حديث الإسبوع

زيف الشعارات الذى يكشف النفاق العالمى الجديد

عبدالله البقالي نقيب الصحفيين المغاربة
عبدالله البقالي نقيب الصحفيين المغاربة

بقلم/ عبدالله البقالي 

لم يعد خافيا أن ظاهرة الهجرة فى العالم، بقدر ما تطرح إشكاليات وتحديات كثيرة ومتعددة، فيما يتعلق بمعالجة ما تفرزه من تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية، ذات تأثيرات كبيرة وخطيرة، بنفس القدر الذى تفرض فيه انشغالا عميقا بالدوافع والأسباب، التى تفرز هذه الظاهرة فى نظام عالمى بالغ التعقيد، باعتبار أن ظاهرة الهجرة ليست سببا فى حد ذاتها، بل هى نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة ومتداخلة فرضها نمط النظام العالمى السائد.

ما يزيد هذه الظاهرة أهمية، ويرفع منسوب الانشغال بها، أن مؤشر الإحصائيات والأرقام والنسب المرتبط بها يستمر فى الاتجاه نحو الأعلى مؤكدا استفحالها، إذ رغم الجهود التى يقال إنها مهمة ووازنة ويقع الترويج فى شأنها، بأن كثيرا من الجهات الحكومية والتنظيمات الإقليمية والدولية تبذل كبير الجهود وكثيرها، فى سبيل الحد من هذه الظاهرة بمحاصرتها، من خلال إيجاد المعالجة الصحيحة لأسبابها، فإنها مقابل ذلك تزداد فى النمو والتغول، مما يؤشر إلى أن كل هذه الجهود، وكل الإمكانيات المالية التى ترصد، وكل الشعارات التى ترفعها مختلف الأطراف المعنية بها، لا تعدو مجرد حبات (اسبرين) يكون الهدف منها التخفيف من أوجاع الرأس التى تتسببها لدى الرأى العام الدولى.

آخر الوثائق الدولية التى تؤكد استمرار هذه الظاهرة فى الاستفحال تمثلت هذه المرة فى التقرير السنوي، الذى أصدرته قبل أيام المنظمة العالمية للهجرة، والذى اختارت له عنوان (الهجرة العالمية لعام 2020)، وفى التقرير الذى أصدرته مؤخرا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

تقريران حفلا بالأرقام والإحصائيات المقلقة والمزعجة، حيث أكدا معا أن أعداد المهاجرين ازدادت خلال السنة الفارطة مقارنة بالسنة التى قبلها، حيث كشف تقرير المنظمة العالمية للهجرة أن 272 مليون شخص يوجدون فى حالة هجرة، بمعنى أن 3,5 بالمائة من سكان العالم اضطروا، لسبب من الأسباب القاهرة، إلى الهجرة القسرية. فى حين يؤكد تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين أن العدد التراكمى للنازحين فى العالم وصل إلى ما يتعدى 82 مليون شخص، أى ما يقارب عدد سكان دولة عظمى فى حجم ألمانيا. وأشار إلى أن ثلاثة ملايين شخص تقريبا نزحوا من منازلهم فى سنة 2020، وأن التدابير الاحترازية التى فرضت فى مجموع الخريطة العالمية لمواجهة خطر انتشار فيروس كورونا، وهى الإجراءات التى وصلت حد التضييق الشديد على حرية التنقل وفرضت إغلاقا شاملا فى مختلف الدول، ورغم الصرامة المتشددة التى اتسمت بها هذه التدابير، فإن كل ذلك لم يمنع ملايين الأشخاص من النزوح قسرا من مساكنهم. ويكشف هذا التقرير أن الزيادة الجديدة فى أعداد النازحين فى العالم هذه السنة تمثل الزيادة السنوية التاسعة على التوالي، وتذكر بأن عدد هؤلاء لم يكن يتجاوز قبل عشر سنوات 40 مليون شخص.

ولا يحتاج الملاحظ أو المراقب أو الباحث إلى كثير جهد لتفسير هذا النمو المضطرد والمخيف فى أعداد المهاجرين والنازحين، لأنها أسباب أضحت معلومة ومعروفة، لكن الذى لم يعد مفهوما ولا مستساغا يكمن فى فشل المجتمع الدولى فى إيجاد معالجة حقيقية للأسباب التى مكنت هذه الظاهرة من الوجود أصلا، ثم للعوامل التى كانت وراء استفحالها وتضخمها. ذلك أن الإجماع يقع حول تحديد الأسباب فى النزاعات المسلحة التى تفرض على ملايين الأشخاص الهروب من أوطانهم فى اتجاه مكان يوفر لهم الأمن والاستقرار، ثم هناك العوامل المناخية والطبيعية التى تقلص بشكل مخيف من الموارد الطبيعية خصوصا المياه، التى أجبرت ملايين آخرين على البحث عن موطن جديد أكثر ضمانا لهذه الموارد، ثم هناك الاختيارات السياسية السائدة والمعتمدة فى أنماط الحكم بكثير من دول العالم والتى كانت، ولا تزال سببا مباشرا فى تردى خدمات الصحة والتعليم والتربية والحماية الاجتماعية، كما كانت، ولاتزال، عاملا مباشرا فى ضيق أسواق الشغل، وانسدادها فى بعض الحالات، بما يفسره الارتفاع المهول فى معدلات البطالة بالعديد من الأقطار، مما فرض على ملايين آخرين حتمية المغامرة والمقامرة بحياتهم من أجل ضمان لقمة العيش.

وإذا ما أكدنا أن النزاعات المسلحة ما هى فى حقيقة الأمر سوى لحظة اصطدام عنيف بين مصالح سياسية واقتصادية، وبين أطراف تستخدم العنف والحروب للحسم لفائدتها فى خلافات سياسية بدرجة أولى، فإنه يحق القول إن هذا الصدام العنيف يتسبب فى اقتلاع الأفراد والجماعات من تربتهم المتمثلة فى المنزل والوطن، وتلقى بهم بعيدا للبحث عن الإفلات من الموت. وهذا يعنى أن الذى اختار وقرر محاولة الحسم فى الخلافات السياسية والاقتصادية بالوسيلة التى قدرها مناسبة لذلك، هو الذى تسبب فى إجبار الآلاف والملايين من الأشخاص على الهجرة والنزوح. كما أن هيمنة القوى الاقتصادية على مفاصل الاقتصاد العالمى تعتبر من العوامل الرئيسية لتغيير المناخ، مما ينعكس على التراجع المهول فى المصادر الطبيعية، والدول الفقيرة والمعوزة هى التى تدفع الفاتورة الغالية لهذا التغير المناخي، بسبب ضعف وسائل وإمكانيات المواجهة، مما يجعل العين بصيرة واليد قصيرة بالنسبة لأشخاص يغامرون فى الفيافى والبحار والمحيطات سعيا وراء الوصول إلى الضفة الأخرى، حيث تحتكر النعم والموارد.

هكذا نفهم إذن، أن الهجرة والنزوح يتسبب فيهما الكبار، ويدفع ثمنهما الصغار، من الذين لم يجدوا حيلة غير الهروب من الاستقرار، والولوج إلى مرحلة غامضة وملتبسة يكون المصير فيها مجهولا.