مدارات

إلى أين تسير البشرية؟

رجائى عطية
رجائى عطية

يبدو أن الكهنة ورجال الدين لم يعودوا يمارسون فى العصر الحالى سلطة دينية، بقدر ما يمارسون سلطانا أخلاقيا . جرت الأعراف فى زماننا أن يلجأ أهل الملة إلى الكاهن فيما يصادفهم من مشاكل وصعوبات طالبين منه النصح والمشورة والإفادة بما يتبعونه .. وهذه وظيفة هامة لرجال الدين لا تأخذ حظها من الإعلان عنها بقدر ما تأخذه طقوس الصلوات والولادات والزيجات والوفيات وغيرها من المهام الدينية الملقاة على عاتق الكاهن، وهى أهم ما يعطى لأية ملة نصيبا فى حياة الجماعة الحديثة المتطورة ودوراً يبرر وجود الملل فيها تبريرا فعليا لا محل فيه للمجادلة .. ولعل هذا أيضا هوالذى استتبع خضوع الكهانة فى كثير من الملل لأنظمة ورياسة وقيود وقواعد فى المظهر والمعيشة والسلوك .. تدل على الكاهن عند الجمهور حيثما وجد ..على نحو ما تدل عليه بعض الأزياء بالنسبة لبعض المهن إن صح هذا التشبيه.  
 وهذا يقرب الكهانة من الحرفة والاحتراف، فإن الكاهن يتخصص لخدمات معينة يؤديها لمن يطلبها أو لمن يحتاجها من أهل الملة، أو من سواهم أحيانا، دون أجر شخصى له بمناسبة قيامه بخدماته .
 وما دام الكاهن أو رجل الدين يقوم بإشباع حاجة لدى الجمهور، فلا خوف عليه من الانقراض . ولكن الخوف عليه من أطماعه وشغفه أن يكون ذا نفوذ سياسى وصاحب سلطة، فيسىء استعمال خدماته وثقة جمهوره فيه ويتسبب فى فتنة تأكله وتأكل الكثير من مكانة ملته .. والتاريخ ملىء بالأمثلة على ذلك، ولكن اشتهاء النفوذ والسلطة أقوى عند بعض الناس من كل شىء .
 لقد ألغت الثورة البلشفية الملل والدين فى روسيا، وأغلـقت المعابد، وشردت جميع الكهنة، ودأبت لعشرات السنين على قمع العودة إليها بكل عنف .. ولكنها أذعنت لإصرار الجمهور على ملله ولياذه بالبقية الباقية من كهنته .. فأعادت فتح المعابد مع عدم التعرض للمترددين عليها أو كهنتها فى أداء مهامهم، لأنها أيقنت أنها حين حاولت حرمان الشعب من شىء يراه ضرورياً لحياته  لم تقدم له بديلا يغنى عنه، فأنهت ذلك الحرمان الذى تصورت قدرتها عليه فى غمرة شبابها وبعض ثقتها بنفسها وتخيلها أنها صارت قادرة على تغيير كل شىء ! وقد مرت الثورة الفرنسية لفترة قصيرة بمثل هذه التجربة وانتهت أيضا بالعدول عنها لارتباط الجمهور بمعتقداته وكهنتها لأكثر من عشرة قرون .
 والكهنة والمدرسون والضباط  فئات هامشية برغم حاجة الجمهور إليها .. وعمل هذه الفئات يبعدها عادة عن غمار الحياة والتعرض لتعقيداتها وصعوباتها وتشعب روابطها وصلاتها واكتساب الاعتياد على واقعها، وعلى الإدراك الفعلى بأنه واقع قديم يرجع إلى أعمار ودهور، ولا يمكن تغييره كله أو تغيير بعضه إلا بطول نفس وطول وقت .. ولا ينبغى أن يشرع فى تغيير شىء منه إلا بحساب واحتراس . فتلك الفئات الهامشية والتى لم تألف هذا الواقع القديم جدا ولم تتعلم من الخبرة مبلغ انتشاره وتشعب جذوره  يذهلها بقاؤه وتعزو بقاءه إلى تراخى من بيدهم الأمر أو إلى فسادهم .. وتظن أنه بمجرد إزالتهم عن مواقعهم  يمكن بالأمر والنهى إبدال ذلك الواقع القديم بواقع جديد يتفق مع خيال المصلحين وما يطيب أو ينفع فى اعتقاد أهل الهمة والذمة . أحلام يغذيها الاحتضان الطويل مع الإعادة والزيادة بين سامعين مشغولين بشئونهم الخاصة لا يعرفون شيئا حقيقيا عما عداها  لقلة الخبرة أو لقلة الدراية أو للأمرين معا، فتولد الفتنة وتموت بخسائر فادحة، أو تنتصر وتعيش متخبطة فى تنفيذ مشاريع انفعالية لأحلام لا تتحقق ثم تعدل عنها بعد مزيد من الخسائر التى لا حصر لها فى الوقتوالمال والنفوس .. هكذا تمشى المجتمعات البشرية إلى الوراء أويميناً أويساراً وهى نائمة .. لا تخطو إلى الأمام عن قصد، وإنما عن اتفاقات وظروف غير مقصودة .. كأنها لا تستطيع أن تهتدى لشىء صائب إلا بعد إمعان فى الضلالات والأخطاء !