خطيئة الكتَّاب

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

 كتب :إبراهيم‭ ‬عبد‭ ‬المجيد

هل‭ ‬للكتَّاب‭ ‬خطيئة؟‭ ‬نعم‭. ‬والعجيب‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يدركونها‭. ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توجزها‭ ‬فى‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬جملة؟‭ ‬الإجابة‭ ‬هى‭ ‬عدم‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬يدركونها؟‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ ‬ليست‭ ‬فعلهم،‭ ‬هى‭ ‬قدرهم‭ ‬أو‭ ‬نتاج‭ ‬موهبتهم‭. ‬أقصد‭ ‬هنا‭ ‬بالكتاب‭ ‬المبدعين‭ ‬وليس‭ ‬المفكرين‭. ‬المفكرون‭ ‬على‭ ‬وعى‭ ‬بما‭ ‬يفعلون‭. ‬وعىاً‭ ‬تاماً‭ ‬فهم‭ ‬يكتبون‭ ‬عن‭ ‬أفكار‭ ‬يمكن‭ ‬الاتفاق‭ ‬أو‭ ‬الاختلاف‭ ‬معها،‭ ‬بينما‭ ‬الإبداع‭ ‬يمكن‭ ‬الإعجاب‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬الإعجاب‭ ‬به‭. ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬ابن‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬أو‭ ‬الروح،‭ ‬ليكون‭ ‬الأمر‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا،‭ ‬فكلما‭ ‬اكتمل‭ ‬رسم‭ ‬الشخصية‭ ‬رأيتها‭ ‬أمامك‭. ‬بينما‭ ‬الفكر‭ ‬ابن‭ ‬العقل‭ ‬تفهمه‭ ‬ولا‭ ‬تراه‭. ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬الأدبى‭ ‬الردىء‭ ‬والجيد‭  ‬هو‭ ‬اختفاء‭ ‬الروح‭ ‬وظهور‭ ‬العقل،‭ ‬لأن‭ ‬العقل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الكاتب‭ ‬يرسم‭ ‬شخصيته‭ ‬الشريرة‭ ‬بطريقة‭ ‬تجعلك تكرهها،‭ ‬بينما‭ ‬الروح‭ ‬تجعلها‭ ‬شخصية‭ ‬فنية‭ ‬تحبها‭. ‬تحبها‭ ‬هى‭ ‬ولا‭ ‬تحب‭ ‬الشر‭. ‬تندهش‭ ‬منها‭ ‬وتنصرف‭ ‬عنها‭ ‬مادمت‭ ‬قارئا،‭ ‬إلى‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬أجمل‭ ‬فنيا،‭ ‬شريرة‭ ‬أو‭ ‬فاضلة‭. ‬هل‭ ‬كره‭ ‬أحد‭ ‬فاوست‭ ‬الشيطان‭ ‬كشخصية‭ ‬فنية‭ ‬رغم‭ ‬كراهية‭ ‬الناس‭ ‬للشيطان؟‭ ‬هل‭ ‬كره‭ ‬أحد‭ ‬محمود‭ ‬مرسى‭ ‬كفنان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬شاهد‭ ‬فيلم‭ ‬اشىء‭ ‬من‭ ‬الخوفب‭ ‬وهل‭ ‬فعل‭ ‬مثله‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬الأشرار‭ ‬من‭ ‬الأصل‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬القراءة‭.  ‬

أما‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يتوافق‭ ‬المبدعون‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬فلأنهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬الآخرون‭. ‬فمهما‭ ‬كانت‭ ‬الإنجازات‭ ‬حولهم‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬طيبة،‭ ‬يرون‭ ‬العالم‭ ‬غير‭ ‬مكتمل‭. ‬أدرك‭ ‬ذلك‭ ‬أفلاطون‭ ‬مبكرا‭ ‬فجعل‭ ‬مدينته‭ ‬الفاضلة‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬لأنهم‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬الجنة‭ ‬كما‭ ‬يتصورها‭ ‬لن‭ ‬يجدوها‭ ‬مكتملة‭. ‬هل‭ ‬يقصد‭ ‬الكاتب‭ ‬ذلك؟‭ ‬لا‭ ‬طبعا‭. ‬هو‭ ‬مفعول‭ ‬به،‭ ‬فالموهبة‭ ‬تجعله‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬العاصفة‭ ‬يلوذ‭ ‬مثل‭ ‬قطة‭ ‬بجدار،‭ ‬ويكتب‭ ‬منصرفا‭ ‬عما‭ ‬حوله،‭ ‬وكما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تداهم‭ ‬القطة‭ ‬سيارة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يداهمه‭ ‬مدعي،‭ ‬بارتكاب‭ ‬الآثام،‭ ‬مادام‭ ‬هناك‭ ‬حُكم‭ ‬شمولي‭ ‬يضع‭ ‬خطوطا‭ ‬حمراء‭ ‬وخطوطا‭ ‬بيضاء‭ ‬لكل‭ ‬شئ،‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬الإبداع‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬الخطوط‭ ‬البيضاء،‭ ‬فالطبيعى‭ ‬للبشر‭ ‬ولكل‭ ‬نظم‭ ‬الحكم‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بعملها،‭ ‬لكن‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬هى‭ ‬ما‭ ‬يُشعل‭ ‬روح‭ ‬المبدع‭. ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬التى‭ ‬وضعت‭ ‬هذه‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬مثل‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية‭ ‬أو‭ ‬إيطاليا‭ ‬الفاشية‭ ‬أو‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬الشيوعية،‭ ‬غادرها‭ ‬العدد‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬وأمريكا،‭ ‬وتوقف‭ ‬آخرون‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬انتحروا،‭ ‬أو‭ ‬كتبوا‭ ‬ولم‭ ‬ينشروا‭ ‬أعمالهم،‭ ‬انتظارا‭ ‬ليوم‭ ‬أجمل‭ ‬تتسع‭ ‬فيه‭ ‬الحياة،‭ ‬والذين‭ ‬كتبوا‭ ‬كانوا‭ ‬فى‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬متوسطى‭ ‬الموهبة‭ ‬لم‭ ‬تصمد‭ ‬أعمالهم‭ ‬للزمن‭. ‬هل‭ ‬يقصد‭ ‬المبدع‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك؟‭ ‬لا‭. ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬قصد‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬أدخل‭ ‬العقل‭ ‬ليحثه‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬لتتم‭ ‬محاكمته‭ ‬ويزداد‭ ‬شهرة‭. ‬والذى‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بإرادته،‭ ‬عادة‭ ‬يكون‭ ‬أقل‭ ‬موهبة،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬الشهرة،‭ ‬لا‭ ‬متعة‭ ‬الكتابة‭. ‬عدم‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬المألوف‭ ‬أمر‭ ‬يتصل‭ ‬بالمشاعر‭ ‬المرهفة‭. ‬

المبدعون‭ ‬يصل‭ ‬بهم‭ ‬عدم‭ ‬التوافق‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنهم‭ ‬يرون‭ ‬الحياة‭ ‬هى‭ ‬شخصيات‭ ‬رواياتهم،‭ ‬أو‭ ‬قصائدهم‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬الخراب‭. ‬ورجال‭ ‬ونساء‭ ‬حياتهم،‭ ‬هم‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتاب‭ ‬يبحثون‭ ‬عنهم‭ ‬فى‭ ‬الطرقات،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬معى‭ ‬دون‭ ‬قصد،‭ ‬وأكتشف‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أفعله‭. ‬الشخصيات‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬يعيش‭ ‬معها‭ ‬الكاتب‭ ‬معظم‭ ‬وقته،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كله‭ ‬وهو‭ ‬يكتب،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬ينادى‭ ‬من‭ ‬يقابلهم‭ ‬من‭ ‬شخوص‭ ‬الحياة‭ ‬بأسماء‭ ‬شخوصه،‭ ‬ويتسبب‭ ‬الأمر‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬الضحك‭. ‬أحيانا‭ ‬ينتبه‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفعله،‭ ‬ويكون‭ ‬سبب‭ ‬الانتباه‭ ‬أنه‭ ‬جالس‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬عام‭ ‬مثل‭ ‬المقهى‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬ويتحدثون‭ ‬فى‭ ‬أمور‭ ‬الحياة‭ ‬الواقعية،‭ ‬لكنه‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬حتى‭ ‬تعيده‭ ‬شخصياته‭ ‬إلى‭ ‬عالمها‭. ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬المبدع‭ ‬كلما‭ ‬توحَّد‭ ‬بعالمه‭ ‬إذا‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حوله‭ ‬يراه‭ ‬يزداد‭ ‬خرابا‭ ‬عن‭ ‬ذى‭ ‬قبل،‭ ‬وكأن‭ ‬فى‭ ‬الكون‭ ‬قوة‭ ‬تدفعه‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬غريبا‭. ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬عادة‭ ‬أيّ‭ ‬كلمة‭ ‬رضا‭ ‬عما‭ ‬حولهم،‭ ‬كأنهم‭ ‬يتفاجأون‭ ‬به‭. ‬يمكن‭ ‬جدا‭ ‬ويحدث،‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬المبدع‭ ‬عن‭ ‬شارع‭ ‬مليئ‭ ‬بكل‭ ‬الموبقات،‭ ‬لكن‭ ‬الصدق‭ ‬الفنى‭ ‬يجعلك‭ ‬تحب‭ ‬الشارع،‭ ‬الذى‭ ‬إذا‭ ‬مشيت‭ ‬فيه‭ ‬حقيقة‭ ‬ستكرهه،‭ ‬وتسخط‭ ‬على‭ ‬المحافظين‭ ‬الذين‭ ‬تركوه‭ ‬هكذا‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭. ‬بينما‭ ‬يفعل‭ ‬المبدع‭ ‬ذلك،‭ ‬فالعقل‭ ‬يدخل‭ ‬فى‭ ‬فهمه‭ ‬لتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬والفن،‭ ‬وكيف‭ ‬تطورت‭ ‬الأشكال‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية،‭ ‬وهنا‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يبنى‭ ‬بيته‭ ‬الخاص‭ ‬بينها،‭ ‬بيت‭ ‬جديد،‭ ‬أو‭ ‬بيت‭ ‬فوق‭ ‬القديم‭ ‬بشكل‭ ‬فيه‭ ‬اختلاف‭. ‬تحكم‭ ‬المبدع‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬اللغة،‭ ‬التى‭ ‬حين‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬عقله‭ ‬لتتماهى‭ ‬مع‭ ‬الشخصية،‭ ‬تصبح‭ ‬كالسحر‭ ‬ويسأل‭ ‬القارئ‭ ‬نفسه،‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬لغة‭ ‬الشخصيات‭ ‬مختلفة‭ ‬الإيقاع‭ ‬هكذا؟‭ ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬كلها‭ ‬بلغة‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه؟‭ ‬والجواب‭ ‬أن‭ ‬التوحد‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬وشخصياته‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬ومن‭ ‬هنا،‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬فهم‭ ‬ذلك،‭ ‬يأتى‭ ‬من‭ ‬يتصورون‭ ‬أنهم‭ ‬عقلاء‭ ‬الأمة،‭ ‬ليقولوا‭ ‬كيف‭ ‬يستخدم‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬الألفاظ،‭ ‬ناسين‭ ‬أن‭ ‬الذى‭ ‬استخدمها‭ ‬هم‭ ‬شخصياته،‭ ‬وهم‭ ‬من‭ ‬أجبروه‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬التوحد‭ ‬معهم،‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭. ‬
السيناتور‭ ‬جوزيف‭ ‬مكارثى‭ ‬فى‭ ‬أمريكا‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى،‭ ‬وضع‭ ‬للكتابة‭ ‬خطوطا‭ ‬حمراء،‭ ‬فترك‭ ‬له‭ ‬الكتاب‭ ‬والفنانون‭ ‬البلاد،‭ ‬ومنهم‭ ‬ويا‭ ‬للعجب‭ ‬شارلى‭ ‬شابلن،‭ ‬لأنه‭ ‬سيادته،‭ ‬مكارثى،‭ ‬اتهمهم‭ ‬بالشيوعية،‭ ‬ونسى‭ ‬أن‭ ‬شارلى‭ ‬شابلن‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬أجمل‭ ‬فيلم‭ ‬عن‭ ‬الديكتاتور‭ ‬هتلر‭ ‬وكذلك‭ ‬غادر‭ ‬أمريكا‭ ‬هنرى‭ ‬ميللر‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬تحفل‭ ‬رواياته‭ ‬بالجنس،‭ ‬والألفاظ‭ ‬والمسميات‭ ‬الجنسية‭ ‬التى‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬فجة‭ ‬فى‭ ‬وضوحها،‭ ‬والتى‭ ‬لا‭ ‬تحبها‭ ‬الكتابة‭ ‬فى‭ ‬الدول‭ ‬الشيوعية‭ ‬ذاتها،‭ ‬أو‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الخطوط‭ ‬البيضاء‭ ‬هناك‭. ‬
عقل‭ ‬المبدع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬الكتابة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬تكون‭ ‬الروح‭ ‬والشخوص‭ ‬هى‭ ‬التى‭ ‬تمشى‭ ‬به‭. ‬المبدع‭ ‬لن‭ ‬يضع‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬العاهرة‭ ‬ألفاظا‭ ‬لا‭ ‬تتسق‭ ‬معها،‭ ‬فلو‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬خسر‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الصدق‭ ‬الفنى‭. ‬هذا‭ ‬يعرفه‭ ‬الكتاب،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتى‭ ‬العقل‭ ‬قبل‭ ‬الكتابة‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬نيّة‭ ‬وتأهب،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬الكتابة‭ ‬فى‭ ‬شكل‭ ‬مراجعة‭ ‬ليزداد‭ ‬الصدق‭ ‬الفنى‭ ‬بحذف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬الشخصية‭ ‬لا‭ ‬مع‭ ‬المجتمع،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يهمنى‭ ‬أن‭ ‬أحدا‭ ‬ممن‭ ‬ينكر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الكاتب،‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬معنى‭ ‬الكتابة،‭ ‬فيقيم‭ ‬له‭ ‬المحاكمة،‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬أحد‭ ‬خلفه،‭ ‬ليرى‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المحاكمات‭ ‬للكتاب،‭ ‬أو‭ ‬المنع‭ ‬والهجوم‭ ‬على‭ ‬أعمالهم،‭  ‬فلوبير‭ ‬بعد‭ ‬امدام‭ ‬بوفارىب،‭ ‬أو‭ ‬مثل‭ ‬ديفيد‭ ‬هربرت‭ ‬لورانس‭ ‬بعد‭ ‬اعشيق‭ ‬الليدى‭ ‬تشاترلىب‭ ‬أو‭ ‬مثل‭ ‬بودلير‭ ‬أو‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬بعد‭ ‬اأولاد‭ ‬حارتناب،‭ ‬وكثيرون‭ ‬جدا،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬المحاكمة‭ ‬فى‭ ‬المحاكم‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬الصحف‭ ‬والرأى‭ ‬العام،‭ ‬قد‭ ‬انتشرت‭ ‬أعمالهم‭ ‬باتساع‭ ‬مع‭ ‬الزمن،‭ ‬وصارت‭ ‬الأكثر‭ ‬رواجا‭. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬ذلك‭ ‬الآن‭ ‬هواة‭ ‬المحاكمة‭ ‬وهواة‭ ‬الميديا‭ ‬معا،‭ ‬فتنتشر‭ ‬الأعمال‭ ‬على‭ ‬الميديا‭ ‬بسرعة‭ ‬رهيبة،‭ ‬ويدخل‭ ‬عليها‭ ‬القراء‭ ‬بالآلاف‭ ‬يصلون‭ ‬إلى‭ ‬ملايين‭ ‬أحيانا‭. ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬أصحاب‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬أنهم‭ ‬يروجون‭ ‬لما‭ ‬يتصورون‭ ‬أنه‭ ‬سيئ‭. ‬المبدع‭ ‬وهو‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدرك،‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬الرفض،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬منطقة‭ ‬النبوءات‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يكتشفها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬حدوثها‭. ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأتى‭ ‬ذلك؟‭ ‬يأتى‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬كاتب‭ ‬ينشد‭ ‬عالما‭ ‬أجمل،‭ ‬فنيا‭ ‬من‭ ‬فضلك،‭ ‬فشخوصه‭ ‬وأحداثه‭ ‬لا‭ ‬تمرعليك‭ ‬وتنساها‭ ‬فى‭ ‬لحظتها،‭ ‬بل‭ ‬تستقر‭ ‬فى‭ ‬روحك‭ ‬ولو‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭. ‬وربما‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭. ‬الصدق‭ ‬الفنى‭ ‬والمعرفة‭ ‬الخفية‭ ‬بالواقع،‭ ‬التى‭ ‬هى‭ ‬الإحساس،‭ ‬تجعله‭ ‬أحيانا‭ ‬يصدح‭ ‬بما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي،‭ ‬لكنه‭ ‬عادة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬دراية‭ ‬بذلك‭. ‬الكاتب‭ ‬ليس‭ ‬عرّافا‭ ‬لكنه‭ ‬مستشرف‭ ‬وتسبق‭ ‬مشاعره‭ ‬ما‭ ‬حولها‭. ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬الكويت‭ ‬الأولى،‭ ‬جاءنى‭ ‬كاتب‭ ‬شاب‭ ‬يحمل‭ ‬روايتى‭ ‬ابيت‭ ‬الياسمينب‭ ‬مندهشا‭ ‬جدا،‭ ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬صدرت‭ ‬عام‭ ‬1986،‭ ‬ويطلعنى‭ ‬على‭ ‬صفحة‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬الشخوص‭ ‬لزميله‭ ‬احتقوم‭ ‬حرب‭ ‬فى‭ ‬الكويت‭ ‬والبترول‭ ‬يولعب‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬قبل‭ ‬غزو‭ ‬الكويت‭ ‬بخمس‭ ‬سنوات‭. ‬كيف‭ ‬كتبت‭ ‬ذلك؟‭ ‬ببساطة‭ ‬لأن‭ ‬شخصا‭ ‬يحلم‭ ‬أن‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ ‬الكويت،‭ ‬ولا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬رغبته‭ ‬ومعاناته‭ ‬هنا،‭ ‬حتى‭ ‬زهق‭ ‬منه‭ ‬أحد‭ ‬أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬وقال‭ ‬له،‭ ‬كف‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬ستقوم‭ ‬حرب‭ ‬فى‭ ‬الكويت‭ ‬والبترول‭ ‬يولع‭! ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬تنبؤا‭ ‬لكنه‭ ‬الشخصية‭ ‬الأخرى‭ ‬أمام‭ ‬إلحاح‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬السفر،‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬ليستريح‭ ‬من‭ ‬حديثه‭. ‬عام‭ ‬1992‭ ‬كنت‭ ‬أنشر‭ ‬روايتى‭ ‬القصيرة‭ ‬اقناديل‭ ‬البحرب‭ ‬مسلسلة‭ ‬فى‭ ‬مجلة‭ ‬نصف‭ ‬الدنيا،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬أعطيتها‭ ‬لهم‭ ‬بخط‭ ‬يدى‭ ‬وأذهب‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬أراجع‭ ‬البروفة‭ ‬بنفسى‭. ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬وأنا‭ ‬أصعد‭ ‬السلم‭ ‬إلى‭ ‬المجلة،‭ ‬وكانت‭ ‬فى‭ ‬مبنى‭ ‬صغير‭ ‬غير‭ ‬الموجود‭ ‬الآن،‭ ‬حدث‭ ‬الزلزال‭ ‬الشهير،‭ ‬ورأيت‭ ‬الكل‭ ‬يفرّ‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬ففعلت‭ ‬مثلهم‭. ‬فى‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬ذهبت‭ ‬لأراجع‭ ‬البروفة،‭ ‬فوجدت‭ ‬مونولوجا‭ ‬لبطل‭ ‬الرواية‭  ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬اهذه‭ ‬البلاد‭ ‬التى‭ ‬تسمى‭ ‬مصر،‭ ‬والتى‭ ‬تقع‭ ‬فى‭ ‬الجزء‭ ‬الشمالى‭ ‬الشرقى‭ ‬من‭ ‬قارة‭ ‬أفريقيا،‭ ‬سوف‭ ‬تتعرض‭ ‬لحركات‭ ‬تكتونية‭ ‬عنيفة،‭ ‬تهز‭ ‬الأرض‭ ‬والجبالب‭ ‬اندهشت‭ ‬جدا‭ ‬لأن‭ ‬الحركات‭ ‬التكتونية‭ ‬هى‭ ‬الزلازل‭ ‬والتغيرات‭ ‬العنيفة‭ ‬فى‭ ‬الأرض‭. ‬وببساطة‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬مونولوج‭ ‬البطل‭ ‬لأنه‭ ‬يشعر‭ ‬بالاغتراب‭ ‬الشديد،‭ ‬فهو‭ ‬مقاتل‭ ‬من‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر‭ ‬يرى‭ ‬الأمور‭ ‬تمشى‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يتوقعون‭ ‬من‭ ‬رغد‭ ‬وعيش‭ ‬كريم‭. ‬الصدق‭ ‬الفنى‭ ‬هو‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬مونولوج‭ ‬البطل‭. ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير‭ ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1975نشرت‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬بمجلة‭ ‬االطليعةب‭ ‬بعنوان‭ ‬اتعليقات‭ ‬من‭ ‬الحربب‭ ‬فيها‭ ‬جنديان‭ ‬محاصران‭ ‬بالجيش‭ ‬الثالث‭ ‬يتحدثان‭ ‬بالليل،‭ ‬عما‭ ‬فعله‭ ‬الجيش‭ ‬من‭ ‬بطولات‭ ‬فقال‭ ‬أحدهما‭ ‬ابعد‭ ‬أن‭ ‬تنتهى‭ ‬الحرب‭ ‬ونعود‭ ‬إلى‭ ‬بلادنا‭ ‬سيأتى‭ ‬مقاولون‭ ‬وتجار‭ ‬خردة‭ ‬يفوزون‭ ‬بكل‭ ‬شىءب‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭. ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬سياسة‭ ‬الرئيس‭ ‬السادات‭ ‬وأفهمها‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬نشرت‭ ‬رواية‭ ‬افى‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬يوم‭ ‬جمعةب‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬بعامين،‭ ‬وكان‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬يوم‭ ‬النهايات‭ ‬والبدايات‭ ‬والكل‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬أيام‭ ‬الجمع‭ ‬فى‭ ‬وقت‭ ‬الثورة‭ ‬وبعدها‭. ‬كان‭ ‬سبب‭ ‬الاختيار‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭  ‬فى‭ ‬تراثنا‭ ‬يوم‭ ‬للنهايات‭ ‬والبدايات‭. ‬توافق‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬يناير،‭ ‬لكنى‭ ‬كنت‭ ‬متوافقا‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬مع‭ ‬المعنى‭ ‬التراثى‭ ‬لليوم‭. ‬الكتّاب‭ ‬لا‭ ‬يقصدون‭ ‬التنبؤ‭ ‬لكنه‭ ‬الصدق‭ ‬الفنى،‭ ‬وصدق‭ ‬الشعور‭ ‬بما‭ ‬يكتبون،‭ ‬وخوفهم‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬وحنينهم‭ ‬إلى‭ ‬النور،‭ ‬يأتى‭ ‬بالنبوءات‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬الكاتب‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭. ‬لقد‭ ‬قلت‭ ‬مرة‭ ‬ضاحكا‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬الندوات‭ ‬أنى‭ ‬كتبت‭ ‬رواية‭ ‬الا‭ ‬أحد‭ ‬ينام‭ ‬فى‭ ‬الإسكندريةب‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬وقعت‭ ‬نبوءة‭ ‬ما‭ ‬تقع‭ ‬بعيدا‭ ‬عنا‭ ‬هناك‭ ‬

فى‭ ‬الأربعينيات‭  ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬قصيدته‭ ‬اكلمات‭ ‬سبارتاكوس‭ ‬الأخيرةب‭ ‬قبل‭ ‬النكسة‭ ‬وكتب‭ ‬فيها‭ ‬محذرا‭ ‬من‭ ‬صيف‭ ‬قد‭ ‬يأتى‭ ‬مدمرا‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬أجمعت‭ ‬الدنيا‭ ‬بعد‭ ‬النكسة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتنبأ‭ ‬بها‭. ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدرى‭ ‬ولا‭ ‬أى‭ ‬كاتب‭. ‬هو‭ ‬كان‭ ‬يوجه‭ ‬نذارا‭ ‬بروحه‭ ‬الرافضة‭ ‬للظلم‭ ‬لأن‭ ‬المبدع‭ ‬أكثر‭ ‬غضبا‭ ‬ما‭ ‬حوله‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أكثر‭ ‬رؤية‭ ‬للأخطار‭ ‬القادمة‭. ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يتعامل‭ ‬بالمنطق‭ ‬العقلانى‭ ‬رغم‭ ‬ثقافته،‭ ‬لكنها‭ ‬المشاعر‭ ‬التى‭ ‬تصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلق‭ ‬وغير‭ ‬نسبى‭. ‬وتستطيع‭ ‬أن‭ ‬تمشى‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قيل‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬قال‭ ‬هو‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬تنبأ‭ ‬بكذا‭. ‬المبدع‭ ‬الذى‭ ‬يتنبأ،‭ ‬وعادة‭ ‬تكون‭ ‬النبوءة‭ ‬بالكوارث‭ ‬والأحداث‭ ‬الكبرى،‭ ‬لماذا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬عرافا‭ ‬لا‭ ‬يتنبأ‭ ‬بشىء‭ ‬طيب،‭ ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬ذلك‭ ‬فيعلنه‭ ‬مبكرا‭ ‬فى‭ ‬أحاديثه؟‭ ‬لأنه‭ ‬ببساطة‭ ‬ليس‭ ‬عرافا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬حوله‭ ‬طيبا‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تأتى‭ ‬نبوءاته‭ ‬متشائمة‭. ‬المبدع‭ ‬الذى‭ ‬تحاكمه‭ ‬السلطات‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬تدرك‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬حين‭ ‬يسمع‭ ‬نداء‭ ‬الفجر‭ ‬والدنيا‭ ‬صامته‭ ‬حوله،‭ ‬أن‭ ‬يبكى‭ ‬ويتمنى‭ ‬الصعود‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬بلا‭ ‬عودة‭. ‬يتعاملون‭ ‬معه‭ ‬كأنه‭ ‬نجار‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬يفعل،‭ ‬ويطلبون‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬لهم‭ ‬كنبة‭ ‬تتسع‭ ‬لهم‭ ‬جميعا،‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬أخفوا‭ ‬المقاعد‭ ‬عن‭ ‬الناس‭. ‬

لا‭ ‬ألوم‭ ‬أحدا‭ ‬فالمشكلة‭ ‬ستظل،‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬من‭ ‬النوعية‭ ‬التى‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬سابقاً،حيث‭ ‬تنتشر‭ ‬شعارات‭ ‬تزيد‭ ‬ثبات‭ ‬المجتمع‭ ‬وعدم‭ ‬حركته‭ ‬،‭ ‬كأن‭ ‬المبدعين‭ ‬مدرسو‭ ‬تربية‭ ‬وطنية‭. ‬الأدب‭ ‬يتوحد‭ ‬مع‭ ‬لحظات‭ ‬الضعف‭ ‬للشخوص،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬القوة‭ ‬حبلا‭ ‬يلتف‭ ‬على‭ ‬عنق‭ ‬الشخصية‭. ‬الخطأ‭ ‬أو‭ ‬الخطيئة‭ ‬التى‭ ‬يراها‭ ‬من‭ ‬يضعون‭ ‬أنفسهم‭ ‬حماة‭ ‬للقيم‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭ ‬قدر‭ ‬الكتاب‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الرضا‭ ‬أبدا‭ ‬منجما‭ ‬للإبداع‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المبدعين،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يدرون‭ ‬أنهم‭ ‬غير‭ ‬راضين،‭ ‬قد‭ ‬ينتحرون‭ ‬يوما،‭ ‬أو‭ ‬يتركون‭ ‬أنفسهم‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يهلكهم‭ ‬مبكرا‭. ‬فالإبداع‭ ‬وحده‭ ‬رغم‭ ‬جماله‭ ‬لا‭ ‬يكفيهم‭. ‬المنتحرون‭ ‬بالعشرات‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المئات‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والكتاب‭. ‬لقد‭ ‬امتد‭ ‬عدم‭ ‬الرضا‭ ‬للمبدع‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الحياة‭. ‬
ألا‭ ‬تكفى‭ ‬تجارب‭ ‬الأمم‭ ‬حتى‭ ‬ينصرف‭ ‬رعاة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالقيم‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭ ‬لتكون‭ ‬أفضل‭. ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬تعليم‭ ‬وصحة‭ ‬أفضل‭ ‬للناس‭ ‬مثلا‭.‬

 

هنرى‭ ‬ميللر

‭ ‬لقد‭ ‬غاليت‭ ‬فى‭ ‬قولى‭ ‬بالخطيئة‭ ‬لكنى‭ ‬ركبت‭ ‬أعلى‭ ‬موجة‭ ‬للانتقاد،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬لأنها‭ ‬مقررة‭ ‬سلف،لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المبدع‭ ‬أن‭ ‬يتخلص‭ ‬منها،‭ ‬لانه‭ ‬فى‭ ‬اللحظة‭ ‬التى‭ ‬يفكر‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متوائما‭ ‬مع‭ ‬الشعارات‭ ‬الجوفاء،‭ ‬سينتج‭ ‬عملا‭ ‬رديئا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الروح‭. ‬الفارق‭ ‬أن‭ ‬الخطيئة‭ ‬المقررة‭ ‬سلفا‭ ‬هنا،‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬مثل‭ ‬خطايا‭ ‬الأساطير‭ ‬سببا‭ ‬فى‭ ‬الوباء‭ ‬يحل‭ ‬بالبلاد‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬خطيئة‭ ‬أوديب‭ ‬مقررة‭ ‬سلفا،‭ ‬وحل‭ ‬بعدها‭ ‬الوباء‭ ‬بطيبة،‭ ‬لأن‭ ‬أوديب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أديبا‭ ‬ولا‭ ‬فنانا‭. ‬كان‭ ‬حاكما‭ ‬ارتكب‭ ‬الخطايا‭. ‬قتل‭ ‬أباه‭ ‬وتزوج‭ ‬أمه‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يدرى‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬دون‭ ‬إرادة‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الوباء‭ ‬حل‭ ‬بطيبة‭. ‬
المبدع‭ ‬ليس‭ ‬حاكما‭ ‬ولن‭ ‬يكون،‭ ‬فجمهوريته‭ ‬أو‭ ‬مملكته‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬أشخاص‭ ‬افتراضية‭ ‬غير‭ ‬حقيقية،‭ ‬قد‭ ‬يتجمعون‭ ‬حوله‭ ‬فى‭ ‬المساء‭ ‬سعداء،‭ ‬أو‭ ‬هو‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬حتى‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬ويظل‭ ‬وحيدا‭. ‬يزداد‭ ‬اغترابه‭ ‬بما‭ ‬يكتب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تدهور‭ ‬الأحوال‭ ‬حوله،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬إصلاحا‭ ‬من‭ ‬الأصل‭. ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬من‭ ‬من‭ ‬الكتاب،‭ ‬أظنه‭ ‬أرنست‭ ‬فيشر‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تخنى‭ ‬الذاكرة،‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬يوما‭ ‬معلقا‭ ‬على‭ ‬أحلام‭ ‬الشيوعيين‭ ‬فى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتى،‭ ‬أنهم‭ ‬حين‭ ‬ينجحون‭ ‬ويحل‭ ‬العدل‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬للرواية،‭ ‬والذى‭ ‬حدث‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬ينجحوا‭ ‬وانفجرت‭ ‬الروايات‭ ‬خارج‭ ‬وداخل‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتى،‭ ‬وانتهى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتى‭ ‬نفسه،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬لن‭ ‬ينجح‭ ‬أحد‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مكان‭ ‬فى‭ ‬إقامة‭ ‬المدينة‭ ‬الفاضلة‭ ‬التى‭ ‬تنتهى‭ ‬معها‭ ‬الرويات‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬فالسياسة‭ ‬فن‭ ‬الممكن‭. ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬جعلوا‭ ‬الناس‭ ‬تفكر‭ ‬فى‭ ‬الآلهة‭ ‬والأديان‭ ‬التى‭ ‬يدافع‭ ‬بها‭ ‬البعض‭ ‬عن‭ ‬هجومه‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬هم‭ ‬الفنانون‭ ‬أنفسهم‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يتذكر‭. ‬هم‭ ‬المبدعون‭ . ‬تخيل‭ ‬أنه‭ ‬دون‭ ‬رسومات‭ ‬على‭ ‬الجدران‭ ‬للإنسان‭ ‬القديم‭ ‬عن‭ ‬الآلهة‭ ‬والأساطير‭ ‬التى‭ ‬نسجها،‭ ‬ودون‭ ‬بها‭ ‬الملاحم‭ ‬التى‭ ‬كانوا‭ ‬يحكونها‭ ‬فى‭ ‬البلاد‭ ‬فى‭ ‬كتب،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬سيعرف‭ ‬بوجود‭ ‬الآلهة‭. ‬حتى‭ ‬الكتب‭ ‬السماوية‭ ‬التى‭ ‬جاءت‭ ‬تحمل‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬دونها‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬كتاب‭. ‬تخيل‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يدونها‭ ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭. ‬وفى

‭ ‬أى‭ ‬مكان‭ ‬كانت‭ ‬ستستقر‭ ‬الأديان‭. ‬