خواطر الإمام الشعراوي.. استكبار فرعون

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

«المتكبّر فى الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعاً دونه، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه»

يقول الحق فى الآية 38 من سورة القصص:»وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ»، خشى فرعون من كلام موسى على قومه، وتصوَّر أنه سيحدث لهم كما نقول(غسيل مخ) فأراد أن يُذكِّرهم بألوهيته، وأنه لم يتأثر بما سمع من موسى :»ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي...» يعني: إياكم أنْ تصدّقوا كلام موسى، فأنا إلهكم، وليس لكم إله غيري.


ثم يؤكد هذه الألوهية فيقول لهامان وزيره: « فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّى صَرْحاً لعلى أَطَّلِعُ إلى إله موسى...» وفى موضع آخر قال: «ياهامان ابن لِى صَرْحاً لعلى أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى...«غافر: 36- 37».وكأنه يريد أن يُرضى قومه، فها هو يريد أنْ يبحث عن الإله الذى يدَّعيه موسى، وكأنه إنْ بنى صرحا واعتلاه سيرى رب موسى، لكن هل بنى له هامان هذا الصرح؟ لم يَبْن له شيئاً، مما يدل على أن المسألة هَزْل فى هَزْل، وضحك على القوم الذين استخفّهم ولعِب بعقولهم.وإلا، فما حاجتهم لحرق الطين ليصير هذه القوالب الحمراء التى نراها ونبنى بها الآن وعندهم الحجارة والجرانيت التى بنَوْا بها الأهرامات وصنعوا منها التماثيل؟ وعملية حَرْق الطين تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد، إذن: المسألة كسب الوقت من الخَصْم، وتخدير الملأ من قومه.


وقوله: «لعلى أَطَّلِعُ إلى إله موسى...» وقبل أنْ يصل إلى حكم فيرى إله موسى أو لا يراه، يبادر بالحكم على موسى «وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين» «القصص: 38» ليصرف ملأه عن كلام موسى.
ويقول الحق فى الآية 39 من سورة القصص:» وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ» أي: تكبروا دون حق، وبغير مبررات للكِبْر، فليس لديهم هذه المبررات؛ لأن الإنسان يتكبَّر حين تكون عظمَته ذاتية فيه، أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير فلا تتكبر بها، مَنْ يتكبر يتكبَّر بشيء ذاتى فيه، كما يقولون(اللى يخرز يخرز على وركه).وكذلك فى دواعى الكِبْر الأخرى: الغِنَى، القوة، الجاه، والسلطان... إلخ.لذلك يكره الله تعالى المتكبرين، ويقول فى الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعنى واحداً منهما أدخلته جهنم).


والكبرياء والعظمة صفة جلال وجمال لله تعالى تجعل الجميع أمام كبرياء الله سواء، فلا يتكبَّر أحد على أحد(ونرعى جميعاً مساوي) فى ظل كبرياء الله الذى يحمى تواضعنا، فلو تكبَّر أحدنا على الآخر لتكبَّر بشيء موهوب له، ليس ذاتياً فيه؛ لذلك ينتصر الله لمن تكبَّرت عليه، ويجعله أعلى منك، وعندنا فى الأرياف يقولون:(اللى يرمى أخاه بعيب لن يموت حتى يراه فى نفسه).والمتكبّر فى الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعاً دونه، ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده فى الأرض بغير حق.. أما إنْ كان الاستكبار من أجل حماية الضعيف ليعيش فى ظلاله فهو استكبار بحق؛ لذلك نقول حين يصف الحق تبارك وتعالى نفسه بأنه العظيم المتكبّر نقول: هذا حق. لأنه حماية لنا جميعا من أنْ يتكبَّر بعضنا على بعض.. وقوله تعالى: «وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ» فاستكبارهم فى الأرض جاء نتيجة ظنهم بأنهم لن يرجعوا إلى الله، وأنه تعالى خلقهم ورزقهم، ثم تفلَّتوا منه، ولن يعودوا إليه، لكن هيهات، لا بُدَّ- كما نقول- لهم رَجْعة.