فتحى عبد الله.. الصاخب بروح الشعر ومحبة الحياة

 فتحى عبد الله
فتحى عبد الله

محمد سليم شوشة

تعد تجربة فتحى عبد الله الشعرية واحدة من التجارب الفريدة بين أبناء جيله من الثمانينيين الذين وجدوا أنفسهم وحققوا ذاتهم شعريا فى قصيدة النثر أكثر من غيرها من التجارب الأخرى. وإن كان هو حالة أكثر خصوصية بينهم جميعا لعدد من الاعتبارات المهمة أبرزها أنه ابن واحدة من أعرق المدارس الكلاسيكية التى خرجت أجيالا كثيرة تستعصى على التطوير وبخاصة فى العقود الأخيرة. نعم كانت دار العلوم فى بداياتها عنوانا للتحديث ومقاومة الجمود لكن هذا لم يدم طويلا إذا بعد عقود قليلة من إنشائها وإنشاء الجامعة المصرية بدأت فى التراجع عن دورها وأصبحت خصما لكلية الآداب ولأستاذها الأبرز الدكتور طه حسين فكأنها قد عدلت مسارها كله وحادت عن مسار التحديث نكاية فى طه حسين، ونهجت نهج الأزهر فى دراسة الأدب واللغة بعد أن كانت فى الأصل لتذويب جموده وخلخلة أفكاره، لكنها صارت منذ ذلك الوقت حليفا قويا له حتى اللحظة تعاند الجامعة المصرية كلها وتسير فى مسار مخالف للتعليم المدنى كله. فتحى عبدالله الشاعر المتمرد المجدد كان واعيا تماما بذائقته وموهبته لهذا الجمود الذى تعيشه دار العلوم فيما عدا استثناءات قليلة مثل الدكتور على عشرى زايد رحمة الله عليه أو الدكتور تمام حسان أو أحمد كشك، ولهذا فيمكن القول بأن تجربته فى دار العلوم كانت محفزة على التمرد والانطلاق بعيدا نحو منابع الشعر العالمى، قرأ فى الشعر الفرنسى والإنجليزى والإسبانى وبعض شعراء أميركا اللاتينية وقرأ الطليعيين العرب مثل أنسى الحاج وأدونيس والماغوط ويوسف الصائغ وقبل هؤلاء كان معجبا بكل من صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب ومحمد عفيفى مطر وهو من النوع الذى لا يقع فى أسر الإعجاب الفاتن بأى تجربة مهما كان مقدرا لها أو يستشعر فيها جديدا، دائما له ملاحظاته وله إحساسه بخصوصية كل تجربة وما يمكن أن يمثل ضعفا فيها على مستوى الخطاب الممتد أو المتراكم، وهو ما يعنى أنه كان قادرا على مراقبة كثير من التجارب الشعرية الطليعية بشكل كامل من بدايتها وحتى آخر ما أنجزت.  
يكاد يكون فتحى عبد الله منسلخا تماما من الفكر الغالب على دار العلوم ويرى نفسه ينتمى إلى رحابة الشعرى والإنسانى بكافة امتدادته الإنسانية والثورية على نحو خاص، ينحاز إلى تيارات ما بعد الحداثة وأصواتها من وقت مبكر وينحاز إلى ذوى النزعات البرية والهيبيين وشعراء أمريكا اللاتينية ويقرأ الروايات ويقرأ النظريات النقدية الجديدة فى وقته بالضبط كما يعود إلى التراث العربى القديم والقرآن الكريم والنصوص الدينية الأخرى والأساطير القديمة فى العراق ومصر القديمة وسوريا.
يجمع فتحى عبد الله فى شعره عددا من السمات والخصائص الشعرية التى تجعله مزيجا لثقافة الشرق والغرب، وقابضا على جوهر ما هو إنسانى بصرف النظر عن جذوره أو عرقه. يأخذ من منابع عدة ولا يبدو مصبوغا بصبغة كبيرة إلا فيما يتجلى من مفردات القرية والجذور الريفية وأثر الوالد فى تكوينه، وكذلك تأثره بالقصص القرآنى على نحو مختلف عن آخرين ممن تأثروا بالقرآن وجعلوه رافدا نقلوا منه نقلا مباشرا، لكن فتحى عبد الله لم يكن كذلك حيث النماذج التى يتناص فيها مع القرآن تذوب إلى أقصى درجة فى نصه وتبدو ناعمة لدرجة أنه يصعب فى بعض الأحيان اكتشافها أو رصد الرابط بينها وبين التركيب القرآنى، وهو ما يعنى أن كل نص عابر أو وافد إلى نصه يصبح خاضعا تماما لسلطة النص الجديد.
مثل صورة تأكل الطير من رأسه التى فى سورة يوسف أو أحيانا بعض الصور الأخرى المشابهة تأتى كأنها مجرد استعارة جديدة فى إطار سيرورة شعرية مختلفة أو سطوة معنى جديد وحكاية مغايرة تماما أو ليس لها صلة بالحكاية القرآنية المقدسة والذائعة. وكذلك تتجلى لديه الأحلام وبصورة سريالية وطابع عجائبى وفيها كثير من الملامح البرية أو الوحشية والخروج إلى الأدغال والغابات وكأننا أمام أسطورة جلجامش أو بعض الأساطير الشامانية القديمة التى لا يتحقق للرجل اكتماله أو بطولته إلا بالخروج للغابة وخوض المخاطر التى فيها ويجرب إن كان سيمر من مخاطرها أم ستفتك به الوحوش والحيوانات.
ولديه نمط مهم من الجرأة يحتاج إلى دراسة مطولة قائمة بذاتها وهو أنه واحد من الشعراء القلائل الذين أنطقوا المرأة أو تمثلوا صوتها بشكل كامل فى قصائدهم، وهذا يختلف عن أن يجعل لها صوتا فى قصيدته، بل تكون القصيدة كاملة قائمة على صوت المرأة وتمثل ذهنيتها وأفكارها وهواجسها ومواقفها من الرجل سواء من حيث العشق أو تحولات الحب ودراميته أو ما يرتبط بمخاوفها من الجنس الآخر أو رغبتها فى الاكتمال به، أى أنه يتمثل صوت الأنثى فى كافة جوانبها تقريبا وفى نصوص شعرية كاملة من أول القصيدة حتى آخرها، وهنا يجب أن أشير إلى أنه يمثل تيارين من جذور مختلفة فى هذه السمة، الأول هو تيار الشعراء العرب المجددين مثل بشار بن برد وأبى نواس وغيرهما من المتمردين الثائرين على البداوة وانغلاقاتها أو جمودها، والثانى هو قيم ما بعد الحداثة والانحياز إلى ألوان فنية لا تميز بين ذكر وأنثى بل تحتفى بتقاطع الأصوات وتهتم بالمساحات التى تلتقى فيها الأنواع أو تكرس لإزالة الحواجز والسدود والتصنيفات بين البشر.
يجعل النموذج البشرى دائما محروسا بالطبيعة أو محفوفا بعناصرها، وهو ما يجزم بكونه دائما ما كان ينظر إلى الإنسان بوصفه محور هذا الكون، وهى النظرة التى غلبت على شعراء قصيدة النثر الذين استبدلوا مركزية الإنسان  بمركزية التراث أو مركزية المكوِّن الدينى ونصوصه التى تسحب العقول. يحاول دائما أن يتجاوز الظاهرة الصوتية إلى الفعل والحركة ولهذا فإن الموسيقى أو الإيقاع الشعرى لديه يختلف كليا عن الإيقاع الخليلى بالمفهوم الرياضى أو المعادلاتى السائد، فى حين انتمى فى إنتاج موسيقاه الشعرية إلى همس اللغة العربية وموسيقاها الجوهرية الكامنة فى تناغم مكوناتها ومستوياتها كافة، تناغم التركيب النحوى وبنية الجملة المتدفقة أو التى يتم بناؤها وفق دفق وأداء صوتى معين وتناغم الأصوات وموسيقى المعنى إذا جاز هذا التعبير الذى هو فى الحقيقة بحاجة إلى نماذج تطبيقية كثيرة لتأكيده، وهى أشياء كلها لم تأخذ حظها من الدرس المتأنى فى تجارب شعراء قصيدة النثر والحقيقة أن موسيقى المعنى هى العنصر الأبرز لدى الشعراء الحقيقيين منهم والعنصر الأكثر وفرة لكونها الممثل لجوهر الشعرية وتعكس حساسية الشاعر الحقيقى فى تعامله مع اللغة أو حساسيته الخاصة فى إنتاج اللغة والشعور بجماليتها.
مثلما نجد موسيقى المعنى متحققة فى هذا المقطع الشعري:
يقول: لابد أنها الآن
تخلع ثوبها وتنام وحيدة
وترى الغرفة الخالية
مليئة بالطيور الخضراء
التى تطوف حول رأسى
حتى أخلع ثيابى
وأنام على ذراعها. (ديوان أملأ فمى بالكرز، ص79)
فى هذا المقطع الشعرى نلمح تناغما واضحا بين الجمل الفعلية التى يسلم بعضها لبعض حتى وإن كانت كلها غير نابعة من الإنسان أى لها أكثر من مصدر، والأفعال المتدافعة أو المتدفقة فى المشهد الشعرى قد تكون بنسبة كبيرة ذات إيقاع أو موسيقى من نوع موسيقى المعنى لأنها ستكون أشبه بأفعال حركية مترابطة أو إيقاعية مثل الرقص، أى أن الشخص يفعل كذا ثم يفعل كذا فى مساحات مختلفة من الزمن وشكل تنويعى من الحركة، حتى وإن كان مثلا يؤدى وظائف حياتية صغيرة، يأخذ جرعة من كأس الشاى ثم يلقى نظرة على زوجته أو يتابع بحنين صورة على الحائط لقط كان لديه ومات، وهكذا فإن بعض الأفعال حين تكون نابعة من شخص واحد قد تكون أشبه بالرقص أو تأخذ طابعا حركيا وتكون الموسيقى الشعرية الكامنة فى الجمل المعبرة عن هذه الأفعال مشحونة بهذه الموسيقى الداخلية أو موسيقى المعنى أى النوع الخاص من الموسيقى التى تتحقق لدى المتلقى حين يتخيل هذه الأفعال أو يستقر المعنى فى وجدانه ويكتمل وليس بمجرد أن يتحصل الصوت فى مسمعه.
إذن ما أريد قوله إن النمط السهل لإنتاج موسيقى المعنى أحيانا ما يكون هو الأفعال المتدفقة النابعة من ذات واحدة أو مصدر واحد للفعل كالأفعال التى يأتيها إنسان أو الذات الشاعرة أو الذات المرصودة فى النص الشعرى، ولكن أن ينبع هذا النوع من الموسيقى من عدد من الأفعال متنوعة المصدر فهذا هو ما يشبه رقصة الكون بكامله ممتزجا بالإنسان، أى أن التناغم فى الفعل أو الحدث يكون مشتركا بين الإنسان وعناصر الطبيعة الأخرى كما هو حاصل عند فتحى عبد الله فيما يشبه نسقا ثابتا، من المزج بين ما هو إنسانى وما هو كونى كما نرى فى المشهد السابق. فنجد هنا (وترى الغرفة الخالية/ مليئة بالطيور الخضراء/ التى تطوف حول رأسي/ حتى أخلع ثيابي/ وأنام على ذراعها)، فالطيور الخضراء تقتح المشهد ومع ذلك لا يوقف وجودها فعل الإنسان أو شغفه الراسخ بل تبدو أفعال الإنسان مدعومة بحضورها أو كأنها كلها يكمل بعضها بعضا أو ضرورية ولا يكتمل فعل طرف إلا بأفعال الطرف الآخر. وليس حضور الطيور الخضراء هنا لمجرد أن تكون رمزا لحال مؤقتة من الفرحة المرتبطة باللقاء المتخيل بالأساس، بل هى رامزة لنوع من الحماية المقدسة التى تكون لحراسة المحبة أو حماية الحب، وتزيد على ذلك أنها منه وكأن الطيور الخضراء إنما تبنت من شعور الإنسان بالسعادة والمحبة وتظل حاضرا إلى وقت خلع الثياب والنوع على ذراعها، فلا يكون اختفاؤها حقيقيا بقدر ما هو نوع من تغير كادر الرؤية، أى الانشغال عنها والذوبان أو الانصهار فى الحبيبة/النوم على ذراعها.
 نلمس فى شعره أيضا مجافاة لكافة أشكال التصحر وتغليب كل ما يمت لفكرة الحضارة أو مظاهرها وتفاصيلها، يميل إلى الزراعة والمحاصيل والأشجار والمياه بخلاف الصحراء والعطش، يميل إلى الدروب والطرق والثلج والأمطار والحشائش الخضراء بدلا من الجفاف والتصحر والجوع وقسوة الشمس. يميل إلى لقاء الأحبة ومشاغبات المحبين ومداعباتهم وكأن هذا هو دائما الفعل الطبيعى بخلاف ما هو راسخ فى الشعرية العربية القديمة من المنع والعذول والرقيب وسطوة التقاليد. يبدو النموذج الإنسانى المحب سواء كان ذكرا أو أنثى وقد انفلت تماما من سطوة الثقافة الجامدة المتشنجة وكأنه استعاد حريته وحقه الطبيعى فى أن يروح ويجيء ويلتقى الأحبة فى أى مكان وزمان، بل لا تقف النصوص الشعرية كثيرا مع مفردات ما قبل اللقاء ومدى صعوبته أو تأتيه، وتدخل مباشرة إلى مفردات اللقاء ذاته وأفعاله وما يظلله أو يكون مشحونا به من المشاعر والانفعالات.
وهكذا دائما ما تمتزج أفعال الذات الإنسانية أو النموذج الإنسانى الذى يقاربه فى النص بأفعال كونية أخرى وهو ما يجعل دائما الإنسان عنصرا متناغما فى الكون ومحروسا بعناصر هذا الكون وأركانه الأخرى أو أن هذه العناصر دائما ما تصنع جمالا ما فى الكون وتمنح الإنسان بعدا إضافيا يخرج عن ذاته إلى رحابة المشهد واتساعه، مثلما يقول فى صورة أخرى ونص شعرى آخر:
طيور سوداء تقترب من الباب
وأنا أضع يدي
على سلة الورد
وأرى قمرين على رأسى
فى قطار الصباح. (ديوان أملأ فمى بالكرز، ص81).
فى هذا المقطع الشعرى نلمس ما أشرنا إليه من الاسترفاد الناعم للتراث الدينى أو القرآنى على نحو خاص، يبدو فيه النموذج الوافد متغيرا أو مختلفا كثيرا وفيه تعديلات تناسب الاستخدام الجديد أو النص الشعرى الذى يفرض سطوته ولا يخضع لأى نص آخر مهما كانت سطوته وما له من الفخامة والجلال، أرى قمرين على رأسى هى صورة دينية مزيج من تأكل الطير من رأسى ومن السحابة التى تظلل النبى أو تسير معه تحميه من حر الشمس.
ويبدو الشاعر مشحونا بكم ضخم من الهواجس والمخاوف التى مصدرها البرارى والأحراش والأدغال وغيرها من الأماكن الريفية التى أجاد فتحى عبد الله كل الإجادة فى الإرهاف لما فيها من الشعرية وتوظيفها لمنح نصه الشعرى طابعا ملحميا وأسطوريا، والحقيقة أن هذه القسوة النابعة من الطبيعة غير المأهولة أو غير المعبدة التى كانت ومازالت موطنا للعنف والخوف والأشباح والجنيات تشير إلى البدائية الكامنة فى نفس الإنسان أو جذورها البعيدة فى تكوينه. وهكذا كانت هذه الطبيعة الريفية لديه نافذة على ما هو جوهرى فى تكوين الإنسان بشكل عام وصنع منها حالا من التوتر والقلق والخوف وجعل نصه الشعرى مشحونا بالمعانى المتناقضة والقيم الإنسانية المتصارعة أو المتضادة التى تكون النفس الإنسانية ساحة خصبة لها. على نحو ما نرى فى هذا المثال حين يقول:
وأضع أصابعى فى عظام قديمة
وأصرخ فى أحراش
تنهش جثتى ليل نهار
ولا يخلصنى إلا أشباح أبى
التى تضع القوارب
تحت جسر لا أراه.
من الأب تأتى كل مصادر الطمأنينة والدفء ومقاومة الخوف، والطريف جدا شعريا هو أن يكون للأب أشباح ولكنها أشباح تمنح الطمأنينة على النقيض من كل الأشباح، فأن يكون الخلاص وتكون الطمأنينة نابعة من أشباح فهذه صورة مركبة وثرية وتدفع مخيلة المتلقى إلى التأمل وتلفت انتباهه بقوة لهذه المفارقة التى ستنبه بسرعة إلى أنها أشباح تمنح الخلاص والطمأنينة لأنها أشباح الأب. ورمزية القوارب هنا مهمة جدا لأنها هى وسيلة العبور والنجاة والحماية من الغرق، والأمر ذاته بالنسبة للجسور التى هى رمز للحماية والعبور وعدم الغرق، فتأتى وسائل الحماية هنا متنوعة بين القوارب والجسور، بين الظهور والخفاء، فإذا كانت أشباح الأب معها القوارب الظاهرة المرئية فإن الجسور يحسها الابن ولا يراها، فهذا نوع من الاطمئنان العميق لكونها موجودة على كل حال وهذا فى حد ذاته قادر على أن يمنح كل الراحة الثقة فى الخلاص والنجاة. على أن الأب غالبا ما يكون لدى فتحى عبد الله دالا على غير ظاهر المعنى من أنه الوالد بل ربما يؤشر إلى فكرة النبع أو الأصل أو الجذور البعيدة وأحيانا ما يشير أو يرمز إلى الذات الإلهية، فيكون مرتبطا بالمعنى الدينى الراسخ فى الديانات الإبراهيمية من ارتباط وتلازم خاص بين الله والإنسان بما يتجاوز بقية الكائنات.
دائما ما يمنح الأب لدى فتحى عبدالله الثمار والفواكه والغلال والطعام ويمنح التعويذة التى تعيد إليه راحة النفس واستكانتها، وغالبا ما يكون الأب هو مصدر العلم والمعرفة والنبوءات والتحذير من الحرب التى لم تبدأ بعد. والحقيقة أن صورة الأب فى نصوصه الشعرية تحتاج إلى وقفة مطولة على المستوى النفسى لتكشف عن جذورها أو ترجمتها لدى تكوينه ونشأته وما تمثل وتجسد من الهواجس أو تنحت فى شخصيته. وهى المنطقة التى دائما ما يجيد فيها الناقد القدير الدكتور شاكر عبد الحميد كأفضل ما يكون التطبيق النقدى فى المتأسس على علم النفس الحديث الذى هو حالة استثنائية فى الإلمام به وتمثل معطياته العلمية على نحو فنى وجمالى يرتبط بالصور واللغة وإشاراتها الظاهرة والخفية.
وثمة حالات من الخوف الثقيل جدا من المستقبل وهواجس الموت تنعكس فى مرآة نصوص فتحى عبد الله وبخاصة هذه المجموعة الشعرية الأخيرة «يملأ فمى بالكرز» برغم أن الأمنيات كانت بسيطة دائما لدى الذات الشاعر ولا يرغب إلا فى أشياء هينة مثل النوم على الحشائش الخضراء، لكن هذه الذات دائما ما تهجس بأن ما سيصير إليه يختلف تماما عن هذه الأمنيات، فيخاف من الغابة التى لا يشم فيها رائحة الجوافة، وهى هنا دالة على رائحة الحياة وطمعها، قوة رائحة الحياة بما فيها من الحيوية والغذاء أو دفء الطعام والأمل فى العيش وهذا ما يكتسبه الشاعر فقط من مفردتين (رائحة الجوافة) أو يأخذها أحيانا من كلمة واحدة مثل الينابيع التى تدل على الارتواء والشرب وهكذا الدالة بدورها على تجدد الحياة والأمل والاستمرار فى العيش. أما الغابة لديه فهى بخلاف كل هذا تحيل على الوحوش والافتراس والموت والصمت وانقطاع الرائحة.
والحقيقة إن شعر فتحى عبد الله ليمثل تجربة خاصة وثرية على كافة المستويات ويموج بحالات دلالية ونفسية متنوعة ومتباينة برغم كونها تنبع من الذات الإنسانية نفسها وهذا ما يدل على أنه قد حاول أن يقارب كثيرا من النوازع الشعورية الإنسانية بجموحها وطموحها ومخاوفها وقلقها وأمانها وحبها ورغبتها وكثير من المعانى والقيم التى تحتاج إلى مزيد من الدرس والبحث.