«أشباح سلمى» .. حين يُعيدنا المسرح إلى أشباحنا

 المسرح
المسرح

أمل خليف

يتواصل فى فضاء «التياترو» بالعاصمة التونسية العرض المسرحى » أشباح سلمي» للمخرج وليد العيادى والشاعر والكاتب المسرحى فهمى بلطى، وتمثيل سيرين بن يحيى وزياد عيادى وأمين الفارح وفاطمة صفر ومحمود السعيدى وهالة بن صالح وسفيان بوعجيلة.
«أشباح سلمى» قصيدة مُمسرحة أو مسرحية شعرية. لا نعرف أى التسميات تحتملها هذه التجربة الفنية المبتكرة التى جاءت لتبعث روح المغامرة والتجديد فى جسد المسرح التونسى. أيّا كانت التسميات فهى بالفعل «ذبذبة مبهجة غامضة وساحرة».
يبدأ الأمر بالصداقة، يدُ اللّطف التى تؤنس التيه، عين المحبّة التى تكشف الروح حين تغترب عن نفسها، لسان الفهم حين تصبح المحاججة فقيرة ورديئة، العقل المدبّر لخطط النجاة، أفق الإمكانيات المتعدّدة وإمكانيات التحالفات الحقيقية، تحالفات الابتكار والإبداع.
فى البدء كانت هلوسات فهمى وهذيانه بعالم عجائبى ونبوءة صادقة - لا دعوة فيها ولا إدّعاء - بحياة تستحقّ الحياة، ننتصر فيها لعوالمنا الداخلية الأصيلة مقابل الانغماس فى الواقع بشكل مباشر وفجّ والتماهى مع الوظائف الاجتماعية والانصياع إلى سلطة التدجين والتنميط  دون فسحة للشّرود، التّأمّل، التَيه، الذوبان فى غياهب الرّوح أو الاختفاء فى عوالم الخيال.  
فى البدء كان فهمى بلطى متمرّدا ووحيدا وملتاعا، يحدّث بنبوءته وينشرها قصائد ونثرا على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي: «يا شعراء العالم، لقد وُلدتم وحيدين كأشجار الزّعرور فوق المقابر وستظلّون وحيدين، لا هويّة لكم سوى غربتكم، لا أصدقاء لكم سوى الزّلازل الصّغيرة التّى تسكن أجسادكم، لا دروع لكم سوى قلوبكم العارية الجاحظة من تحت ضلوعكم، لطالما ولدتم فى الزّمان الخطأ والمكان الخطأ والعالم الخطأ...» ثم جاءت عين الصداقة وفهم المحبّة وتحالف الشركاء السريين.
جاء وليد العيادى (المخرج) ليخرج عالم فهمى إلى النّور ويمنحه فرصة لتحرير أنوثته المصادرة، لتكون البطولة المطلقة لسلمى، الرَوح الأنثوية المتوهّجة، وتكون البطولة المطلقة للشعر ويكون التحرّر هو القصّة دون توقّف عند أحداث. تبدأ المسرحية بالنسبة لى بالتقاء فهمى ووليد فى عمل مشترك بعد سنوات من الصداقة والمشاركة والاختلاف. الشاعرية التى تلمس القلب هى محاولة وليد - غير الهيّنة بالمرة - أن يجسّد عالم فهمى شخصيات وصورا وأصواتا بلغة المسرح ولغة المشاهد. الشاعريَة أيضا هو أن يتنازل فهمى عن سيادته المطلقة لنصوصه - أبناء ذاته- ليدخل عمليّة إعادة خلق مشتركة مع وليد مع كلّ ما يتطلّبه الأمر من ثقة وغيرية وحب. الشّاعريَة هو المشاركة الحقيقية لصديقين صادقين يتهجيان قولا مشتركا ويجسّدان عالما من هباء. هذه المشاركة بكل عثراتها، تخلق الإبداع وتطرح الممكن وتعيد الفنّ إلى مكانه الأصلى، مُحاولةَ إدراك الزوايا الخفية للوجود الإنسانى من أجل الكشف عن «ماسات متلألئة فى العمق، هناك داخل بحيرات أرواحنا».
مسرحية «أشباح سلمى» لوليد عيّادى وفهمى بلطى فسحة شعريّة من خلال لوحات هى مزيج من النثر والرَقص والموسيقى. مجموعة من اللوحات تستعرض عالم سلمى الداخلى المأهول بشخصيات عجائبية تؤنسها حينا وتخطفها عن واقعها أحيانا. تأنس  إليها سلمى حينا وتطرُدها أحيانا أخرى. وبين حين وحين تحاول سلمى أن تستسلم إلى استدعاءات «الواقع» فتستعينُ بطبيب نفسى لترويض أشباحِها وتأمين عودتها إلى وظائفها. لكن «الشّعر قبضة ضوئيّة عملاقة لا تكتفى بأن تجعل أرواحنا مشعّة من الدّاخل بل هى تتطاول أيضا كى تقلب الطّاولة على الواقع»، هذا ما جاء فى تقديم المسرحيّة.
فى مواجهة أشباح سلمى، يُسائل الطّبيب إمكانيّاته ووظيفته ويجد نفسه مسحوبا إلى عالمها. وهنا تطرح المسرحية السّؤال: من يدافع عن عالمه ضدّ من؟ «فالواقع عن طريق الشّعر يصبح عالماً آخر، الحواسّ نفسها وهى تتلقّى هذا الواقع تتحوّل إلى عوالم أخرى لكلّ منها أكثر من بُعد واحد، النّاس أنفسهم يصبحون أناسا آخرين».
 عوض الإجابة عن هذا السؤال وجدتنى مأخوذة بمعضلة أكثر شمولية من تضاد الواقع والشعر، هى معضلة الحب أمام حواجز اللّافهم وحدود عوالم مختلفة ومتقاطعة ونائية فى آن واحد. هذه العوالم يغذّيها الاختلاف الطبيعى وتفصلها المسمّيات والانتظارات المُسبقة والخوف، الخوف من الانغماس فى عوالمنا والخوف من الانقطاع عنها فى ذات الوقت.
لمن ينتمى العشاق؟ إلى أنفسهم؟ إلى أحبائهم أو إلى الحبّ؟ وكيف يلتقى حبيبان غريبان وكل التقاء فى مساحة تماس موضوعية مضادّة للذاتية والأصالة و حتى للشوق أيضا؟ غمرتنى كلّ هذه الأسئلة أمام لوحة شديدة الرقّة لسلمى بين يدى حبيبها وطبيبها تحاول التواصل معه فتسرِقها أذرع الأشباح إلى عالمها الداخلى، بعيدا عن حبيبها. تركُض سلمى إليه مرّة أخرى، ومرّة بعد مرّة، تعلو مناجاتها الممزّقة بين الشوق والعجز والحيرة. محاولةٌ تلو أخرى، تسحبها أشباحها إلى نفسها وتنتهى بعودتها إلى عالمها الأصلى كقدر سعيد للحرية، كقدر تراجيدى للحبّ. أبدعت فى أداء هذه اللوحة الممثّلة المدهشة «سيرين بن يحيى» بتمكّنها العالى للنصّ وموسيقاه وأدائها الحركى الأقرب إلى الرقص.
من المفارقات العجيبة فى هذه المسرحية أنّ تفجُّرَ النّصوص واللّغة لم يكن سوى محاولة لتأثيث صمت كثيف وحزين لحبّ عالق فوق الجسر، عبّرت عنه روح سلمى الحرّة العاشقة: «يإمكانى أن أحدّثك ساعات طويلة وأيّاما ودهورا عن الحبّ والشّغف والحزن، عن سوء الفهم وسوء الطّالع، عن اللّبس والضّياع، عن الأسف والغفران، عن الرقّة والقسوة والنّكران، عن الألم والمكابرة، عن الظّاهر والباطن، عن الذّاكرة وزلّة القلب واللّسان… وها أنا صامتة بالكامل، صامتة جدّا، صامتة صامتة صامتة... لم يتبقّ لديّ سوى الصّمت. لكنْ، ما معنى أن أكون صامتة هكذا، وحيدة بالكامل، دون أن أنظر فى عينيْك وأنت قبالتي؟».
مسرحية أشباح سلمى هى شعر خالص لمحبّى الشعر. وهى ابتكار وتجديد لمحبّى المسرح وفسحة فى الجمال والتأمل للباحثين عن الدهشة. عملٌ تجتمع فيه رقة النبوغ وأناقة الحرفية العالية وطاقة المثابرين. وهو برأيى عملٌ مميّز جدا لفريق مميّز، شاعر (الكاتب) وساحر (المخرج) وممثّلات وممثّلين تماهوا مع أطياف الشعر فتحوّلوا إلى كائنات خرافية نصف بشر ونصف أشباح.