البناء على مقامات النغم

العمارة.. موسيقى الأحجار

العمارة الإسلامية فى الغرب تواكب مفاهيم الحداثة الفنية
العمارة الإسلامية فى الغرب تواكب مفاهيم الحداثة الفنية

رشيد غمرى

العمارة موسيقى جامدة، والموسيقى عمارة سائلة، مقولة للأديب الألمانى الشهير جوته. المعنى نفسه كان حاضرا من قبل لدى فلاسفة، وموسيقيين، ومهندسين عبر التاريخ. ومن يتأمل الأبنية العظيمة، فبإمكانه أن يتعرف فيها على التناغم والإيقاع، وغيرها من سمات موسيقى العصر الذى بنيت فيه، كما أن الإنصات إلى الموسيقى، يكشف للأذن الواعية كونها مبنية وفق قوانين وأنظمة معمارية وهندسية دقيقة، لكن كيف يتوافق الرسوخ مع الأثيرية؟ وكيف للأحجار، أن تشبه النغمات؟ وهل يتزاوج المرئى والمسموع؟

أول ما يميز الحضر عن البادية عمارته. وما يجعل من أبنية حقبة ما إنجازا حضاريا، هو تجاوزها لوظيفتها، وتعبيرها عن قيم جمالية. وكما يمكن لمقطوعة موسيقية أن تثير حماسنا، وتشعرنا بالعظمة، أو تثير فينا الشجن، فكذلك تؤثر العمارة. ولكن هذا لا يعطيها استثناء، إذ إن كل الفنون تطمح إلى الموسيقى، وتلتمس ذلك الطرب الداخلى، والمس الغامض الذى هو سمة الفن الحقيقي. لكن الموسيقى نفسها، تبدأ فى التمايز عن الضوضاء عبر الحسابات، والأرقام، والتشكل المعماري، كوحدات بنائية.

الإيقاع

يؤكد بعض أساتذة العمارة فى الجامعات الغربية على ضرورة تذوق الموسيقى والوعى بها للمعمارى الناجح. وبعضهم يطالب تلاميذه بمشاريع لتحويل بعض المقطوعات الموسيقية إلى تصاميم معمارية. ورغم أن المقطوعة الواحدة قابلة للتحول إلى تصاميم مختلفة، لكن هناك سمات أساسية تظهر فى التصميمات. منها ما هو حسابى وهندسى، أو فنى إبداعى. ويعتبر الإيقاع اللب المشترك لتلك العلاقة، بين النغم والحجر. وكما ينتظم إيقاع اللحن عبر معدل تكرار الأصوات بالنسبة للزمن، متضمنا فواصل الصمت، فإن الإيقاع فى المعمار يعتمد أيضا على تكرار العناصر المعمارية المختلفة والتى، قد تكون أعمدة أو نوافذ أو أبواباً أو عناصر تزيينية بارزة، مع ما يتضمنه المبنى من فراغات. وإذا كانت الموسيقى تكتسب بعض جمالها عبر الآلات التى تعزفها، فإن العمارة أيضا يمكنها العزف عبر استخدام خامات مختلفة من حجر ورخام وزجاج وأشكال من الطلاء والتركيبات المعدنية، ولكل منها ملمسها، وتأثيرها الذى يحاكى التوزيع الموسيقي.

من يستمع إلى سوناتا صوت القمر لبيتهوفين، سيدرك أن الحركة الأولى التى تتميز بالهدوء هى أشبه بمقدمة، ربما يماثلها مسطح أو حديقة، أو ساحة. وبالمضى إلى الحركة الثانية، نجد أننا أمام أشكال معمارية متدرجة بدأت باكتساب ملامحها الخاصة، لترهص بالصرح الذى تقدمه الحركة الثالثة. والذى أبدع بيتهوفين فى تشكيله وإثرائه بزخارفه الرومانسية. وبشكل عام تبدو الموسيقى الكلاسيكية فى معمارها أشبه بكاتدرائيات مركبة.

جلال الصمت

ما يعجب العين يعجب الأذن. مقولة لمعمارى عصر النهضة «ليون باتستا»، أشار فيها إلى القيم الحاكمة للجمال فى مختلف الفنون، حيث يخضع الحجر للقانون نفسه الذى للنغم. هذه الوحدة يمكننا أن نتلمسها فى العلاقة بين العمارة والموسيقى المصرية القديمة. وصحيح أننا نمتلك الكثير من الصروح المعمارية لذلك العصر، ولا نكاد نمتلك شيئا من موسيقاه، ولكن لدينا الآلات الموسيقية، وما كتب عن تلك الموسيقى، ممن سمعوها وعاصروها، ومنهم أفلاطون الذى وصفها كأعظم موسيقى فى العالم، وبأنها روحانية، وتمثل قيم الخير والجمال حتى أنه أوصى بعزفها فى مدينته الفاضلة. إنه العزف كما لو كان نابعا من أوركسترا الكون. والاستماع إلى معزوفات الوجود يستدعى الصمت. وأنت لا تملك فى حضرة أحد المعابد المصرية العظيمة إلا أن تستسلم للصمت لتسمع اللحن الجليل للوجود.

الطرب الحسابي

وهكذا يتضح أنه منذ البداية تزاملت العمارة والموسيقى فى وعيهما بالعالم، ومحاولات تمثيله. كلاهما بحث عن الخلود لحظة إدراكه لتحدى الفناء. وكلاهما امتزج بالدين، وعبر عن هيبته ومثالياته، وتمثله لغير المرئي، وغير المسموع. ومنذ البداية أدرك الموسيقى أنه إذا أراد لقصبة الغاب أن تكون نايا ينطق بالموسيقى، فلابد أن تنتظم ثقوبه وفق أبعاد حسابية هندسية. وعرف أن مختلف الخامات من أوتار أو قطع خشبية ومعدنية، بإمكانها أن تكون مصدرا للموسيقى إذا قطعت، وقسمت عبر تلك الهندسة. هكذا ظهر الفرق بين الطرب والصخب ممثلا فى أبجديات المعمار. وقد مرت هذه الأبجدية بمراحل قاطعة آلاف السنين من السلم الثلاثى إلى الخماسى وأخير السباعي، وحتى النصف والربع تون.    

جمالية التكرار

الحالة الروحية والفكرية والاجتماعية للبلدان الإسلامية انعكست فى معمارها وموسيقاها معا وبالتوازى أيضا. وكلاهما شف عن الجذور الحضارية السابقة لكل بلد قبل اصطباغه بالصبغة الإسلامية. ومن يتأمل تباينات هذه العمارة من السند وفارس إلى المغرب والأندلس، سيكتشف أن التباينات كانت محملة أيضا بروح موسيقى كل من هذه البلدان. كما سيلاحظ بروز الموسيقى الصوفية كمثال للعلاقة بين الفنين. وهى بطبيعتها تعتمد على التكرار اللانهائى بهدف فصل شعور المتنسك عن الدنيوي، ليحلق فى العالم السماوي. وهو بالضبط ما سنجده كأحد أهم سمات الزخارف الإسلامية البارزة، والمرسومة، والتى تتكرر أيضا فى وحدات لا نهائية، تحاكى أجرام السماء وحبات المطر، والبشر والخلائق، لتؤكد ذوبان الجميع ضمن حقيقة واحدة، هى الأسمى، حيث الوجود الحقيقى هو للكل الذى تذوب فيه الأجزاء. وكما أن الناسك الصوفى ينكفئ على ذاته حتى تنفتح من داخل نفسه نافذة السماء، فإن معمار البيت الإسلامى أيضا يحيط بذاته، وتمثل باحته الداخلية متنفس أهله، ومساحتهم المتاحة لرؤية السماء. أما نوافذه الخارجية فتبقى مدججة بالمشربيات التى هى وحدات مكررة مثل إيقاعات الصوفى ونغماته.

مرايا الروح

على العكس نجد أن العمارة الغربية تتجه لخارجها، وتنفتح بنوافذ كبيرة، تحولت فى العصر الحديث إلى واجهات كاملة من الزجاج، كأنما تحاول أن تحطم الحواجز بين الداخل والخارج، وقد تبلور ذلك بالتوازى مع أفكار الحداثة وموسيقاها، التى ودعت رصانة الكلاسيكية، وعاطفية الرومانسية، لتتحلى بالعملية. والإطلال على الخارج ينتج أيضا تعددية النظرة، من ساكن البيت على محيطه الخارجي. بعكس أحاديتها فى العمارة الإسلامية التى تنظر إلى داخلها. وقد انعكس هذا أيضا فى أحد أهم الفروق بين الموسيقى الغربية والشرقية. فالأولى عرفت تعدد الأصوات منذ القرن التاسع على الأقل، والذى أنتج لنا روائع الموسيقى السيمفونية، القائمة على «البلوفونية» أو تعدد المسارات اللحنية. على عكس موسيقانا أحادية الصوت. ولذلك يصعب على الكثير من الشرقيين الاستماع إلى الموسيقى السيمفونية بألحانها المتوازية، دون تدرب. كذلك يظهر الأمر فى اعتماد موسيقانا على التطريب. وهى حالة من اللذة التى تنتج عن الانفصال عن الخارجي، والانغماس فى الذات، على عكس ذهنية الموسيقى السيمفونية التى تثير التأمل والتفكير فى الخارج. وهكذا نجد أن الموسيقى والعمارة يعبران معا عن عقلية ومشاعر البلاد المنتجة لهما.