الوجدان الشعبى وتأثره بالفن وسيلة للرصد المجتمعى

أ‭.‬د‭.‬إلهام‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬حمدان
أ‭.‬د‭.‬إلهام‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬حمدان

أ‭.‬د‭.‬إلهام‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬حمدان

اعتاد‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العصور؛‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬بوجدانه‭ ‬التلقائي‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬انفعالاته‭ ‬ومشاعره‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تقلبات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬صورٍ‭ ‬عدة،‭ ‬إما‭ ‬بالسخرية‭ ‬الحادة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬“النكتة”،‭ ‬أو‭ ‬بالعزف‭ ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬أفراحه‭ ‬وأحزانه‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬“الأغنية”‭ ‬بسيطة‭ ‬التراكيب‭ ‬اللفظية؛‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬“مواويل‭ ‬الناي”‭ ‬في‭ ‬الموالد‭ ‬والمناسبات‭ ‬الدينية‭ ‬والاجتماعية؛‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬أبرزها‭ ‬تلك‭ ‬الأغنيات‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬عامة‭ ‬الشعب‭ ‬طوال‭ ‬عهود‭ ‬السيطرة‭ ‬والاحتلال‭ ‬الأجنبي،‭ ‬ومنذ‭ ‬تجرأ‭ ‬الزعيم‭ ‬“أحمد‭ ‬عرابي”‭ ‬وأقدم‭ ‬على‭ ‬إعلان‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬“الخديوي”‭ ‬التابع‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية‭ ! ‬

ولست‭ ‬بصدد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬نجاح‭ ‬أو‭ ‬فشل‭ ‬“ثورة‭ ‬عرابي”‭ ‬أو‭ ‬“هوجة‭ ‬عرابي”‭ ‬كما‭ ‬أسماها‭ ‬البعض‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬الاحتلال‭ ‬للتقليل‭ ‬من‭ ‬شأنها،‭ ‬ولكن‭ ‬مايهمني‭ ‬هو‭ ‬مواكبة‭ ‬“الأدباتي‭/‬عبد‭ ‬الله‭ ‬النديم”‭ ‬لأحداث‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المصريين،‭ ‬والذي‭ ‬استطاع‭ ‬بأزجاله‭ ‬وأشعاره‭ ‬البسيطة‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬إيقاعات‭ ‬غنائية‭ ‬يرددها‭ ‬الشعب؛‭ ‬في‭ ‬تعبئة‭ ‬وشحن‭ ‬المشاعر‭ ‬ضد‭ ‬سلطة‭ ‬الاحتلال‭ ‬ـ‭  ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭  : ‬

أهل‭ ‬البنــــوكا‭ ‬والأطيـان‭ ** ‬صاروا‭ ‬على‭ ‬الأعيان‭ ‬أعيان

وابن‭ ‬البلـد‭ ‬ماشي‭ ‬عريان‭ ** ‬ما‭ ‬معــــاه‭ ‬ولا‭ ‬حق‭ ‬الدخــان

وربما‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الإيقاعات‭ ‬البسيطة‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لتوالي‭ ‬الفوران‭ ‬الشعبي‭  ‬ليظهرعلى‭ ‬الساحة‭ ‬الشيخ‭  ‬“سيد‭ ‬درويش‭ ‬“‭ ‬بموسيقاه‭ ‬وأغنياته‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬مهدت‭ ‬لثورة‭ ‬1919‭ ‬بزعامة‭ ‬“سعد‭ ‬زغلول”‭ ‬رفيق‭ ‬رحلة‭ ‬حياة‭ ‬“الأدباتي”‭ ‬والتي‭ ‬دفع‭  ‬ثمنها‭ ‬بالسجن‭ ‬والنفي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مات‭ ‬غريبًا‭ ‬في‭ ‬اسطنبول‭ ! ‬

وتأتي‭ ‬الثورة‭ ‬المصرية‭ ‬المجيدة‭  ( ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952‭ )‬؛‭ ‬ليناصرها‭ ‬ويعضدها‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬عظماء‭ ‬فن‭ ‬الأغنية؛‭ ‬الذين‭ ‬استطاعوا‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬الأثر‭ ‬الجميل‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشعبي‭ ‬بكل‭ ‬الذائقة‭ ‬الجمالية‭  ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬الأحداث؛‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬“‭( ‬ع‭ ) ‬الدوَّار”‭ ‬للمطرب‭ ‬محمد‭ ‬قنديل‭ ‬ـ‭ ‬كنموذج‭ ‬ـ‭  ‬مرورًا‭ ‬بظهور‭ ‬عبد‭ ‬الحليم‭ ‬حافظ‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬مطرب‭ ‬الثورة‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬انفاسه‭ .  ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يتسنى‭ ‬لهؤلاء‭ ‬تلك‭ ‬النجاحات؛‭ ‬إلا‭ ‬بمواكبة‭ ‬جيل‭ ‬رائع‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬وكتاب‭ ‬الأغاني،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬حسين‭ ‬الكومي‭  ‬وفتحي‭ ‬قورة‭ ‬وفؤاد‭ ‬حداد‭ ‬وصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬وسيد‭ ‬حجاب‭ ‬والأبنودي‭... ‬إلخ‭ !! ‬وكان‭ ‬محورهم‭ ‬الرئيسى‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬هو‭ ‬الأغاني‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تواكب‭ ‬الأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ .‬

ولكننا‭ ‬نرى‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ .. ‬وعلى‭ ‬إثراجتياح‭ ‬“فيروس‭ ‬الكورونا”‭ ‬لكل‭ ‬بلاد‭ ‬العالم‭: ‬شرقه‭ ‬وغربه؛‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬كي‭ ‬تمر‭ ‬مرور‭ ‬رياح‭ ‬الصيف‭ ‬العابرة؛‭ ‬ولكنه‭ ‬بفطرته‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬للتسجيل‭ ‬والتأريخ،‭ ‬لنرى‭ ‬“طفل‭ ‬الصعيد‭ ‬الجوَّاني”‭ ‬يدق‭ ‬بالإيقاع‭ ‬الفطري‭ ‬الساذج‭ ‬على‭ ‬“صفيحة‭ ‬قديمة”‭ ‬مندِّدًا‭ ‬بهذا‭ ‬الوباء‭ ‬الذي‭ ‬حرمه‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬الترعة‭ ‬مع‭ ‬أقرانه؛‭ ‬لتلتقطه‭ ‬عدسات‭ ‬التليفزيون‭ ‬ليصبح‭ ‬نجمًا‭ ‬يغار‭ ‬منه‭ ‬المطربون‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الغنائية؛‭ ‬فيهرعون‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬كرنفال‭ ‬“‭ ‬الكورونا”؛‭ ‬وقد‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭  ‬المطرب‭ ‬الفنان‭/‬مدحت‭ ‬صالح‭ ‬حين‭  ‬تغني‭  ‬ـ‭ ‬بصدق‭ ‬ـ‭ ‬لتمجيد‭ ‬كتائب‭ ‬الأطباء‭ ‬وجيوش‭ ‬التمريض؛‭ ‬الذين‭  ‬يواجهون‭ ‬خطر‭ ‬العدوى‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬الدفاع‭ ‬الأول‭ ‬عن‭  ‬صحة‭ ‬الشعب‭ ‬المصري؛‭ ‬بل‭ ‬يقدمون‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشهداء‭ ‬على‭ ‬مذبح‭ ‬“الوفاء‭ ‬بقسَمْ‭ ‬أبقراط‭ ‬“‭ ‬إيمانًا‭ ‬برسالتهم‭ ‬السامية‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الوطن‭ ‬والبشرية؛‭ ‬تغنى‭ ‬بكلمات‭ (‬عمر‭ ‬طاهر‭ ): ‬البالطو‭ ‬الأبيض‭ ‬كإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الأطباء‭ ‬وكتائب‭ ‬التمريض‭ :‬

ياابو‭ ‬بالطو‭ ‬ابيض‭  .. ‬والقلب‭ ‬أبيض‭ ‬

أحلى‭ ‬مافيك‭  ‬الابتسامة

‭ ‬ياغالي‭ ‬عندي‭ .. ‬أهل‭  ‬البلد‭ ‬دي‭ ‬

ح‭ ‬يطولوا‭ ‬بيك‭ ‬بر‭ ‬السلامة‭ ‬

ياابو‭ ‬بالطو‭ ‬أبيض‭ ‬والقلب‭ ‬أبيض‭  ‬

عودك‭ ‬صلبتُه‭ .. ‬صاحي‭ ‬تمللي‭ ‬

ولا‭ ‬انسحاب‭ ‬ولا‭ ‬تخللي‭ ‬

رجعنا‭ ‬خطوة‭ ‬وسبقت‭ ‬إنت‭ ‬

صلِّينا‭ ‬وانت‭ ‬بينا‭ ‬المُصلِّي

‭ ‬تعبك‭ ‬على‭ ‬راسي‭ ‬وعلى‭ ‬عيني

‭ ‬يانجم‭ ‬عالي‭ ‬ياقصر‭ ‬عيني‭ ‬

ولا‭  ‬مللي‭ ‬خوف‭ .. ‬قادر‭ ‬تشوف

ياابو‭ ‬بالطو‭ ‬أبيض‭ !‬

ونحن‭ ‬بدورنا‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نضم‭ ‬أصواتنا‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفنانين‭ ‬الوطنيين؛‭ ‬الذين‭ ‬يؤرخون‭ ‬للأحداث‭ ‬الجسام‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بالوطن؛‭ ‬تيمنَّا‭ ‬بالرعيل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين‭ ‬والشعراء؛‭ ‬الذين‭ ‬نقف‭ ‬لهم‭ ‬احترامًا‭ ‬وتعظيمًا‭ ‬لدورهم‭ ‬الفاعل‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬الاندثار‭ .‬

وهانحن‭ ‬نرى‭ ‬ركاب‭ ‬الفنون‭ ‬يسير‭ ‬جنبًا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬الحراك‭ ‬الفاعل‭ ‬والمخلص‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬بكل‭ ‬أجهزتها‭ ‬السياسية‭ ‬والعلمية‭ ‬والأكاديمية‭ ‬والطبية؛‭ ‬لتقديم‭ ‬كل‭ ‬الخدمات‭ ‬لدرء‭ ‬الأخطار‭ ‬عن‭ ‬صحة‭ ‬المصريين‭ .. ‬ومصر‭ ‬المحروسة‭ ‬الغالية‭ . ‬ولعل‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬العلي‭ ‬القدير‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يهب‭ ‬“العلم”‭ ‬لأهله‭ ‬من‭ ‬جيش‭ ‬الأطباء؛‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬سرعة‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬الهجوم‭ ‬الضاري‭ ‬لفيروس‭ ‬كورونا؛‭ ‬متسلحين‭ ‬بسلاح‭ ‬العلم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬المتقدمة،‭ ‬ولم‭ ‬تركن‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬التقاعس‭ ‬أو‭ ‬الإهمال‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬“وباء‭ ‬الطاعون”‭ ‬والجلوس‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطرقات‭  ‬ــ‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬“أيام‭ ‬حكم‭ ‬الماليك”‭ ‬ليرددوا‭ :‬

‭ ‬يارب‭ ‬يامتجلي‭ ..‬إهلك‭ ‬العثمانلي‭ !!‬

تلك‭ ‬كانت‭ ‬تطوافة‭ ‬وجيزة‭ ‬لرصد‭ ‬مدى‭ ‬تأثير‭ ‬فن‭ ‬الأغنية‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشعبي؛‭ ‬ومدى‭ ‬حرصه‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تخطِّّي‭ ‬حواجز‭ ‬مؤسسات‭ ‬الثقافة‭ ‬الرسمية؛‭ ‬ويكون‭ ‬هو‭ ‬الأسبق‭ ‬بالرصد‭ ‬والتسجيل‭ ‬لكل‭ ‬مجريات‭ ‬الأحداث‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ .‬

حفظ‭ ‬الله‭ ‬مصر‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬قوتها‭ ‬الناعمة‭ ‬وعلمائها‭ ‬وأطبائها،‭ ‬لتشرق‭ ‬علينا‭ ‬شمس‭ ‬العافية‭ ‬؛‭ ‬لتضيء‭ ‬نهارات‭ ‬السعادة‭ ‬؛‭ ‬حتى‭ ‬تنقشع‭  ‬سحابات‭ ‬“الكورونا‭ ‬“‭ ‬من‭ ‬سماء‭ ‬العلم‭ ‬والعلماء‭ ‬والبشرية‭ ‬جمعاء‭ ‬؛فهي‭ ‬غمة‭ ‬ثقيلة‭ ‬حصدت‭ ‬أرواح‭ ‬الكثيرين‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬قصير‭ ‬وتركت‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الأحياء‭ ‬احزانا‭ ‬تكفيهم‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬،فيارب‭ ‬أزح‭ ‬الغمة‭ ‬وأشف‭ ‬كل‭ ‬مريض‭ ..‬آمين‭!‬