مقال غير منشور لها

بدايات إدوارد سعيد: إنتفاء الخط الفاصل بين الفن والنقد

أمينة رشيد مع سيد البحراوى وعدد من أصدقائهما وتلاميذهما ٢٠١٨
أمينة رشيد مع سيد البحراوى وعدد من أصدقائهما وتلاميذهما ٢٠١٨

 

عكف إدوارد سعيد على كتابة هذا المؤلف منذ عام 1967 لينتهى منه فى شتاء 1972 – 1973. وهى فترة زمنية ليست بالطويلة بالقياس إلى مضمون يتسم بالثقافة الواسعة وبعمق التحليلات، وكذلك بتشعب الموضوعات. فعلى الرغم من أن هذا كتاب معنى بنقطة بحثية محددة، وهى قضية البدايات، أو بالأحرى نقطة البداية، إلا أنه يعالجها فى مجالى النقد والرواية الغربية، ببعديها النظرى أو الفلسفى والتطبيقى أو العملى، أى من خلال الرواية باعتبارها الجنس الأدبى المعنى أكثر من غيره بإشكالية نقطة البداية، وذلك باستدعاء قراءاته العديدة والمتنوعة، والربط بينها، مع ربطها بإطارها التاريخى. 
ويطرح فى المقدمة الثانية لكتابه عدة تساؤلات متعلقة بماهية البداية: ما الذى يجب على المرء أن يفعله من أجل أن يبدأ؟ هل يستطيع أن يبدأ فى أى وقت يحلو له؟ ما الذى يميز البداية؟ ما هو الاستعداد والتركيبة الذهنية اللازمان لكى تكون هناك ثمة بداية؟ ويتساءل المؤلف كذلك عن الفارق بين نقطة البداية والأصل، فيقرر أن الأصل هو حالة سكون تنحدر منها البداية التى ترتبط بفعل ديناميكى متطور، مستمر على خط الزمن.
وقبل الانطلاق يؤكد إدوارد سعيد مبدأ مهماً لكل بحث علمى، وهو أنه لابد فى البداية من التحديد الذى بدونه يصبح البحث العلمى عبثاً، وهو يعنى بالتحديد تعيين نقطة بداية يتحرك منها البحث، وتسمح بالانطلاق فى خضم المجال المعرفى.
وعلى الرغم من أن «بدايات» دراسة نقدية معنية فى المقام الأول بعلوم اللغة والأدب إلا أن إدوارد سعيد يعبر فى مقدمته الأولى عن ضيقه بالنظرة السائدة للأدب بوصفه نشاطاً إنسانياً مستقلاً بذاته، غير متصل بغيره من أنماط النشاط الإنسانى الأخرى، مؤكداً أنه إذا أريد للنقد أن يتجاوز خطاب الوصف والمديح للعمل الأدبى فعليه أن يتعاطى قضية اشتباك الأدب مع الواقع، واستقلاله عنه فى الوقت ذاته.
تفقد الرواية فى نهايات القرن التاسع عشر الإحساس أو الوعى بنقطة البداية الذى كان يميزها فى مطلع القرن نفسه، لتضطلع بدور أطلق عليه إدوارد سعيد تعبير «الدور المكمل»: أى افتراض حدث خارج إطار السرد، ويقتصر دور الرواية على إعادة بناء هذا الحدث عن طريق ما هو أشبه بـ «التحريات». ولقد واكب هذا التطور تطورا آخرا طرأ على الرواية التى يطلق عليها المؤلف تعبير «الرواية الكلاسيكية»، ويعنى به رواية القرن التاسع عشر: فقد تميزت بالرغبة فى تخيل واقع بديل، مع التأكيد على ربط هذا الإبداع بالأصل، الذى هو المؤلف نفسه، وإجبار القارىء –فى ذات الوقت- على إدراك أن هذا الخيال ما هو إلا إيهاماً بالقياس للحياة الحقيقية. ولكن بالتدريج شهد تاريخ الرواية فى الغرب تنصل الكاتب عن دوره فى خلق العمل الأدبى مع التركيز

على فنية أو حرفية الكتابة.  ويتتبع المؤلف هذا التطور الذى طرأ على الرواية من خلال دراسته وتحليلاته غير النمطية لكتابات جوزيف كونراد، وتوماس هاردى، وفلوبير، ودستويفسكى، ود. ه. لورانس. فيرى أن أعمال هذه المجموعة من الروائيين تطرقت إلى مسألة الوصف اللغوى بصفة عامة، والسردى بصفة خاصة، للطبيعة الإنسانية. والمشكلة تكمن - من وجهة نظره – فى صعوبة التعبير عن التسلسل فى حياة الإنسان على خط الزمن بينما يبدو أن الأدوات االتى يملكها الكاتب، وهى اللغة (بصفتها «منظومة") وعلم النفس (الفرويدى بالتحديد) تعمل خارج إطار التعاقب فى الزمن. كما تكمن فى الدور الثقافى الذى تضطلع به الرواية فى الغرب: وهو تصوير الواقع وتغييره فى آن واحد. ويقرر أن هذه المرحلة من الرواية قد تزامنت مع كتابات كل من نيتشه، وفرويد، حيث اختار كل منهما نقطة بداية مختلفة لتناول المادة الإنسانية، متجاوزين عدداً من الأعراف النصية، مثل ثنائيات المؤلف/النص، النص/المعنى، القارئ/ التفسير... 
فيقرر إدوارد سعيد أن كتاب «تفسير الأحلام» يمثل نقطة تحول هامة فى مسار مفهوم نقطة البداية؛ وذلك لأن المؤلف، وهو فرويد، يرى أن للحلم حبكة خاصة به لا تحاكى الواقع، وإنما تعبر عنه بطريقتها الخاصة التى تتجاوز التسلسل الزمنى، و كذلك مفهوم الأصل، أو السلطة الأبوية التى يمكن أن تترجم فى مجال الكتابة الأدبية بسلطة المؤلف، أى ربط النص بأصل هو الكاتب. فتفسير الأحلام وفق المنهج الفرويدى يؤسس لعلاقة  شراكة جديدة بين المحل/القارىء، والمريض/النص. وهى علاقة أفقية، «أخوية»؛ وتتوارى خلف هذا الواقع الجديد الذى فرض نفسه السلطة الأبوية للمؤلف الذى كان يرجع إليها لتفسير ما استغلق من النص.
كما رسخت دراسة فرويد لمبدأ هام، هو استحالة الإشارات أو التفاصيل البريئة فى النص الأدبى، أى أنه لا بد لأى عنصر محدد زمنياً أن تكون له علاقة بشئ آخر؛ وما المعنى سوى ما تسفر عنه هذه العلاقة. 
ينتقل المؤلف بعد ذلك فى بحثه الحثيث عن ماهية البداية إلى مفهوم «البنية»، ومن البنية إلى النص. فيرى أنه بعد تراجع مفهوم الإلهام ليحل مكانه مفهوم المهنة والمهنية أصبح كل من حياة الكاتب ومهنته ونصه يرتبطون بشبكة من العلاقات لا يمكن للناقد أن يغفلها. ويضيف سعيد أنه بعد تعاقب جيلين من الكتاب أمثال جويس، وكافكا، وملارميه اتسع مفهوم النص ليشمل شبكة جديدة من العلاقات مثل العلاقة بين النص النهائى ومسوداته المختلفة، وهو ما من شأنه أن يتعارض مع مبدأ الأصل الثابت للنص؛ فلقد أصبح النص سجلاً متجدداً لسيرة الكاتب المهنية؛ كما باتت سيرة الكاتب قبل مزاولته للكتابة تمثل جزءاً لا يتجزأ من نقطة بداية الكتابة.
ويكرس إدوارد سعيد الفصل الخامس من مؤلفه لمجموعة من المفكرين الفرنسيين، وفى مقدمتهم ميشيل فوكو، وليفى-ستراوس، ورولان بارت، الذين فرضوا أنفسهم على الحياة الفكرية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، مبرراً المساحة التى يفردها لهم بأن هؤلاء النقاد قد جعلوا من قضية «نقطة البداية» محوراً لفكرهم.
ويمكن حصر الخطوط العريضة لهذا الوعى الذى تبلور فى كتاباتهم فى النقاط التالية:
• تغيير جذرى فى مفهوم المعرفة: حيث حل التقطع والتناثر محل فكرة النص المتصل المبنى على التسلسل والتعاقب. ويستتبع إدوارد سعيد أن الكتابة من هذا المنظور أصبحت منظومة محكمة من القوى أو الطاقات المتشرذمة فى فضاء النص، يوحدها وينظم فرطها النص، ولا توجد بشكل سابق عليه.
• غياب فكرة «المؤلف»، أو «الكاتب»، وكذلك مركزية الذات : إن الفكر البنيوى من هذا المنظور مناقض فى عمومه لفكرة الأصل أو البداية الثابتة، بحيث يفقد المفهومان المعنى الدقيق، ولا يشيران سوى إلى «الأولوية"، وليس السبق المطلق. 
• نتج عن هذا الفكر أيضاً فى مجال النقد إنتفاء الخط الفاصل بين الفن والنقد من خلال مفهوم «الكتابة» الذى ابتكره بارت.
وفى الختام يعلن المؤلف أنه يدين بفكرة، أو بداية مؤلفه لفيكو، وهو الفيلسوف الإيطالى الشهير الذى عاش فى القرن الثامن عشر. يرى إدوارد سعيد أن فكر فيكو يمثل طفرة فى المعرفة بعيداً عن فكرة التسلسل أو التتابع التى يصفها إدوارد سعيد بال«الأسرية»، أى المبنية على نموذج تعاقب الأجيال.
تشتمل هذه الدراسة الثرية على نقاط أخرى مهمة، لم يتضمنها هذا الملخص غير الوافى، ولكننا نقتدى بالقاعدة التى أكد أهميتها إدوارد سعيد فى إحدى مقدمتيه، ألا وهى أهمية تحديد «نقط بداية»، والالتزام بها. كما يشدد إدوارد سعيد على أن دور المفكر ينبغى أن يظل دائماً متجدداً، أى أنه ينبغى على المفكر الحق ألا يقبل الدور الذى يفرضه عليه التاريخ أو العرف دون نقاش أو جدل، بل عليه البحث الحثيث عن «بداية» جديدة.

 إدوارد سعيد يعبر فى مقدمته الأولى عن ضيقه بالنظرة السائدة للأدب بوصفه نشاطاً إنسانياً مستقلاً بذاته، غير متصل بغيره من أنماط النشاط الإنسانى الأخرى