الإسلام وجزاءات أخروية

د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر
د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر

ورد فى نصوص شرعية آى القرآن الكريم، وما صحت نسبته إلى سيدنا محمد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - من أخبار متواترة أو مشهورة لأنها مما تثبت بها العقائد -  ذكر أوصاف لجزاءات أخروية من جنة وجنات ونار، وينبغى فهم أمور فى إطارها الصحيح دون مزايدة ولا تغول، ومما له علاقة وصلة الآتى بيانه: أولاً: اختصاص الله - عز وجل - وحده، وليس غيره بالحكم والإنفاذ الجزاء الأخروى، بمشيئته وإرادته قال الله -عز وجل - « أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ».. وجه الدلالة : الله -  سبحانه وتعالى -الخالق والمدبر للعالم على حسب إرادته وحكمته لا شريك له فى ذلك.


قال الله -عز وجل - «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»..

وجه الدلالة: بيان لما سيكون عليه حالهم جميعاً يوم القيامة، من حكم عادل سيحكم الله -  تعالى -  به عليهم. 


ثانياً : إقرار التنوع الدينى السماوى وما يترتب عليه من جزاء أخروى إلهى ربانى: قال الله -  عز وجل :«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ»..

وجه الدلالة: الآية الكريمة تبين أن أساس النجاة يوم القيامة هو الإيمان بالله واليوم الآخر وما يستتبع ذلك من أفعال طيبة وأعمال صالحة ولا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة بل هم فى مأمن منها، ولاهم يحزنون على ما مضى من أعمارهم لأنهم انفقوها فى العمل الصالح، وهى مسومة للترغيب فى الإيمان والعمل الصالح.


وقال الله -عز وجل : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ».


وجه الدلالة : إن هؤلاء الذين آمنوا عن تصديق وإذعان، وقدموا العمل الصالح الذى ينفعهم يوم لقائه، هؤلاء لهم أجرهم العظيم عند ربهم، ولا يفزعون من هول القيامة كما يفزع الكافرون، ولا يفوتهم نعيم فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون.. قال الله -عز وجل - :«لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»..

وجه الدلالة: لكل أمة من الأمم الحاضرة والماضية وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بها، ولو شاء الله - تعالى -  أن يجعل الأمم جميعا أمة واحدة تدين بدين واحد وشريعة واحدة لفعل، ولكنه - سبحانه لم يشأ ذلك، وإنما شاء أن يجعلكم أمماً متعددة ليختبركم فيما آتاكم من شرائع مختلفة فى بعض فروعها، ولكنها متحدة فى جوهرها وأصولها، فيجازى من أطاعه بما يستحقه من ثواب، ويجازى من خالف أمره بما يستحقه من عذاب.


ثالثاً: النص على احتكار الجزاء الأخروى لطائفة دون طائفة: 


قال الله - عز وجل - «وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».


وجه الدلالة: بطلان ادعاء الزاعمين أن الجنة لهم خالصة من دون الناس، ولا دليل على ذلك من كتبهم على صحة دعواهم وهى خالية مما يدل على صحتها..

وأبطل القرآن الكريم مدعاهم بطريق آخر: إيراد قاعدة الكلية رتبت دخول الجنة على الإيمان والعمل الصالح بلا محاباة لأمة أو جنس أو لطائفة فقال الله -عز وجل - «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ».. قال الله - عز وجل - «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»..

وجه الدلالة: كل نفس يوم القيامة ستسأل عن أعمالها دون أعمال غيرها، كما وضح - سبحانه -  كل امرئ بما كسب رهين.


رابعاً: مناط المؤاخذة الأخروية التكليف الشرعى: هو طلب الشارع ما فيه كلفة من فعل أو ترك، وهذا الطلب من الشارع بطريق الحكم، وهو الخطأ المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير..

وتحدث العلماء عما يشترط له التكليف من: العقل، البلوغ، بلوغ الدعوة النبوية. وعليه فلا تكليف على غير العاقل ولا الصغير ولا على من لا تبلغه الدعوة النبوية على وجهها الصحيح.


ومن ثم اتفق العلماء على عدم مؤاخذة أهل الفترة - وهم من عاشوا بين عهدين لرسولين من رسل الله -  عليهم السلام - ، ومن فى حكمهم كمن نشأ فى شاهق جبل أو جزيرة منعزلة أو فى غابات وأدغال، ومن كان بمعزل عن العلماء .


قال الله - عز وجل - « مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»..

وجه الدلالة: أن الله - تعالى - اقتضت حكمته وعدالته، أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه عن طريق إرسال الرسل - عليهم السلام -.


تأسيساً على ما ذكر: الجزاء الأخروى لله -  عز وجل -  وحده، وإخباره بوعيد وتهديد عن أى أحد لا يستلزم تحقيق وعيده، فالقاعدة عند علماء العقيدة: أن الكريم إذا وعد حقق وعده، وإذا أوعد أخلف وعيده والحكم الفيصل يوم القيامة، وليس لأحد مهما كان أن يصدر حكماً ضد آخر بثواب أو عقاب، أو بجنة أو نار، فله -جل شأنه - الأمر والخلق..

إن النجاة فى الدنيا بقدر الله -  تعالى- ومشيئته، وليس لطائفة دون طائفة، ولا يحتكر أحد نجاة أو ربحا أو خسرانا، فمرد ذلك إلى الله وحده، ولم يفوض - سبحانه -  أحداً للوكالة عنه فى اختصاصه بمصير خلقه، ولا الوصاية من دونه بمنح أو منع، والأولى «بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ». 


وما يعارض ما ذكر من محكم القرآن الكريم من منسوخ قرآنى، أو أخبار آحاد، أو رؤى اجتهادية بشرية تطرح كلها ويعمل بالنص الإلهى القرآنى المحكم.


د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر