل كثيرة تجمعت سويًا عبر لحظات الألم التي تراكمت عبر الزمن، من تجارب سابقة، خاصة تجارب الحب والمرض وفقد الأحباء.

مديحة والحب

هل يمكن أن تكون مديحة قد قررت الاعتزال بعد تجارب قصص الحب التى انتهت كلها بالفراق بداية من رجل الأعمال محمود الريس ووالد ابنتها ميرهان الذي يكبرها في السن، وكانت تأمل حينها حياة سعيدة هادئة تدفعها للأمام في مشوارها الفني، ولكنها للأسف ابتعدت عن المجتمعات الفنية بعد أن شدتها الحياة الزوجية، وابتعدت عن الفن.

وكانت صدمتها بعد الطلاق وعودتها للفن مرة أخرى حينما فؤجئت بالصفوف الطويلة التي سبقتها وتجاوزتها، فقررت أن تزاحم مرة أخرى، حتى بدأت في العودة مرة أخرى.

وكان الزوج الثانى هو المخرج شريف حمودة حيث كان يعمل مساعد مخرج مع المخرج حلمى رفلة الذى كان شاهدًا - أثناء تصوير  فيلمه- على قصة حب بين مساعده شريف حمودة والفاتنة مديحة كامل، وداعب حلمى رفلة تلميذه: هل الحب حقيقة؟ فلم ينكر شريف حمودة، فسأله:

- ماذا تنتظر؟

فبدا على شريف الذهول لأن حلمى سدد إليه السؤال فى وقت قاتل، وقال لأستاذه:

-أنتظر موافقتها. إننى اقترحت عليها أن نتزوج فصارحتنى بأنها معقدة من الرجال، وقالت لى إن لها ابنة تخطو إلى الثالثة من العمر، ولابد أن توافق على هذا الزواج.

فضحك حلمى رفلة، وقال:

-الأمر لن يكلفك أكثر من علبة شكولاتة ولعبة جميلة ترشو بها الصغيرة فينفتح قلب الكبيرة.