هند رستم تحاور عباس العقاد!

لقاء العقل والإغراء آخر ما تم قبل الرحيل

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

فى مشهد نادر التقطته كاميرا "آخرساعة"، ضحك عملاق الأدب العربى عباس محمود العقاد، الضحكة التى أطلقها مدوية فى منزله ووسط كتبه وعزلته، كانت حدثاً نادراً عن الرجل الذى تعلو معالم الفكر والحزن ملامح وجهه فى معظم صوره المنشورة، كانت ضحكة العقاد لها سبب، فقد تسربت البهجة إلى خلوته فى صورة فنانة الإغراء الأولى هند رستم، التى عملت فى "آخرساعة" لمدة أربع ساعات أجرت فيها حواراً نادراً مع العملاق، وكشف فيه الأخير الكثير من جوانب من شخصيته العميقة، وهذا الحوار الذى فكر فيه الصحفى كمال سعد وصاغه وقدمه للنشر فى 18 ديسمبر 1963، يكتسب أهميته فى أنه أحد آخر حوارات العقاد الذى رحل فى 13 مارس 1964، أى بعد إجراء الحوار بنحو ثلاثة أشهر.

كانت هند رستم فى عز نجوميتها تستمتع بنجاح فيلمها الجديد «وقتذاك- "شفيقة القبطية"، الذى قدمت فيه شخصية جديدة بعيدة عن أدوار الإغراء، وثبتت أقدامها كممثلة من العيار الثقيل، لكن هذا لم يشفع لها أمام المفكر والأديب العقاد، فأسرت إلى صحفى "آخرساعة" كمال سعد، بمخاوفها وأن النوم جفاها فى ليلة الحوار، وعبرت عن مشاعرها قائلة: "ربما لأنى أتصور الفرق الضخم اللى بينى وبين هذا الرجل.. هو يجلس على قمة تجارب البشرية كلها ويضع فلسفة الإنسانية داخل برشامة فى رأسه.. وأنا كل تجاربى معدودة.. قعدت أسأل نفسى طوال الليل: يا ترى بأى لغة حتقدرى يا هند تتكلمى مع عملاق الأدب والصحافة؟".
مخاوف هند رستم لها ما يبررها فشخصية العقاد تحولت إلى صورة ذهنية، حول صرامته وشخصيته الحادة وقوة حجته وشدته التى تصل إلى حد سلاطة اللسان، وقدرته المدهشة على الخروج منتصرا من بين أعنف المعارك الأدبية فى القرن العشرين، فضلا عن أنه لقب بـ"عدو المرأة"، وهو ما جعل مهمة هند رستم صعبة فى اختراق تلافيف عقل جبار، تتسلح بالإغراء وضحكة تسلب الرجال عقولهم، "فكثيرا ما حدثنا التاريخ عن عباقرة وعمالقة استسلموا أمام طغيان الجمال والإغراء"، لكن هند الذكية والقارئة تسلحت بسلاح آخر هو قراءة كل أعمال العقاد قبل أن تذهب للقاء الأستاذ.
وقفت هند أمام العقاد وهى ترتدى فستانا أسود يلفت بوقاره الأنظار، لكن المفاجأة التى طوت مخاوفها، هى بشاشة استقبال العقاد لها، انتظرها هى وكمال سعد، خارج شقته، ويحكى سعد عن أولى لحظات اللقاء قائلاً: "كل ما تصورته هند رستم عن عداء أستاذنا العقاد للمرأة ذاب بمجرد مقابلته لها، فقد وجدناه فى انتظارنا خارج شقته، وعلى وجهه ابتسامة لم أرها فى كل المقابلات التى زرته فيها"، وما أن استقروا جميعا فى غرفة الاستقبال حتى فاجأ العقاد هند بقوله إنها نجمته المفضلة، ثم أضاف: "اكتشفت الآن أن الحقيقة أروع من الخيال، فأنا أهنئك بالموهبة الطبيعية، والوجه المعبر، فأنت فى رأيى لست ملكة الإغراء، ولكنك ملكة التعبير".
أبدى العقاد إعجابه الشديد بقدرات هند رستم التمثيلية فى فيلم "شفيقة القبطية"، ولتقديره لأدائها التعبيرى المتمكن قال لها: "أنت فى رأيى أقرب إنسانة إلى سارة، ولذا فأنا أرشحك لتمثيل هذا الدور، أنك سارة نفسها، بكل ما فيها من ذكاء الأنثى، وطبيعة الأنثى، ورغبتها فى أن تستجيب، والفارق الوحيد بينك وبين سارة هو أن الناحية العصبية عندك طاغية، وهى على عكسك، لدرجة أنك لو أقفلت شفتيك بدون كلام لمدة خمس دقائق لارتعشنا على الفور".
و"سارة" هى بطلة الرواية الوحيدة لعباس العقاد، والكثير من الدراسات تؤكد أنها رمز لشخصية حقيقية أحبها العقاد وعشقها، لكن تفرقت بهما السبل، فظلت الذكرى عالقة فى نفس العقاد وقلبه، فيقول عنها: "إنها أنثى مائة فى المائة، وهى مليئة بالإحساس العاطفى والجسدي، وسارة فى تجربتها معى كانت تأخذ صف الرجل فى كل المواقف، فكنت إذا حدثتها عن خناقة بين زوجين كان شعورها على الفور يذهب مع الرجل".
التقطت هند رستم خيط الحديث قائلة: "عندها حق، وأنا دايما أؤيد الرجل، وأحس أنه كل شيء فى حياة المرأة، وبدونه تكون الحياة بالنسبة للست عبارة عن صحراء، لأنه هو اللى بيحميها، وهو اللى بتحمل اسمه، وهو اللى تفتخر بيه"، وأضاف العقاد سريعا: "وهو الذى تضيف وجودها لوجوده"، وهنا تساءلت هند: "لكن من كلامى مع الأستاذ العقاد، واضح أنه بيحب المرأة قوى"، انفجر العقاد فى ضحكة من أعماقه، خلدها مصور "آخرساعة" الفنان الراحل محمد بدر، ليقول العقاد: "قوى جدا"، ثم عاد بظهره إلى الوراء على الكنبة التى كان يجلس عليها ووضع ساقاً فوق ساق، وقال لها: "ومين قال لك إنى عدو المرأة؟ أنت بتصدقى أنى عدو المرأة! ده كلام فارغ، أنا بحب المرأة الطبيعية، وهى امرأة كأم أو زوجة أو عاشقة.. لكن المرأة اللى نسخة ثانية من الرجل؛ أعمل بيها إيه؟ أنا الذى أنكره أن تكون المرأة نسخة مكررة من الرجل".
اعترف العقاد لهند رستم بضعفه البشرى أمام المرأة، قائلا: "أومن بالحب والإرادة، وأنا فى الواقع ضعيف أمام العاطفة.. إلى درجة أنى كنت لا أستطيع أن أنام أو أصحو إلا على صورتها (أى صورة حبيبته) التى علقتها أمام سريرى.. وعندما أردت أن أنساها لجأت إلى الفن... فأحضرت لوحة لتورتة عليها صرصار وإلى جوارها كوب من العسل يتساقط فيه الذباب، ووضعت هذه اللوحة المنفرة بدلا من صورتها".
نقلت هند الحوار إلى محور آخر عندما قالت للعقاد: فيه حاجة شاغلة بالى الأيام دي، أنا عايزة أزور بيت الله، فهل حرام أن الفنان يزور بيت الله ويرجع يشتغل فى السينما؟ وأسرع هو يقول لها: أبدا... لا حرام ولا حاجة! قالت له: "أنا لغاية دلوقتى ما سألتش حد من علماء الدين. فرد العقاد: لا.. لا.. الفن؛ فن التمثيل، غير محرم مطلقا، لكن الحرام هو الخلاعة... رأيى أنا شخصياً أنه لا يوجد حرام فى التمثيل، لكن عندما أتكلم بصفة الدين أقول إن الخلاعة حيثما كانت غير جائزة شرعاً".
تشجعت هند للتعبير عن هواجسها الشخصية أمام العقاد، فقالت: "فيه حاجة تانية برضه، عايزة أسألها، كل إنسان مؤمن بالله، وأنا مؤمنة بالله، لكن الحاجة الوحيدة اللى بأخاف منها هى الموت"، رد العقاد الذى لم يكن يبعده عن الموت إلا بضعة أشهر: "شوفى.. أنا شخصيا لا أخاف الموت، ولو شرف فى أى وقت أقول له اتفضل، ويمكن الشيء الوحيد اللى بأخاف منه هو المرض"، تساءلت هند: "يمكن لأنك ماتجوزتش قبل كده وما عندكش أولاد".
شرح العقاد لهند أسباب عدم زواجه قائلا: "أنا لم أتزوج لأننى كنت فى دور جهاد، وجدت نفسى بعده وعمرى 42، وهى سن لا تصلح للزواج"، لكن هند ردت قائلة: "بس أربعين يا افندم دى سن الرجل الكامل والإنسان مايفهمش قيمته إلا وهو فى سن الخمسين... لكن غير معقول أنك لست نادمًا على عدم زواجك، فرد عملاق الأدب: أنا لا أندم على شيء فات، وأشار إلى أن الخوف من الموت بينشأ "من فرط الحساسية ولو بحثت فى نفسك حتلاقى حاجات تانية بتخافى منها زى خوفك من الموت بالضبط".
أعادت هند رستم الحديث عن نظرة العقاد إلى الإغراء وسألته عن رأيه فى مارلين مونرو، فقال الكاتب الكبير: "مارلين مونرو كانت هى الإغراء، إنها أنثى ناقصة تكوين، وأمها مجنونة، ولذا كل الذى كانت تفعله عبارة عن تعويض لشعورها بنقص الأنوثة، فمارلين عبارة عن امرأة عايزة وسائل تجذب بها الأنظار، عايزة تثبت أنوثتها بأى طريقة، للدرجة أنها فى سبيل أن تكون أنثى رضيت برجل يهودى وغيرت دينها وتزوجته، وأنا رأيت لها صورا كثيرة وفى الواقع أنها مبالغة جدا فى حركاتها.
وغير هذا تناول الحديث بين العقاد وهند رستم أمورا كثيرة، منها وجهة نظر العقاد لتعدد الزوجات إذا ما ناقش القضية من ناحية العقل، أما دينيا فهو يعتبر تعدد الزوجات رخصة لمصلحة المرأة إذا طبق كما يجب، لأن الزوجة أحيانا تكون عقيما، وحرام أن يطلقها الزوج، إذن فلابد أن يتزوج عليها واحدة أخرى، وقال العقاد إن عائلته كلها ليس فيها رجل واحد جمع بين زوجتين.
لتختم هند رستم الحوار بطلب غريب من العقاد وهو أن يشبه الرجل والمرأة بالحيوانات، فقال عملاق الأدب: "شوفى بقى.. لو أنا مصور بأعمل موديل لن أشبه الرجل بالأسد والمرأة بالغزال، أو أقول إن الرجل نسر وإن المرأة بلبل، لكن التشبيهات دى فى رأيى غير صحيحة! الرجل فى رأيى هو الشمبانزي، والمرأة هى الأرنب" ولم يتوقف عند تعجب هند رستم، وتابع: "الأسد حيوان وبس، لكن الشمبانزى حيوان حساس، الأسد قوى وبس، لكن التانى وليف وممكن يفهمك، ولو فيه فى حديقة الحيوان عندنا أورنجتان، يمكن الرجل الطبيعى فى خيالى هو الأورنجتان"، وشبه المرأة بالأرنب لأنه مثلها "فى النعومة والتجسس والتحسس والولع بالسراديب".
وإلى هنا انتهى حديث هند رستم مع العقاد، وخرجت لتقول رأيها فى هذه المقابلة فى جملة واحدة: سأرسل باقة أزهار إلى العقاد وعليها نفس الكلمات، نفس المعانى التى شعرت بها: لن أنسى فى حياتى طعم هذه المقابلة!