كتب :إبراهيم عبد المجيد
هل للكتَّاب خطيئة؟ نعم. والعجيب أنهم لا يدركونها. هل يمكن أن توجزها فى كلمة أو جملة؟ الإجابة هى عدم التوافق مع المجتمع. كيف لا يدركونها؟ لأن الكتابة ليست فعلهم، هى قدرهم أو نتاج موهبتهم. أقصد هنا بالكتاب المبدعين وليس المفكرين. المفكرون على وعى بما يفعلون. وعىاً تاماً فهم يكتبون عن أفكار يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، بينما الإبداع يمكن الإعجاب أو عدم الإعجاب به. بمعنى أنه ابن النفس البشرية أو الروح، ليكون الأمر أكثر وضوحا، فكلما اكتمل رسم الشخصية رأيتها أمامك. بينما الفكر ابن العقل تفهمه ولا تراه. الفارق بين العمل الأدبى الردىء والجيد هو اختفاء الروح وظهور العقل، لأن العقل يمكن أن يجعل الكاتب يرسم شخصيته الشريرة بطريقة تجعلك تكرهها، بينما الروح تجعلها شخصية فنية تحبها. تحبها هى ولا تحب الشر. تندهش منها وتنصرف عنها مادمت قارئا، إلى شخصيات أخرى أجمل فنيا، شريرة أو فاضلة. هل كره أحد فاوست الشيطان كشخصية فنية رغم كراهية الناس للشيطان؟ هل كره أحد محمود مرسى كفنان بعد أن شاهد فيلم اشىء من الخوفب وهل فعل مثله أحد إلا الأشرار من الأصل لا من القراءة.
أما لماذا لا يتوافق المبدعون مع المجتمع فلأنهم يشعرون بما لا يشعر الآخرون. فمهما كانت الإنجازات حولهم فى كل مظاهر الحياة الاقتصادية والسياسية طيبة، يرون العالم غير مكتمل. أدرك ذلك أفلاطون مبكرا فجعل مدينته الفاضلة خالية من الشعراء، لأنهم حتى فى الجنة كما يتصورها لن يجدوها مكتملة. هل يقصد الكاتب ذلك؟ لا طبعا. هو مفعول به، فالموهبة تجعله فى قلب العاصفة يلوذ مثل قطة بجدار، ويكتب منصرفا عما حوله، وكما يمكن أن تداهم القطة سيارة، يمكن أن يداهمه مدعي، بارتكاب الآثام، مادام هناك حُكم شمولي يضع خطوطا حمراء وخطوطا بيضاء لكل شئ، دون إدراك أن الإبداع لا يقف عند الخطوط البيضاء، فالطبيعى للبشر ولكل نظم الحكم أن تقوم بعملها، لكن الخطوط الحمراء هى ما يُشعل روح المبدع. كل الدول التى وضعت هذه الخطوط الحمراء مثل ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية أو روسيا والصين الشيوعية، غادرها العدد الأكبر من المبدعين فى الأدب والفن إلى أوروبا وأمريكا، وتوقف آخرون عن الكتابة أو انتحروا، أو كتبوا ولم ينشروا أعمالهم، انتظارا ليوم أجمل تتسع فيه الحياة، والذين كتبوا كانوا فى معظمهم من متوسطى الموهبة لم تصمد أعمالهم للزمن. هل يقصد المبدع أن يفعل ذلك؟ لا. لأنه إذا قصد يكون قد أدخل العقل ليحثه أن يفعل ذلك، لتتم محاكمته ويزداد شهرة. والذى يفعل ذلك بإرادته، عادة يكون أقل موهبة، باحثا عن الشهرة، لا متعة الكتابة. عدم التوافق مع المجتمع أو الخروج على المألوف أمر يتصل بالمشاعر المرهفة.
المبدعون يصل بهم عدم التوافق مع المجتمع إلى درجة أنهم يرون الحياة هى شخصيات رواياتهم، أو قصائدهم عن الأرض الخراب. ورجال ونساء حياتهم، هم شخوص الرواية، وبعض الكتاب يبحثون عنهم فى الطرقات، كما يحدث معى دون قصد، وأكتشف ذلك بعد أن أفعله. الشخصيات هى من يعيش معها الكاتب معظم وقته، إن لم يكن كله وهو يكتب، لدرجة أنه كثيرا ما ينادى من يقابلهم من شخوص الحياة بأسماء شخوصه، ويتسبب الأمر كثيرا فى الضحك. أحيانا ينتبه الكاتب إلى ذلك قبل أن يفعله، ويكون سبب الانتباه أنه جالس فى مكان عام مثل المقهى مع آخرين ويتحدثون فى أمور الحياة الواقعية، لكنه ما إن يعود إلى نفسه، حتى تعيده شخصياته إلى عالمها. المدهش أن المبدع كلما توحَّد بعالمه إذا عاد إلى ما حوله يراه يزداد خرابا عن ذى قبل، وكأن فى الكون قوة تدفعه أن يظل غريبا. لذلك لا تسمع من المبدعين عادة أيّ كلمة رضا عما حولهم، كأنهم يتفاجأون به. يمكن جدا ويحدث، أن يكتب المبدع عن شارع مليئ بكل الموبقات، لكن الصدق الفنى يجعلك تحب الشارع، الذى إذا مشيت فيه حقيقة ستكرهه، وتسخط على المحافظين الذين تركوه هكذا لا على الكاتب. بينما يفعل المبدع ذلك، فالعقل يدخل فى فهمه لتاريخ الأدب والفن، وكيف تطورت الأشكال الأدبية والفنية، وهنا يحاول أن يبنى بيته الخاص بينها، بيت جديد، أو بيت فوق القديم بشكل فيه اختلاف. تحكم المبدع فى ذلك أشياء أخرى مثل اللغة، التى حين تخرج من عقله لتتماهى مع الشخصية، تصبح كالسحر ويسأل القارئ نفسه، كيف تكون لغة الشخصيات مختلفة الإيقاع هكذا؟ ولماذا لا تكون كلها بلغة الكاتب نفسه؟ والجواب أن التوحد بين الكاتب وشخصياته هو من يفعل ذلك، ومن هنا، من عدم فهم ذلك، يأتى من يتصورون أنهم عقلاء الأمة، ليقولوا كيف يستخدم كاتب هذه الألفاظ، ناسين أن الذى استخدمها هم شخصياته، وهم من أجبروه فى حالة التوحد معهم، أن يفعل ذلك.
السيناتور جوزيف مكارثى فى أمريكا فى بداية خمسينيات القرن الماضى، وضع للكتابة خطوطا حمراء، فترك له الكتاب والفنانون البلاد، ومنهم ويا للعجب شارلى شابلن، لأنه سيادته، مكارثى، اتهمهم بالشيوعية، ونسى أن شارلى شابلن هو صاحب أجمل فيلم عن الديكتاتور هتلر وكذلك غادر أمريكا هنرى ميللر وهو الذى تحفل رواياته بالجنس، والألفاظ والمسميات الجنسية التى كثيرا ما تكون فجة فى وضوحها، والتى لا تحبها الكتابة فى الدول الشيوعية ذاتها، أو ليست من الخطوط البيضاء هناك.
عقل المبدع يمكن أن يظهر فى بداية الكتابة، لكن ما أن يبدأ فيها حتى تكون الروح والشخوص هى التى تمشى به. المبدع لن يضع على لسان العاهرة ألفاظا لا تتسق معها، فلو فعل ذلك خسر كثيرا من الصدق الفنى. هذا يعرفه الكتاب، وهنا يأتى العقل قبل الكتابة فى شكل نيّة وتأهب، أو بعد الكتابة فى شكل مراجعة ليزداد الصدق الفنى بحذف ما لا يتناسب مع الشخصية لا مع المجتمع، لكن ما يهمنى أن أحدا ممن ينكر ذلك على الكاتب، لا يدرك معنى الكتابة، فيقيم له المحاكمة، ولا ينظر أحد خلفه، ليرى أن كل المحاكمات للكتاب، أو المنع والهجوم على أعمالهم، فلوبير بعد امدام بوفارىب، أو مثل ديفيد هربرت لورانس بعد اعشيق الليدى تشاترلىب أو مثل بودلير أو نجيب محفوظ بعد اأولاد حارتناب، وكثيرون جدا، سواء كانت المحاكمة فى المحاكم أو فى الصحف والرأى العام، قد انتشرت أعمالهم باتساع مع الزمن، وصارت الأكثر رواجا. كما لا يدرك ذلك الآن هواة المحاكمة وهواة الميديا معا، فتنتشر الأعمال على الميديا بسرعة رهيبة، ويدخل عليها القراء بالآلاف يصلون إلى ملايين أحيانا. لا يدرك أصحاب الخطوط الحمراء أنهم يروجون لما يتصورون أنه سيئ. المبدع وهو يفعل ذلك، يجد نفسه دون أن يدرك، فى منطقة الرفض، ومن ثم منطقة النبوءات التى لا يكتشفها إلا بعد حدوثها. من أين يأتى ذلك؟ يأتى لأن كل كاتب ينشد عالما أجمل، فنيا من فضلك، فشخوصه وأحداثه لا تمرعليك وتنساها فى لحظتها، بل تستقر فى روحك ولو بعض الوقت. وربما إلى الأبد. الصدق الفنى والمعرفة الخفية بالواقع، التى هى الإحساس، تجعله أحيانا يصدح بما يمكن أن يأتي، لكنه عادة لا يكون على دراية بذلك. الكاتب ليس عرّافا لكنه مستشرف وتسبق مشاعره ما حولها. يوما ما بعد حرب الكويت الأولى، جاءنى كاتب شاب يحمل روايتى ابيت الياسمينب مندهشا جدا، وكانت قد صدرت عام 1986، ويطلعنى على صفحة يقول فيها أحد الشخوص لزميله احتقوم حرب فى الكويت والبترول يولعب. كان ذلك قبل غزو الكويت بخمس سنوات. كيف كتبت ذلك؟ ببساطة لأن شخصا يحلم أن يسافر إلى الكويت، ولا يكف عن الكلام عن رغبته ومعاناته هنا، حتى زهق منه أحد أبطال الرواية وقال له، كف عن الحديث ستقوم حرب فى الكويت والبترول يولع! لم يكن هذا تنبؤا لكنه الشخصية الأخرى أمام إلحاح من يريد السفر، يقول له ذلك ليستريح من حديثه. عام 1992 كنت أنشر روايتى القصيرة اقناديل البحرب مسلسلة فى مجلة نصف الدنيا، وكنت قد أعطيتها لهم بخط يدى وأذهب كل أسبوع أراجع البروفة بنفسى. يوما ما وأنا أصعد السلم إلى المجلة، وكانت فى مبنى صغير غير الموجود الآن، حدث الزلزال الشهير، ورأيت الكل يفرّ إلى الشارع ففعلت مثلهم. فى اليوم التالى ذهبت لأراجع البروفة، فوجدت مونولوجا لبطل الرواية يقول فيه اهذه البلاد التى تسمى مصر، والتى تقع فى الجزء الشمالى الشرقى من قارة أفريقيا، سوف تتعرض لحركات تكتونية عنيفة، تهز الأرض والجبالب اندهشت جدا لأن الحركات التكتونية هى الزلازل والتغيرات العنيفة فى الأرض. وببساطة أدركت أن مونولوج البطل لأنه يشعر بالاغتراب الشديد، فهو مقاتل من حرب أكتوبر يرى الأمور تمشى عكس ما كانوا يتوقعون من رغد وعيش كريم. الصدق الفنى هو الذى كان وراء مونولوج البطل. قبل ذلك بكثير وفى عام 1975نشرت قصة قصيرة بمجلة االطليعةب بعنوان اتعليقات من الحربب فيها جنديان محاصران بالجيش الثالث يتحدثان بالليل، عما فعله الجيش من بطولات فقال أحدهما ابعد أن تنتهى الحرب ونعود إلى بلادنا سيأتى مقاولون وتجار خردة يفوزون بكل شىءب وهذا ما حدث. كنت أعرف سياسة الرئيس السادات وأفهمها فقط لا غير. بعد ذلك نشرت رواية افى كل أسبوع يوم جمعةب عام 2009 قبل الثورة بعامين، وكان يوم الجمعة فى الرواية يوم النهايات والبدايات والكل يعرف كيف كانت أيام الجمع فى وقت الثورة وبعدها. كان سبب الاختيار هو أن يوم الجمعة فى تراثنا يوم للنهايات والبدايات. توافق الأمر مع ثورة يناير، لكنى كنت متوافقا فى الكتابة مع المعنى التراثى لليوم. الكتّاب لا يقصدون التنبؤ لكنه الصدق الفنى، وصدق الشعور بما يكتبون، وخوفهم من الظلام وحنينهم إلى النور، يأتى بالنبوءات التى لا يعرفها الكاتب إلا بعد أن تحدث. لقد قلت مرة ضاحكا فى إحدى الندوات أنى كتبت رواية الا أحد ينام فى الإسكندريةب حتى إذا وقعت نبوءة ما تقع بعيدا عنا هناك
فى الأربعينيات أثناء الحرب العالمية الثانية. حين كتب أمل دنقل قصيدته اكلمات سبارتاكوس الأخيرةب قبل النكسة وكتب فيها محذرا من صيف قد يأتى مدمرا كل شىء أجمعت الدنيا بعد النكسة أنه كان يتنبأ بها. هو نفسه لم يكن يدرى ولا أى كاتب. هو كان يوجه نذارا بروحه الرافضة للظلم لأن المبدع أكثر غضبا ما حوله ومن ثم أكثر رؤية للأخطار القادمة. إنه لا يتعامل بالمنطق العقلانى رغم ثقافته، لكنها المشاعر التى تصل به إلى ما هو مطلق وغير نسبى. وتستطيع أن تمشى فى ذلك مع كل من قيل عنه أو قال هو عن نفسه أنه تنبأ بكذا. المبدع الذى يتنبأ، وعادة تكون النبوءة بالكوارث والأحداث الكبرى، لماذا إذا كان عرافا لا يتنبأ بشىء طيب، ولماذا لا يدرك ذلك فيعلنه مبكرا فى أحاديثه؟ لأنه ببساطة ليس عرافا بقدر ما لا يرى ما حوله طيبا ومن ثم تأتى نبوءاته متشائمة. المبدع الذى تحاكمه السلطات عن ذلك، لا تدرك أنه يمكن حين يسمع نداء الفجر والدنيا صامته حوله، أن يبكى ويتمنى الصعود إلى السماء بلا عودة. يتعاملون معه كأنه نجار يعرف ما يفعل، ويطلبون منه أن يصنع لهم كنبة تتسع لهم جميعا، هم الذين أخفوا المقاعد عن الناس.
لا ألوم أحدا فالمشكلة ستظل، خاصة فى بلاد من النوعية التى أشرنا إليها سابقاً،حيث تنتشر شعارات تزيد ثبات المجتمع وعدم حركته ، كأن المبدعين مدرسو تربية وطنية. الأدب يتوحد مع لحظات الضعف للشخوص، وكثيرا ما تكون القوة حبلا يلتف على عنق الشخصية. الخطأ أو الخطيئة التى يراها من يضعون أنفسهم حماة للقيم كما يقولون قدر الكتاب. لم يكن الرضا أبدا منجما للإبداع. حتى أن كثيرا من المبدعين، وهم لا يدرون أنهم غير راضين، قد ينتحرون يوما، أو يتركون أنفسهم فى الحياة، إلى ما يهلكهم مبكرا. فالإبداع وحده رغم جماله لا يكفيهم. المنتحرون بالعشرات إن لم يكن المئات حول العالم من الفنانين والكتاب. لقد امتد عدم الرضا للمبدع إلى نفسه، والوصول إلى نقطة أن هذا العالم لا يستحق الحياة.
ألا تكفى تجارب الأمم حتى ينصرف رعاة ما يسمى بالقيم إلى الحياة نفسها لتكون أفضل. أن يكون هناك تعليم وصحة أفضل للناس مثلا.
هنرى ميللر
لقد غاليت فى قولى بالخطيئة لكنى ركبت أعلى موجة للانتقاد، ولم يكن ذلك إلا لأنها مقررة سلف،لا يستطيع المبدع أن يتخلص منها، لانه فى اللحظة التى يفكر فيها أن يكون متوائما مع الشعارات الجوفاء، سينتج عملا رديئا فيه من العقل أكثر مما فيه من الروح. الفارق أن الخطيئة المقررة سلفا هنا، لن تكون مثل خطايا الأساطير سببا فى الوباء يحل بالبلاد. لقد كانت خطيئة أوديب مقررة سلفا، وحل بعدها الوباء بطيبة، لأن أوديب لم يكن أديبا ولا فنانا. كان حاكما ارتكب الخطايا. قتل أباه وتزوج أمه وهو لا يدرى. ورغم أنه فعل ذلك دون إرادة منه إلا أن الوباء حل بطيبة.
المبدع ليس حاكما ولن يكون، فجمهوريته أو مملكته كلها من أشخاص افتراضية غير حقيقية، قد يتجمعون حوله فى المساء سعداء، أو هو يتمنى أن يحدث ذلك، لكن حتى هذا لا يحدث ويظل وحيدا. يزداد اغترابه بما يكتب أكثر من تدهور الأحوال حوله، فهو لا ينتظر إصلاحا من الأصل. لا أذكر من من الكتاب، أظنه أرنست فيشر إن لم تخنى الذاكرة، قد كتب يوما معلقا على أحلام الشيوعيين فى الاتحاد السوفييتى، أنهم حين ينجحون ويحل العدل لن تكون هناك حاجة للرواية، والذى حدث أنهم لم ينجحوا وانفجرت الروايات خارج وداخل الاتحاد السوفييتى، وانتهى الاتحاد السوفييتى نفسه، وبالمناسبة لن ينجح أحد فى أى مكان فى إقامة المدينة الفاضلة التى تنتهى معها الرويات أو الشعر فالسياسة فن الممكن. المدهش أن من جعلوا الناس تفكر فى الآلهة والأديان التى يدافع بها البعض عن هجومه على الإبداع هم الفنانون أنفسهم ولا أحد يتذكر. هم المبدعون . تخيل أنه دون رسومات على الجدران للإنسان القديم عن الآلهة والأساطير التى نسجها، ودون بها الملاحم التى كانوا يحكونها فى البلاد فى كتب، هل كان أحد سيعرف بوجود الآلهة. حتى الكتب السماوية التى جاءت تحمل كثيرا من هذه القصص دونها الإنسان فى كتاب. تخيل لو أنه لم يدونها ماذا كان يمكن أن يحدث. وفى
أى مكان كانت ستستقر الأديان.