تاج المساجد يحمل عبق سيرة الصحابة وذكريات الفتح العربى

جـامـع عمــرو بـن العـاص.. و 14 قـرناً مــــن «التراويح»

جـامـع عمــرو بـن العـاص.. و 14 قـرناً مــــن «التراويح
جـامـع عمــرو بـن العـاص.. و 14 قـرناً مــــن «التراويح

عدسة وقلم : حسن حافظ

تقف أمام باب الجامع تتأمل التاريخ الذى يتجاوز أربعة عشر قرنا، تتلقى شحنة إيمانية تسافر عبر الزمن وتحمل لك أثر صحابة رسول الله، عندما اجتمعوا لبناء الجامع الذى انطلق منه نور الإيمان لينتشر فى القارة الأفريقية كلها، تدخل جامع عمرو بن العاص فتشعر بحالة روحانية خاصة تتنزل عليك، راحة نفسية تحيط بك وتجبرك على السكينة، فى ليالى شهر رمضان يكتسب الجامع العتيق حالة خاصة يعرفها كل من صلى التراويح فى هذا المسجد الذى يجمع بين أركانه متعة التاريخ وخشوع الإيمان.

 

يشكل جامع عمرو بن العاص الذى أطلق عليه يوما جامع الفتح وتاج الجوامع والجامع العتيق، حالة شديدة الخصوصية فى تاريخ مصر الإسلامية، فنحن نتحدث عن أول مسجد جامع فى مصر، ولا عبرة لمن يرى بأسبقية مسجد سادات قريش بلبيس فى محافظة، فالمسجد الجامع لا يبنى إلا بعد استقرار الفتح العربى للإقليم، وبالتالى فهو أول جامع يبنى فى البلاد بعد استقرار الفتح، كما أنه أول جامع تقام فيه صلوات الجمعة والعيدين.

اكتسب جامع عمرو مكانة عظيمة فى نفوس المصريين، على مدار سنوات كان المئات تتوافد عليه لأداء الصلوات خصوصا صلاة التراويح، فالمشهد العالق فى الأذهان لاحتشاد آلاف المصريين لأداء صلاة التراويح بنفوس خاشعة وعيون باكية، لم يكن وليد اليوم، بل هو ميراث طويل يمتد لقرون وقرون، الاختلاف فقط فى قدرة الكاميرا على تسجيل الحدث فى أيامنا، بينما نقلت كتب التاريخ احتشاد المصريين حول المسجد على مدار العصور والأزمان لأداء صلوات شهر الصوم.

يعود الاحتفال بشهر رمضان فى جامع عمرو إلى قرون خلت، إذ يقول الدكتور حسن عبد الوهاب فى كتابه "تاريخ المساجد الأثرية: "نشأ هذا التقليد منذ الدولة الفاطمية، فقد كان الخليفة الفاطمى يركب للاحتفال برؤية شهر رمضان ثم يستريح أول جمعة منه، فإذا كانت الجمعة الثانية أداها فى جامع الحاكم، فإذا كانت الجمعة الثالثة أداها فى الجامع الأزهر، فإذا كانت الجمعة الرابعة صدرت الأوامر بأدائها فى جامع عمرو بن العاص، فيقوم أهالى القاهرة بعمل الزينات من باب القصر الفاطمى بالنحاسين إلى جامع ابن طولون، ويقوم أهالى مصر القديمة بعمل الزينات حتى جامع عمرو".

ارتبط الجامع بشهر رمضان بصورة مبكرة، فكان الفقهاء وطلبة العلم يعتكفون بين أروقة المسجد خلال ليالى الشهر، مظهر آخر من مظاهر ارتباط الجامع بشهر الصيام يرتبط بالفوانيس، فقد تجمع المصريون فى المسجد وخرجوا بالفوانيس لاستقبال الخليفة الفاطمى المعز لدين الله، القادم من تونس، والذى دخل القاهرة فى رمضان 362 هجريا، كان المشهد مهيبا عندما خرج مئات المصريين من باب جامع عمرو يحملون الفوانيس ليلا لاستقبال الخليفة الفاطمي، أصبح الاحتفال برمضان عبر إشعال الفوانيس طقسا مصريا خالصا منذ ذاك الوقت.

بساطة ساحرة

تأسرك عمارة الجامع العتيق ببساطتها، لا توجد هنا زخرفة زائدة أو بهرجة، بل عمارة تحمل عطر نحو 80 صحابيا شاركوا فى وضع أساس الجامع الذى صدح بصوت الحق من على سطحه، لكن البناء الحالى رغم أنه حافظ على البساطة المعمارية إلا أنه ليس بناء الصحابة فالجامع العتيق شهد الكثير من الأحداث الجسام.

ولا يعرف البعض أن جامع عمرو كان المدرسة العلمية الأولى فى مصر، وسبق بذلك الأزهر بقرون عدة، ففى هذا الجامع ألقى الصحابى عبد الله بن عمرو بن العاص دروسه فى الحديث النبوي، وفى الجامع نفسه ظهر الفقيه يزيد بن أبى حبيب، وبعده صاحب المذهب الفقهى الإمام الليث بن سعد، قبل أن يلقى الإمام الشافعى دروسه فيه ويؤسس مذهبه فى نسخته الجديدة التى انتشرت من جامع عمرو إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامي، كما نقل تلاميذ الإمام مالك علمه عبر الجامع العتيق إلى أفريقية والمغرب، ليظل الجامع أحد أكبر المراكز العلمية فى العالم الإسلامى لنحو خمسة قرون، وقد بلغت عدد حلقات الدروس بالجامع 110، ويفترض الدكتور حسن عبد الوهاب أن كل حلقة بها 20 طالبا، فيكون مجموع الطلبة 2200 طالب يتزعمهم أئمة الفقهاء والقراء وأهل الأدب والحكمة.

يعود تاريخ الجامع بحسب ما يرصد المؤرخ المقريزى فى كتاب "المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار"، إلى لحظة الفتح العربى لمصر، عندما نصب عمرو بن العاص معسكره بإزاء حصن بابليون مركز مقاومة الروم، وعندما انتصر المسلمون واقتحموا الحصن، تحرك الجيش الإسلامى صوب الإسكندرية عاصمة البلد وقت ذلك، وكانت أرض الجامع مجموعة من البساتين وقعت فى ملك قيسبة بن كلثوم التجيبي، الذى نزلها بأهله وعبيده، وبعد فتح الإسكندرية وإتمام فتح مصر عادت الجيوش العربية إلى المنطقة المجاورة لحصن بابليون حيث تأسست مدينة الفسطاط، كأول عاصمة إسلامية لمصر، قرر الصحابة اختيار بساتين قيسبة لتكون مقراً لأول مسجد جامع فى مصر، ورد قيسبة قائلا: "لقد علمتم يا معاشر المسلمين أنى حزت هذا المنزل وملكته، وإنى أتصدق به على المسلمين"، لذا تعد أرض الجامع أقدم وقفية فى مصر.

تميز بناء الجامع فى بدايته بالبساطة فتم البناء بالطوب اللبن والبوص، وكانت مساحته عند لحظة تأسيسه لا تتجاوز 50 ذراعا طولا فى 30 ذراعا عرضا (نحو 25 مترا طولا فى 15 مترا عرضا)، ولا يتميز بأى مظهر من مظاهر المساجد التى نعرفها، فقد كان البناء بسيطا إلى أقصى درجة فلا يوجد محراب أو مئذنة أو صحن أو فرش، فلم يكن هناك أكثر من منبر بسيط يعتليه الوالى أو من ينوب مكانه لإلقاء خطبة الجمعة، بينما تم فرش أرضية الجامع بالحصى، وعندما قرر عمرو بن العاص اتخاذ منبر، فجاء الرد سريعاً من الخليفة عمر بن الخطاب، الذى أرسل إلى والى مصر يعنفه: "أما يكفيك أن تقوم قائماً، والمسلمون جلوس تحت عقبيك"، وأمره بكسر المنبر فكسره.

كان للجامع فى الجهة الشرقية بابان فى مواجهة دار عمرو بن العاص (دار الإمارة)، وبابان فى الجهة الشمالية وبابان فى الجهة الغربية، أى أن للجامع لحظة تأسيسه ستة أبواب، ولم يتم فتح أى أبواب فى الجهة الجنوبية لأنها تفضى إلى كنائس المسيحيين ومعابد اليهود ومساكنهم، فى حين تركز وجود المسلمين فى جهات الشرق والغرب والشمال من حول جامع عمرو بن العاص.

الازدهار العظيم

لكن مع تطور الحياة فى مصر الإسلامية وتعقدها، وزيادة عدد المسلمين فى الفسطاط، كان ولابد من زيادة فى حجم الجامع الذى تحول إلى مركز النشاط الدينى والعلمى فى المدينة التى نمت بسرعة، لذا تم أول زيادة فى الجامع على يد الوالى الأموى مسلمة بن مخلد الأنصاري، فى سنة 53 هجريا، وبنى مئذنة هى الأولى فى مصر واهتم بزخرفة جدران الجامع، وأمر بفرش الحصر فى أروقة الجامع لأول مرة، لكن عبد العزيز بن مروان هدم الجامع بالكامل فى سنة 79 هجريا عندما كان واليا على مصر، وأمر ببناء الجامع من جديد وزاد فيه زيادات ضخمة، لكن سرعان ما تعرض المسجد للهدم مجدداً على يد الوالى قرة بن شريك سنة 92 هجريا، بأوامر من الخليفة الوليد بن عبد الملك، لإعادة بناء الجامع بما يتناسب مع تطور العمارة الأموية فى عصره، وتوالت عناية ولاة الأمويين والعباسيين بالجامع فكانت الزيادة فى مساحته تتم بشكل دوري، وفى عصر الدولة الطولونية تعرض الجامع لحريق ضخم أتى على نحو ثلثه، فأمر الأمير خمارويه بن أحمد بن طولون، حاكم مصر والشام، بعمارة المسجد الجامع مجددا.

وفى العصر الفاطمي، وعلى عكس المتوقع من اهتمام الفاطميين بجامع الأزهر المسجد الرئيس فى مدينة القاهرة التى أسسها جوهر الصقلى لسيده الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، نجد أن الفاطميين اهتموا بجامع عمرو اهتماما فائقا. ليصل الجامع إلى قمة ألقه المعمارى وأصبح للمسجد ثلاث مآذن كبيرة، وتحول إلى واحد من أكبر الجوامع مساحة فى العالم الإسلامى وأكثرها بهاء وجمالا.

لكن الكمال قرين الفناء، فما كاد جمال جامع عمرو بن العاص يستكمل حسنه ويسر الناظرين رؤيته، حتى أصيب الجامع فى مقتل، إذ تعرضت مصر للغزو الصليبى فى نهاية العصر الفاطمي، فلم يجد الوزير المستبد شاور السعدى إلا إشعال النيران فى مدينة الفسطاط، لكى يوفر جهده للدفاع عن مدينة القاهرة، لكن النجدة جاءت للجامع على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، لكن رغم ذلك فقد سار الجامع فى طريق الاضمحلال طوال العصر الأيوبي.. وعرف جامع عمرو بعض الألق القديم فى عصر المماليك لكن لم يعد يوما لما كان عليه من عظمة فى العصر الفاطمي، خاصة بعد الغزو العثمانى الذى أصاب مصر فى مقتل، وكاد أن يندثر، لولا أن هب الأمير المملوكى مراد بك سنة 1212هجريا/ 1797 ميلاديا، لإنقاذه وتم عمل إصلاحات فى الجامع فى عهود محمد على باشا والملك فؤاد والملك فاروق.

الغريب فى تجديد مراد بك، أنه بعد أن انتهى من عمليات الإصلاح والترميم وإعادة البناء وافتتح المسجد للصلاة فى النصف الثانى من رمضان سنة 1212هـ، أقيمت فيه آخر جمعة من رمضان فاتخذت عادة استمرت طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وهى نفس العادة التى كانت أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك، فكأن هذا المسجد ارتبط على الدوام بشهر الصيام منذ بدايته الأولى وطوال تاريخه المجيد.