لحظة وعى سلمى قاسم جودة تكتب :

أكــــرم بيـــه

 سلمى قاسم
سلمى قاسم

الحياة لحظة.. خاطفة.. سريعة.. ومضة برق صاعقة تحاكى السحابة الشهباء المعلقة فى السماء تبدو متمهلة ولكنها تزول فى لمح البصر.. لحظة مكثفة، مدمجة عامرة بالرغبة، بلذة الأخذ والعطاء، اغتنام الحاضر بلهفة جامحة فيشحب الخوف من الغد وتخفت الهواجس المربكة لتتعملق دنيا اللحظة الآمرة الناهية الخاضعة دوما لسطوة الغريزة المندفعة..
 هكذا عاش أكرم بيه حياة حافلة أقرب إلى المغامرة، المقامرة، الأرجوحة تعلو وتهبط، تحلق وترتطم، فلا شيء يهم وكل شيء ممكن مادام الوجود أقرب إلى رقصة مُسكرة تشتعل وتتوحد من خلالها الحواس على إيقاع نغمة واحدة هى «أريد الآن الآن».. أكرم بيه ينتمى إلى نوعية الشخصيات المتمردة على المألوف، الاستثنائية ومن ثم لا تُنسى، ينهل مما تجود به الأقدار ويعطى للآخرين، تمادى به العمر ولكنه لم يعرف النضج، اكتنز خصائص الطفولة فالدنيا لحظة يقضى منها وطرا.. وأذكر كلمات شتاينبك: «فإن كان هناك طريقان للكرم يتفرعان من طريق الحياة العام وليس فى الإمكان إلا اتباع طريق واحد فمن ذا الذى يحكم أيهما الأفضل».
كل شيء بدأ منذ الطفولة.. هاهو أكرم طفل مثل الآخرين طاقته تفوق قامته ورغبته تتجاوز وعيه حكت لى شقيقته عن واقعة في أيام الطفولة تشى بما سيكون السلوك المزمن لأكرم بيه، كانت هناك رحلة إلى الإسكندرية والمسموح سفر طفل واحد فلجأت الشقيقة إلى حيلة تنسجم مع شخصية أكرم: تأكل مانجة أو تسافر الإسكندرية قالت الشقيقة بمكر فأجاب أكرم دون تفكير آخذ المانجة، اندهشت وسألتها كان يستطيع أن يسافر إلى الإسكندرية ويأكل أيضا بطبيعة الحال المانجة هناك وكل مايحلو له، ولكنها السمة المتجذرة فى شخصيته المندفعة، وهذا لايعنى أنه لم يكن يتمتع بالذكاء على العكس ولكنه كان محملا بما أسميه مضادات الذكاء.. ها هو أكرم الأنيق، المتواضع، سوف يفطر مع الأمير أو الغفير بذات المرونة والجاذبية والنفس الحلوة، النقية.. سيجرب المكسب والخسارة، يدلف إلى الفنادق الفخمة والقصور المنيفة، يعاشر المليارديرات والبسطاء، لن يحتفظ قط بأى ملكية، فهو لا ينجح فى امتلاك الأشياء، فالسيارة الفارهة تبقى لمدة ساعات وأذكر الرائع إحسان عبدالقدوس، وأيضا مديرة مكتبه العزيزة الأستاذة نرمين القويسنى ودهشتهما على نوادر وعجائب أكرم بيه، المنزل الفاخر، الساعة (البياچيه) المرصعة بالماس لا شيء يصمد أمام البيه، حتى باب المنزل والبوتاجاز خضعا ذات يوم للبيع.. وهكذا فى الصباح السيارة الشاهقة، وفى المساء التاكسى وكل شيء ممكن وغير ممكن فى عالم أكرم.. هناك دوما حاشية تتبعه لهم أسماء غريبة محسن كوسة، فتحى كشرى، وجيه باستيلا.. وتستهوينى قصة جار له ففى موعد الغداء كل يوم تشاهد طابورا يبدأ من الأب ثم الأبناء وينتهى بالقط شيبس والكل يمسك بطبقه ينتظر الطعام.. البعض يراه مسرفا، مبذرا والبعض يراه أسطورة فى العطاء والكرم الحاتمى حتى أنه ذات يوم قرر طلاء البناية الشاهقة التى يقطنها على نفقته.. يحيلنى دائما إلى قصة بوشكين البديعة (ملكة البستوني) والحلم المزمن بضربة الحظ والحياة المرهونة بمفاجآت القدر وأرجع مقولة بوشكين: «إن الوهم الذى يسمو بنا أغلى من عشرة آلاف حقيقة».. اشتهر بولعه وارتباطه العميق بفندق النيل هيلتون حتى أن السيدة نرمين قالت إنه الأساس الأصيل للفندق، كان بمثابة المنزل بالنسبة له يتواجد يوميا فى الصباح والمساء فى عصر الفندق الذهبى، سوف تراه فى (الأبيس كافيه) وفى ملهى (التروبيكانا) الصيفى حيث حمام السباحة والأضواء الخافتة الموحية بألوان الجواهر النفيسة بينما تلج الراقصة ناهد صبرى التروبيكانا وكأنها غجرية جامحة، فاتنة، هائمة، هاربة من قبيلة همجية، تشتعل بغلائلها المخضبة بلون الشمس والقمر تحت الأضواء الحمراء المذهبة، سوف تراه فى الليالى الشتائية فى ملهى «البلفيدير» وفى «البيتزيرا» حيث الصفوة المصرية والنجوم من عشاق الهيلتون، أما المحلات الشهيرة هناك مثل «ميس إيجيت» والجواهرجى «ايكونوماكيس» وجورج وسويلم لملابس الرجال الكل يعشقه، فهذا الفندق بمثابة المكان، الزمان والتاريخ الفاحش الثراء.
 فى الأيام العجاف لأكرم بيه يلجأ إلى شراء أجهزة بالتقسيط ثم يبيعها فيغدق على متعة اللحظة والناس وقطط المنطقة التى يقطنها على ضفاف النيل، فى تمام العاشرة صباحا والخامسة عصرا ترى جحافل من القطط تأتى بانضباط مذهل هى لحظة الحسم بالنسبة لها والتهام الطعام.
أرجع ما سطره جبران: «وعظتنى نفسى فعلمتنى ألا أقيس الزمن ـ بقولى «كان بالأمس وسيكون غدا» وقبل أن تعظنى نفسى كنت أتوهم الماضى عهدا لا يرد والآتى عصراً لن أصل إليه، أما الآن فقد عرفت أن فى الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل مافى الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق» هذا الإيقاع المنهك مفضى إلى الاستدانة، «الشكك» سيد الموقف فى أيام العسر فلا شيء يدوم، الكرافتة الديور والولاعة الدويون والبدلة الإيطالية كل شيء للبيع عندما يتجهم الوجود ويضن ولكنه على يقين من البركة والخير والناس أيضا تتوسم فيه البركة والتسامح الجميل، ذات مساء وبينما يتناول أكرم بك العشاء الشهى فى فندق عريق قال أريد عشرات الوجبات مثل عشائى للبسطاء من أهل الحى ألا تؤدون الزكاة؟ وأردد جبران: «جميل أن تعطى من يسألك ماهو فى حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطى من لا يسألك وأنت تعرف حاجته، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء يكون له فرح بسعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه أعظم مما بالعطاء نفسه».