تراهن على إيقاع العصر

القصة القصيرة تواجه هيمنة الرواية

صور أغلفة بعض القصص القيرة
صور أغلفة بعض القصص القيرة

كتب/ حسن حافظ

كتب/ حسن حافظ

تهيمن الرواية على المشهد الإبداعى المصري، حقيقة يمكن الشعور بها ببساطة من أعداد الروايات التى تصدر سنوياً مقارنة بعدد دواوين الشعر والمجموعات القصصية والمسرحية المكتوبة، مكانة ترسخت بتعدد الجوائز المصرية والعربية التى تحتفى بالرواية، لكن رغم ذلك يبدو أن المستقبل يحمل مفاجأة سعيدة للقصة القصيرة التى تعانى هيمنة الرواية، فمع غلبة الإيقاع السريع لزمن الثورة التكنولوجية، والميل إلى التكثيف مع هيمنة أساليب وسائل التواصل الاجتماعى على طريقة صياغة أفكارنا، ما يقدم فرصة ذهبية لازدهار القصة التى تمتلك أدوات البقاء فى الزمن الجديد، فهل تتصدر القصة المشهد الإبداعى مستقبلا؟ أم تفشل فى مواجهة هيمنة الرواية؟

يحيى حقي ومحمود تيمور والمازنى وتوفيق الحكيم.. آباء القصة القصيرة عربياً

يوسف إدريس وصل بالفن لذروته وزكريا تامر ومحمد المخزنجى على الطريق

القصة تراجعت أمام الرواية فى التسعينيات ثم بدأت تشق طريقها مع الألفية الجديدة

فوز نجيب محفوظ بنوبل أثر سلبا على انتشار القصة القصيرة والاهتمام النقدى بها

عرفت القصة القصيرة ازدهاراً فى الثقافة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، وتم التأصيل لها باعتبارها الوريثة العصرية لفن المقامة الأدبية التى أبدع فيها قديماً بديع الزمان الهمذانى والحريري، ثم فى القرن التاسع عشر على يد محمد المويلحى فى عمله الشهير "حديث عيسى بن هشام"، وفى نفس الوقت ازدهرت كتابة القصة القصيرة فى أوروبا وأمريكا على يد مجموعة من الكتاب يأتى فى مقدمتهم جميعا الروسى أنطون تشيخوف، والروسى نيقولاى جوجول، والفرنسى جى دو موباسان، والأمريكى إدجار آلان بو، ليعتبروا معا آباء القصة القصيرة فى الأدب العالمي.

بعدها انتشرت كتابة القصة القصيرة التى ناسب حجمها النشر فى الصحف السيارة، وعبرت عن إيقاع العصر الأسرع فى القرن العشرين، لذا أصبحت القصة نداً للرواية بصورة سريعة وفناً أدبياً معترفاً به من النقاد والجماهير، خصوصاً مع الأجيال التالية من المبدعين أمثال: خورخى لويس بورخيس، وإرنست هيمنجواي، وجابرييل جارثيا ماركيز، وفرانس كافكا، ومارجريت آتوود، وجون شتاينبيك، وغيرهم العديد من الأسماء، حتى وصل الأمر إلى هيمنة القصة القصيرة على المشهد الروائى الغربى حتى قيل إنها ستكون الشكل الأدبى الأكثر استمراراً خصوصاً مع ظهور مصطلح "القصة القصيرة جداً"، وهى قصة قد لا تتجاوز السطر الواحد كنوع من أنواع التكثيف الإبداعى الشديد.

على مستوى الكتابة العربية، قادت مصر بدايات الكتابة فى القصة القصيرة، إذ ظهرت محاولات كثيرة لكتابة القصة فى مصر، فظهرت عشرات القصص فى الصحف والمجلات التى ظهرت بكثافة فى مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، بداية من الدور الريادى لمحمد تيمور، ثم نجد مجموعات قصصية تصدر فى كتب مثل: "فى الطريق" (1937) لإبراهيم عبدالقادر المازني، كما يعد محمود تيمور (الشقيق الأصغر لمحمد تيمور)، من آباء القصة القصيرة فى مصر، إذ تفرغ لها وأكثر من الكتابة فيها، ومن مجموعاته الشهيرة "قلب غانية" و"فرعون الصغير"، كما أبدع يحيى حقى فى كتابة هذا الفن الأدبي، وأصبح من رواده الكبار فى النصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً فى مجموعاته "أم العواجز" و"دماء وطين" و"سارق الكحل"، وترك عبرها بصمة لا تنسى على الأجيال التالية من كتاب القصة القصيرة.

وشارك توفيق الحكيم المبدع متعدد الإنتاج فى كتابة القصة القصيرة، فكرَّس ريادته لها بجوار ريادته فى كتابة المسرحية والرواية، بداية من مجموعته القصصية الأولى "عهد الشيطان" مروراً بمجموعة "سلطان الظلام"، و"عدالة وفن"، و"أرنى الله"، و"ليلة الزفاف" وهى أنضج مجموعاته القصصية، كما شارك أديب نوبل نجيب محفوظ فى كتابة القصة القصيرة على الرغم من أن شهرته الأساسية تقوم على تأليف الرواية، فنجد أنه نشر أول مجموعة قصصية وهى "همس الجنون" عام 1938، نشر العديد من المجموعات القصصية التى رسخت أقدامه فى هذا الفن نذكر منها: "دنيا الله" و"بيت سيئ السمعة" و"خمارة القط الأسود" و"الشيطان يعظ" و"أهل الهوى" و"فتوة العطوف".

مع بداية النصف الثانى من القرن العشرين شهدت القصة القصيرة مرحلة جديدة على يد يوسف إدريس، الذى وصلت القصة على يديه لذروة مجدها، بعدما نشر مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" 1954، ثم توالت مجموعاته القصصية.

وواصل مسيرة إدريس من بعده عدة أسماء مصرية وعربية، إذ نجد ظاهرة الإخلاص لكتابة القصة القصيرة وعدم كتابة الرواية، عند السورى زكريا تامر، وعند المصرى محمد المخزنجى، كما كتب محمد المنسى قنديل عدة مجموعات قصصية، ويعد سعيد الكفراوى من أبرز رواد جيل الستينيات إخلاصاً لها، كما ترك إبراهيم أصلان بصمته المميزة على القصة وكذلك "بحيرة المساء" و"يوسف والرداء"، ومحمد مستجاب وهناك عشرات الأسماء التى قدمت إسهامات فى فن القصة القصيرة سواء فى مصر أو على المستوى العربى لا يمكن حصرها إلا فى موسوعة أدبية.

لكن بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، بدأت حمى كتابة الرواية تجتاح العالم العربى فيما تراجعت أشكال الكتابة الإبداعية سواء كتابة القصة القصيرة أو المسرحية المكتوبة أو الشعر، وخلال فترة التسعينيات على وجه التحديد، ومع تكريس العديد من الجوائز العربية لكتابة الرواية، فضلا عن الاحتفاء النقدى والصحافى بالرواية، وكلها عوامل أدت إلى تراجع مرحلى للقصة القصيرة التى عاد لها بعض الزخم مع الأجيال الأكثر شباباً، ليعود الزخم المفقود للقصة القصيرة مع العقد الأخير، ونجد أسماء: مصطفى زكي، مؤلف "تأكل الطير من رأسه"، و"مسيح باب زويلة"، وهو يقود جيل من الشباب المبدع المخلص لكتابة القصة حصريا، ومحمد الحاج صاحب "لا أحد يرثى لقطط المدينة"، ونهى محمود صاحبة "الجالسون فى الشرفة حتى تجيء زينب"، ومحمد خير صاحب "رمش العين"، ومحمد عثمان الفندى مؤلف "الذى فعله عبد القوى بروحية"، ومارك أمجد صاحب "نشيد الجنرال"، وهند جعفر صاحبة مجموعة "عدودة".

واعترف الأديب أحمد أبو خنيجر بالواقع عندما قال خلال تسلمه لجائزة ساويرس الثقافية فى 2018، "ربما يكون الترويج للرواية حاليا أكبر، لكن الإقبال على قراءة القصة القصيرة لا يزال كبيراً ولن ينتهى، لأنها تلبى حاجة معرفية أساسية عند القارئ الذى لا يجد الوقت الكافى لقراءة عمل روائى طويل"، هكذا وضع أبو خنيجر يديه على الأزمة ومكمن قوة القصة القصيرة والتى تمكنها من الحياة فى المستقبل بشكل أكثر مواءمة لروح العصر.

الحديث عن مستقبل القصة القصيرة، توقف عنده الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، قائلا لـ"آخرساعة": "التفكير فى مستقبل القصة القصيرة يستدعى تأمل مسيرتها التاريخية، والحقيقة أن هذه المسيرة حافلة بالمغامرات المفتوحة التى جعلت وما زالت تجعل شكل القصة القصيرة مرنا، ومتجدداً، ومنفتحاً على الإفادة من فنون شتى، وأيضا مقترنا بإعادة النظر فى كل محاولة لتقييدها فى نموذج ثابت، فى منتصف القرن التاسع عشر شاع تنظير إدجار آلان بو، للبناء الأساسى الثابت الذى تصوّره للقصة القصيرة (العقدة، الحل، لحظة التنوير، وحدة الانطباع... إلخ)، ولكن بعد هذا التنظير بعقود طويلة ظهر نتاج قصصى كبير القيمة (لأنطون تشيخوف وغيره)، سرعان ما أطاح ببعض عناصر هذا التنظير، وهذا مثال واحد على أن القصة القصيرة شكل أدبى مرن ومتجدد وغير قابل للتجمد فى نموذج ما".

وتابع حمودة: "من وجهة أخرى، ترددت فى الثقافة الغربية وفى ثقافتنا أقوال حول (أزمة القصة القصيرة) أو (موت القصة القصيرة)، وكتبت مقالات كثيرة تحت مثل هذه الأقوال، ولكنى أرى أن القصة القصيرة لم تشهد أزمة ولم تمت، بل ما زالت حية متجددة باستمرار، وضمن هذا التجدد نجد مغامرات قصصية قصيرة تبدع لنفسها فى وجهات جديدة: (القصة القصيدة) التى تراوح بين السرد والشعر، و(القصة الومضة) أو(القصة القصيرة جدا)، أو (القصة التويترية) نسبة إلى منصة تويتر. إلخ، وهذا كله يعنى أن الإجابة عن السؤال حول مستقبل القصة القصيرة لا يمكن أن تكون متشائمة، أتصور أن هذا النوع الأدبى سيظل حاضرا، وسيظل يتجدد حتى مع تصدر أنواع أدبية أخرى، مثل الرواية، المشهد الأدبى فى بعض الفترات".

ويعكس الكاتب شريف صالح، وهو صاحب تجربة فى كتابة القصة عبر مجموعات "بيضة على الشاطئ" و"شخص صالح للقتل" و"مثلث العشق" وغيرها، الهموم الذاتية لكاتب القصة القصيرة، قائلا لـ "آخر ساعة": "ما مستقبل القصة القصيرة؟ رغم أنه سؤال مشروع لكن لا أظن الكاتب يشغل باله به، ولا أتصور أن فان جوخ الذى مات بائسًا كان يعرف مستقبل لوحته (زهرة الخشاش).
وحول العلاقة الجدلية بين رواج الرواية وانتشار القصة، يقول صالح: "فى حدود تجربتى، لا أنشغل هل القصة ستجلب لى نقودًا، هل سوف تناسب أخلاق ومصالح الناس مستقبلًا؟ هل ستحظى بقراء غدًا؟ الانشغال الوحيد ــ أن تمتلك شرطها الإبداعي، ربما تسقط من حسابات عصر، فيحيها عصر آخر، وكثيرًا ما توضع القصة فى مواجهة مع الرواية فى حلبة ملاكمة، لكن هل يمكن القول إن لوحات بيكاسو هزمت منحوتات رودان؟ أو روايات ديكنز سحقت سيمفونيات باخ؟ الرواية رائجة لأسباب تسويقية، فى مقابل فنون كثيرة ـ ولأسباب خاصة بها ـ باتت خارج التسويق؛ المسرح مثلًا تحول إلى اسكتشات هزلية، هل يعنى ذلك أن المسرح سوف ينقرض؟ هل ستنقرض القصة لأن الرواية رائجة؟ لا أظن".

وتابع شريف صالح: "عن نفسى جربت الرواية والمسرح والنقد وأدب الطفل، لكن عملية الكتابة نفسها هى التى توجهني. هناك نصوص بدأتها قصة وانقلبت إلى مسرحية، هذا الانتقال رهن بتصورات ممارسة فعل الإبداع، وليس رهنًا بحسابات تسويق، والدليل أن كثيرًا من الشعراء ـ مع كساد سوقه ـ باتوا روائيين ينافسون على جوائز وأموال. أحب أن تحظى كتابتى بالشهرة، والجوائز، لكن المهم ألا تتخلى عن شرطها الإبداعي، وما توفره لى من متعة خلال عملية الكتابة، وربما تُحسن ديمقراطية وسائل التواصل، من حظوظ القصة القصيرة، حيث النشر الفورى والتعليق الفوري، ربما تكون القصة ملائمة أكثر لقوالب السوشيال ميديا، لكن لن يصبح لهذا التحول الإيجابى معنى، إلا إذا كانت هناك عدالة تمنحنا مردودًا، لا أن يذهب العائد لشركات الأسواق الإلكترونية، فمثلا "فيسبوك" يقنعنا ـ رغم أرباحه الهائلة ـ أنه موقع مجاني، لكن الحقيقى أن المجانى فيه، هو كتابتى".