«آخرساعة» فى رحاب صـُنـَّاع السبح

الجمالية.. هنا رائحة «الذاكرين»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

حبات لامعة متراصة بجانب بعضها البعض، تخلب ألوانها المتعددة أنظار زوار سوق الحسين، فى حى الجمالية، مصنوعة من الأحجار الكريمة أو البلاستيك الصلب، لا تفارق أيادى المسبحين بذكر الله، إذ يعتبرونها من طقوسهم اليومية، يهرعون إليها بعد صلواتهم أو فى خلواتهم، تحتضنها أصابعهم وتبتهل ألسنتهم بأسماء الله تعالى، إنها السبح تلك الحبات التى أبدع فى صناعتها المصريون.. "آخرساعة" زارت هذه السوق لإلقاء الضوء على هذه الصناعة فى الحى المعبأ برائحة الذاكرين.

صناعة‭ ‬فى‭ ‬مهب‭ ‬الريح‭ ‬بعد‭ ‬ظروف‭ ‬كورونا‭ ‬وتوقف‭ ‬رحلات‭ ‬الحج‭ ‬والعمرة

النساء‭ ‬يعشقن‭ ‬الحبات‭ ‬الصغيرة‭ ‬والرجال‭ ‬يفضلونها‭ ‬سوداء

صنع الفاطميون السبح من أشجار الأبنوس والعود والصندل أسوة بالرسول الكريم، إذ كان يستخدم حبات النبق فى التسبيح، ومن ثم طورها العثمانيون وأدخلوا فيها الأحجار الكريمة والعقيق، لكن ظلت صناعتهم لا تضاهى مهارة الصُنَّاع المصريين، فإبداعاتهم فى صناعة السبح جعلتهم يحتكرون سوقها فى السعودية، التى تعد أكبر سوق تجارية للسبح فى العالم، خاصة فى مواسم الحج والعمرة، ولكن مع ظهور فيروس كورونا، وبعد توقف رحلات الحج والعمرة باتت تلك الصناعة فى مهب الريح، وأصبح فنانوها يشكون ضيق اليد وقلة الحيلة.

فى سوق الحسين الذى يجتذب دراويش ومحبين من كافة البقاع، مجاذيب هاموا فى حب آل البيت، تركوا بيوتهم وذويهم وارتحلوا ليجاوروا حفيد الرسول، يتبركون بمقامه ويسردون على مسامع الزوار قصص بطولات ابن أمير البررة (على بن أبى طالب)، وعلى مقربة من المقام المبروك تتناثر ورش تصنيع السبح بأصوات آلاتها المتواضعة، وهمة صناعها المهرة، ففى الشهر الكريم يزداد إقبال الصائمين على اقتناء السبح كى تصاحبهم فى صلواتهم وقيامهم ليالى رمضان، يجاور تلك الورش محلات البيع إذ تكتظ واجهاتها بسبح ذات ألوان عدة أبرزها الفيروزى والأبيض، مصنوعة من خامات مختلفة مثل العقيق اليمنى أو الأوبال، ومؤخراً أغرقت السبح البلاستيكية أو الصينية الأسواق لرخص أسعارها وارتفاع أسعار المواد الخام مما هدد عرش الصناعة وجعلها عرضة للاندثار.

تزدان المحلات بأشكال كثيرة منها، فهناك السبح ذات الـ33 حبة ومقاس 8 مللى، وتلك التى يفضلها المصريون، وهناك أخرى ذات 99 حبة، وأغلب عشاقها من تركيا حيث يميلون للألوان البسيطة من دون زخارف، كذلك الأفارقة يأتون خصيصاً إلى منطقة الحسين ليشترون لأحبائهم السبح السنغالية سمراء اللون وذات الفواصل البيضاء، التى تمتاز أيضا بكبر حجم الحبة (10 مللى)، ويعشق أبناء الخليج السبح المصنوعة من الكهرمان ذات الـ33 حبة.

فى ورشة عم أحمد فضة، أشهر صنَّاع السبح فى الجمالية، يعمل الكل بجد واجتهاد لإخراج منتج يمتاز بالإتقان والإبداع، كما اعتادوا منذ تأسيس الورشة قبل نحو عشرين عاماً، فقد ورث "فضة" المهنة عن والده وجده، لكنه تشرب فنونها الحديثة من "فوزى أنيس" شيخ مصنعي السبح، حيث أدخل عليها خامات طبيعية، مما رفع من أسعارها حتى وصلت إلى مئة ألف جنيه للواحدة فى بعض الأحيان.

يرتدى "فضة" نظارته الطبية ويمسك بحبات المسبحة واحدة تلو الأخرى، ليبدأ فى تخريمها وتشكيلها إما دائرياً أو بيضاوياً باستخدام ماكينة بسيطة ثم يدخلها مرحلة التطعيم باستخدام الفضة أو الأحجار الكريمة، ولكن مؤخرا بعد توقف رحلات الحج والعمرة اقتصر على الخامات البسيطة، ما حرمه من مكاسب كان ينتظرها من العام للآخر.

يقول أحمد: ظهرت صناعة السبح فى مصر أثناء الحكم الفاطمى وكانت تصنع من أشجار الصندل والعود ذات الروائح الزكية واستطاع الأتراك تطوير صناعتها بإدخال الأحجار الكريمة والفضة والذهب إليها مما رفع أسعارها، فهناك ما يسمى بقفص الفضة وهو أغلى الأنواع، إلا أنهم افتقدوا الإبداع فى تشكيلها فباتت صناعتهم باهتة على عكس السبح المصرية ذات الروح والفنون المتنوعة وهذا ما يفسر سيطرتها على سوق السبح فى السعودية وهو أكبر الأسواق العالمية المرتبطة بالحج والعمرة، وبعد أن كان تجار المملكة يتعاملون مع صناع السبح فى تركيا والعراق تحوَّلت الدفة ناحية مصر، وبالطبع بعد توقف موسم الحج وعمرة رمضان تعرضنا للكثير من الخسائر المادية مما جعلنا نقلل من العمالة اليدوية بالورش.

وعن مراحل التصنيع يقول: نستخدم أشجار الكوك فى صناعة مجسم السبح وهى أشجار نستقدمها من البرازيل حيث تمتاز بطبيعتها الاستوائية الصلبة ويقال إن خشب تلك الشجرة استخدمه سيدنا نوح فى صنع سفينته قبيل الطوفان، ثم نبدأ فى تشطيفه وتقطيعه لألواح طويلة متساوية وبعدها قطع صغيرة مربعة باستخدام ماكينة التقطيع المعروفة بالصينية المنشار ليعقبها مرحلة التخريم وفيها يتم تشكيل الحبات لأشكال دائرية أو بيضاوية وأخيرا مرحلة السربة وهى المرحلة التى يتم من خلالها ضبط شكل الحبة وتحديد مقاسها بدءا من 4 وحتى 10 مللى، مشيراً إلى أن هناك حظراً على استخدام العاج فى صناعة السبح باعتبار الفيل من الحيوانات المهددة بالانقراض، وهذا ما جعل سعر العاج مرتفعا للغاية مثله مثل الأعشاب المرجانية التى تستخرج من البحر الأحمر.

ويشير إلى أن كل دولة لها السبح الخاصة بها ذات الشكل والحجم المميز، فالمصريون يحبون السبح ذات الحبات الـ33 ومقاس 8 مللى بألوان مبهجة وزخارف متنوعة، كما أن النساء يعشقن الحبات الصغيرة المطعمة بالألوان الهادئة على عكس الرجال فهم يفضلون المقاسات الكبيرة واللون الأسود بفواصل بيضاء، أما الأفارقة فيفضلون السبح السنغالى وعدد حباتها 99 حبة.

أما الأسعار فهى متباينة، فهناك أنواع تبدأ من 30 جنيها وتصل إلى خمسة آلاف جنيه، وذلك حسب الخامة المصنوعة منها.

وفى واحدة من الورش الموجودة بمنطقة الجمالية التقينا أحمد منصور، أحد الصنايعية المهرة الذى اكتسب حب الصنعة منذ نعومة أظفاره، حيث قال: تعلمت هذه الصنعة فور أن أتممت أعوامى العشر فكنت ملازما لوالدى الذى كان يعمل بثقب السبح فاستهوانى ذلك الفن خاصة مع إقبال شهر رمضان وذى الحجة فبهما تتحول الجمالية لخلية نحل، لكن للأسف باتت تلك الصناعة موشكة على الاندثار بعد ارتفاع أسعار المواد الخام سواء أشجار الكوك أو المواد الطبيعية وهذا مايفسر غزو السبح الصينية المصنوعة من البلاستيك الردىء للأسواق المصرية.

يتابع: تأثرنا بجائحة كورونا بشكل بالغ، فتوقفت حركة التصدير خاصة أننا كنا عماد سوق السعودية فمعظم الحجاج والمعتمرين يتبركون بسبح الحرم المكى، ناهيك بتأثر السوق السياحية بمصر ونأمل أن تعود حركة البيع والشراء إلى طبيعتها، تفادياً لإفلاس العديد من التجَّار والصنَّاع، خاصة أنهم يستخدمون خامات غالية.