زيارة لمعرض عبد العزيز الجندي : ‬ براح الروح والأمكنة‭

عبد العزيز الجندى
عبد العزيز الجندى

منى‭ ‬عبد‭ ‬الكريم

للأماكن‭ ‬بعبقها‭ ‬وتفاصيلها‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬الفنان‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الجندى،‭ ‬تراه‭ ‬يتجول‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬لآخر‭ ‬ومن‭ ‬حارة‭ ‬لأخرى،‭ ‬يقضى‭ ‬أياما‭ ‬متأملا‭ ‬الطبيعة‭ ‬ومتغزلا‭ ‬بالأشجار‭ ‬فى‭ ‬حديقة‭ ‬الأورمان،‭ ‬يشد‭ ‬الترحال‭ ‬أحيانا‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬ليسجل‭ ‬أثر‭ ‬مروره‭ ‬بتلك‭ ‬الأماكن‭ ‬أو‭ ‬مرورها‭ ‬به،‭ ‬ويحكى‭ ‬بروح‭ ‬المنغمس‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬فى‭ ‬مذاق‭ ‬الحياة‭ ‬المصرية‭ ‬عما‭ ‬تقع‭ ‬عليه‭ ‬عيناه‭ ‬ويمس‭ ‬وجدانه‭ .‬

فى‭ ‬معارضه‭ ‬الفردية‭ ‬ثمة‭ ‬تأكيد‭ ‬على‭ ‬ارتباطه‭ ‬بتفاصيل‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬نراه‭ ‬جليا‭ ‬فى‭ ‬أعماله‭ ‬وفى‭ ‬اختياراته‭ ‬لأسماء‭ ‬معارضه‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬‮«‬مشاهد‭ ‬مصرية‮»‬‭ ‬و«مائيات‭ ‬مصرية‮»‬‭ ‬وعن‭ ‬الأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬وعربات‭ ‬ومراكب‭ ‬ويوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعضها‭ ‬يذكرنا‭ ‬بالإنسان‭ ‬المصرى‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬‮«‬وجوه‭ ‬ومصرى‮»‬‭ ‬و«شخوص‭ ‬محفورة‮»‬،‭ ‬و«ملامح‭ ‬مبعثرة‮»‬‭ ‬وغيرها‭. ‬

فى‭ ‬معرضه‭ ‬الأخير‭ ‬الذى‭ ‬استضافته‭ ‬قاعة‭ ‬الباب‭ ‬سليم‭ ‬مؤخرا‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬براح‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬يتخل‭ ‬الفنان‭ ‬عن‭ ‬عشقه‭ ‬للأماكن‭ ‬وحكايات‭ ‬البشر‭ ‬قاطنيها،‭ ‬ولكنه‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬موضوعاته‭ ‬الأثيرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالبراح،‭ ‬إذ‭ ‬تعمد‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬فراغات‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬مسطح‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬معبرا‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬البراح‭ ‬الذى‭ ‬يترك‭ ‬متنفسا‭ ‬لباقى‭ ‬العناصر‭ ‬ويؤكدها‭.. ‬قائلا‭ ‬أنا‭ ‬مهتم‭ ‬بالفراغ‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬الفنى‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.. ‬وأعنى‭ ‬هنا‭ ‬الفراغ‭ ‬المفيد‭ ‬الذى‭ ‬يترك‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬البراح‭ .. ‬والبراح‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬فراغ،‭ ‬ولكنه‭ ‬إحساس‭ ‬نفسى‭ ‬بالراحة‭ ‬والسكينة‭.‬

تلك‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬السكينة‭ ‬انتقلت‭ ‬إلىّ‭ ‬بينما‭ ‬أشاهد‭ ‬الأعمال‭ ‬والتى‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬الفنان‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أعماله‭ ‬الفنية‭ ‬بل‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كلمته‭ ‬عن‭ ‬المعرض‭ ‬التى‭ ‬تفيض‭ ‬بالعذوبة‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬يمتلئ‭ ‬القلب‭ ‬‮«‬بالبراح‮»‬‭ ‬حين‭ ‬يتسرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الفراغات‭ ‬الكونية‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭.. ‬والتى‭ ‬تلتقطها‭ ‬العين‭ ‬مستمتعة‭ ‬بما‭ ‬تشاهد‭ ‬فتحدث‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الاتساق‭ ‬الوجدانى‭ ‬يتم‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬مباشرة،‭ ‬الفراغ‭ ‬هو‭ ‬سيد‭ ‬الموقف‭..‬فى‭ ‬المشهد،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬تكوين‭ ‬يتم‭ ‬ترتيب‭ ‬عناصره‭ ‬بحذر‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المتنفس‭ ‬الذى‭ ‬يعطى‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬والسكينة،‭ ‬نصحو‭ ‬مبكرين‭ ‬فنجد‭ ‬‮«‬براحا‮»‬‭ ‬وسلاما‭ ‬فى‭ ‬النفس‭ ‬يتواصل‭ ‬مع‭ ‬‮«‬البراح‮»‬‭ ‬الكائن‭ ‬فى‭ ‬الطرقات‭ ‬الخالية‭..‬وكأنها‭ ‬تستقبل‭ ‬فى‭ ‬رضا‭ ‬من‭ ‬يزيح‭ ‬النعاس‭ ‬عن‭ ‬عينيها‭ ‬ووجهها‭... ‬فترتقى‭ ‬الحالة‭ ‬وتسمو‭ ‬بالنفس،‭ ‬وتزيد‭ ‬مع‭ ‬نسمات‭ ‬حائرة‭ ‬تُنعش‭ ‬الأبدان‭ ‬بارتعاشة‭ ‬تهز‭ ‬الخلجات‭ ‬فى‭ ‬نشوة‭ ‬وهيام‭ ‬وهناك‭ ‬عند‭ ‬حافة‭ ‬الشاطئ‭..‬حيث‭ ‬التقاء‭ ‬ماء‭ ‬النهر‭ ‬باليابسة‭.. ‬ينشأ‭ ‬الإحساس‭ ‬‮«‬بالبراح‮»‬‭..‬والذى‭ ‬يزداد‭ ‬مع‭ ‬تعانق‭ ‬الأشرعة‭ ‬بفضاء‭ ‬السماء،‭ ‬تتم‭ ‬مخاطبة‭ ‬المكان‭ ‬فيبوح‭ ‬بسره‭.. ‬ويكمن‭ ‬السر‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬المرئيات‭ ‬المستخلصة‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬كثيرة‭.. ‬تلك‭ ‬المرئيات‭ ‬التى‭ ‬هى‭ ‬جوهر‭ ‬الروح‭.. ‬يتم‭ ‬التقاطها‭ ‬وصياغتها‭ ‬بأقل‭ ‬خطوط‭ ‬وبمساحات‭ ‬خفيضة‭ ‬الوقع‭ ‬متعايشة‭ ‬فى‭ ‬سلام‭ ‬دون‭ ‬صخب،‭ ‬ونفاجأ‭ ‬بفراغات‭ ‬شاسعة‭ ‬قد‭ ‬تركت‭ ‬خالية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬البراح‮»‬‭ ‬الكامن‭ ‬فيها‭ ‬والمميز‭ ‬لها‭ ‬فتزداد‭ ‬تحليقا‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬رحب‭ ‬يشبه‭ ‬الخيال،‭ ‬يسيطر‭ ‬‮«‬البراح‮»‬‭ ‬على‭ ‬الأمكنة‭..‬والشخوص‭..‬وعلاقات‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬تهيم‭ ‬فيؤكد‭ ‬على‭ ‬تكاثفها‭.. ‬ويستمر‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬‮«‬براح‮»‬‭ ‬النفس‭.. ‬و«البراح‮»‬‭ ‬الكائن‭ ‬فى‭ ‬المشهد‭.‬‭.‬ويمتد‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭ ‬بينهما‭ ‬فتتم‭ ‬الحالة‭ ‬‮«‬البراحية‮»‬‭ ‬كصياغة‭ ‬للعمل‭..‬وللروح‭.‬

للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬ومع‭ ‬جولتى‭ ‬بالمعرض‭ ‬كانت‭ ‬البطولة‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬للمكان‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬للبراح‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬الشخوص،‭ ‬لكن‭ ‬بنظرة‭ ‬متفحصة،‭ ‬شاهدت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأبطال‭ ‬الذين‭ ‬يختفون‭ ‬ببراعة‭ ‬داخل‭ ‬اللوحات،‭ ‬كأنهم‭ ‬يراقبون‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬يتخلصون‭ ‬من‭ ‬عبء‭ ‬الزحام‭ ‬فى‭ ‬مساحة‭ ‬رحبة‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬أو‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬تجليات‭ ‬تخلصهم‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬العالم‭ ‬المادى‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬رقصة‭ ‬الصوفى‭ ‬الهائم،‭ ‬فى‭ ‬لوحة‭ ‬أخرى‭ ‬ربما‭ ‬تجد‭ ‬عين‭ ‬خفية‭ ‬تتبعك‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬تدعوك‭ ‬للتوقف‭ ‬لبضع‭ ‬دقائق‭ ‬لتستمع‭ ‬إلى‭ ‬نفسك،‭ ‬بساطة‭ ‬هى‭ ‬عين‭ ‬كاشفة‭. ‬

ولم‭ ‬يكتف‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الجندى‭ ‬بأولئك‭ ‬الأبطال‭ ‬الخفيين،‭ ‬إذ‭ ‬نراه‭ ‬يحكى‭ ‬قصصا‭ ‬لأشخاص‭ ‬قابلهم‭ ‬بالفعل‭ ‬مثل‭ ‬حكاية‭ ‬العم‭ ‬مدبولى‭ ‬التى‭ ‬رواها‭ ‬لاحقا‭ ‬على‭ ‬صفحته‭ ‬على‭ ‬الفيس‭ ‬بوك‭ ‬مصاحبة‭ ‬للوحته‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬فى‭ ‬مقتطف‭ ‬من‭ ‬الحكاية‭ ‬‮«‬أمام‭ ‬الجذع‭ ‬تخيلته‭ ‬بكتلته‭ ‬الرابضة‭.. ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬الود‭ ‬والعطاء‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬حوله‭..‬ومشاعر‭ ‬متلاطمة‭ ‬ومتلاحقة‭ ‬كونت‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الثرى‭.. ‬بأحداثه‭ ‬التى‭ ‬مرت‭.. ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭.. ‬فقد‭ ‬عبرت‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬الأيام‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرها‭..‬حتى‭ ‬أنهكته‭.. ‬وبدت‭ ‬علامات‭ ‬محفورة‭ ‬على‭ ‬تضاريس‭ ‬الوجه‭ ‬الصامد‭ ‬فى‭ ‬حيرة‭ ‬وشوق‭ ‬لتعويض‭ ‬الساعات‭ ‬العصيبة‭ ‬وذكريات‭ ‬اللهيب‭. ‬وضعت‭ ‬كتلته‭ ‬بقصاصة‭ ‬سمراء‭ ‬استقرت‭ ‬بثقلها‭ ‬أمام‭ ‬الجذع‭ ‬العتيق‭.. ‬ليتحاورا‭ ‬ويشكو‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬للآخر‭.. ‬ويقص‭ ‬ما‭ ‬حدث‭.. ‬والذكريات‮»‬‭.. ‬لكل‭ ‬عمل‭ ‬حكاية،‭ ‬فى‭ ‬عمل‭ ‬آخر‭ ‬يحتفى‭ ‬الفنان‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الجندى‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬خطاطى‭ ‬كسوة‭ ‬الكعبة،‭ ‬وفى‭ ‬آخر‭ ‬بعرائس‭ ‬شهاب‭ ‬الدين‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المعرض‭ ‬كله‭ ‬خرج‭ ‬بروح‭ ‬واحدة‭ ‬يغلب‭ ‬على‭ ‬اللوحات‭ ‬الحس‭ ‬التعبيرى‭ ‬باللمسات‭ ‬اللونية‭ ‬الصريحة‭ ‬والمختزلة،‭ ‬ويجنح‭ ‬هذا‭ ‬الحس‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬التجريد‭.. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬حمل‭ ‬بصمة‭ ‬فريدة‭ ‬سواء‭ ‬فى‭ ‬معالجة‭ ‬الموضوع‭ ‬أو‭ ‬استخدام‭ ‬الخامة‭ ‬أو‭ ‬التقنية،‭ ‬إذ‭ ‬وظف‭ ‬الفنان‭ ‬فى‭ ‬أغلب‭ ‬أعماله‭ ‬تقنية‭ ‬ورق‭ ‬الذهب‭ ‬الملصق‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬فيما‭ ‬يشكل‭ ‬أرضية‭ ‬العمل‭ ‬التى‭ ‬وضع‭ ‬عليها‭ ‬مفرداته‭ ‬بألوان‭ ‬الأكريليك‭ ‬والجواش‭ ‬والأحبار‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يبعده‭ ‬عن‭ ‬توظيف‭ ‬عناصر‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬المطبوع‭ ‬بزخارف‭ ‬نباتية‭ ‬وهندسية،‭ ‬وكذلك‭ ‬بإضافة‭ ‬أوراق‭ ‬النباتات‭ ‬والشجر‭ ‬لإثراء‭ ‬السطح‭ ‬وخلق‭ ‬علاقة‭ ‬تشكيلية‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الخامات‭ ‬المختلفة‭. ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬استخدام‭ ‬قطع‭ ‬خشبية‭ ‬كما‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬لتصبح‭ ‬هى‭ ‬مسطحه،‭ ‬ليضيف‭ ‬إليها‭ ‬إبداعاته‭ ‬كما‭ ‬فى‭ ‬لوحة‭ ‬عرائس‭ ‬شهاب‭ ‬الدين‭ ‬وخطاطى‭ ‬كسوة‭ ‬الكعبة،‭ ‬لتحتفظ‭ ‬الخامة‭ ‬ببكريتها‭ ‬وروحها‭ ‬وملامسها‭ ‬لتضيف‭ ‬كثيرا‭ ‬إلى‭ ‬اللوحة‭ ‬الفنية‭ ‬متمردة‭ ‬على‭ ‬الأطر‭ ‬التقليدية‭.‬