«الصرخة».. قصة ثاني أشهر لوحة في تاريخ الفن بعد «الموناليزا»

لوحة الصرخة - صورة أرشيفية
لوحة الصرخة - صورة أرشيفية

«تعيش الألوان حياة خاصة مدهشة بعد وضعها على لوحة الرسم»، هكذا عبر الفنان التشكيلي العالمي إدفارد مونش عن ولعه بالألوان والرسم، الذي أبدع من خلالهم ثاني أشهر لوحة في تاريخ الفن، والثانية عالميا بعد لوحة الموناليزا الشهيرة.

 

ولد الرسام النرويجي الشهير «إدفارد مونش» عام 1863 في لوتن، النرويج وقد أسس نمطاً انسيابياً من الرسم يقوم على مواضيع نفسية، وتعد لوحته الصرخة التي رسمها عام 1893 واحدة من أهم الأعمال في تاريخ الفن، ولعل أعماله اللاحقة تعد أقل حدة إلا أن المبكرة منها تعد أكثر قتامة وتؤكد على نمطه الفني .

 

لم يتزوج «إدفارد مونش» ولم يستطع أن يحرِّر نفسه من أن يقرن الحب والجنس بالمرض والموت، فالعلاقات السويَّة في رأيه بين الرجل والمرأة مستحيلة لأن كلا منهما يحاول السيطرة على الآخر، وكان يشعر أن لوحاته بمثابة أطفاله، لا يحب الانفصال عنها، عاش خلال الـ 27 سنة الأخيرة من حياته في وحدة وعزلة تزداد وتتوحش.

 

اقرأ أيضًا: «أدب الرعب».. بدأ من «قلعة أوترانتو» وتحول إلى رغبة في اقتحام المجهول

 

لوحة «الصرخة»

 

وتعتبر لوحة «الصرخة» ثاني أشهر لوحة بعد الموناليزا، وهي تصور الخوف والقلق الوجودي عبر تموجات من حمرة السماء وزرقة البحر وسواده، وينضم إليهما مونش، بملامح مرعبة تشبه جمجمةً بعد الموت، صارخًا فوق جسر وكأنه جزء من تلك الموجات ذات الرهبة، وكأنهما يعبران عن اضطراب الطبيعة وهو يرمز إلى اضطراب البشر النفسي. 

 

قال الدكتور  شاكر عبدالحميد وزير الثقافة الأسبق في كتابه الفن والغرابة: «من بين كل الفنانين الذين عبروا عن معاناتهم بالصراخ كان «إدفارد مونش» 1863-1944 الذي أنتج صورة واحدة شهيرة اخترقت الطبيعة كلها، ونفذت إلى قلبها من خلال صرخة مفاجئة تتردد أصداؤها في الأفق ولا يمكن مقاومة الإحساس بالفزع واليأس الذي تحمله، حيث يسهم كل عنصر في التكوين في خلق الحالة الانفعالية».

 

اقرأ أيضًا: «فقد الحركة والكلام».. روائي عالمي يكتب قصة حياته بـ«رمش عينه اليسرى»

 

لوحة الصرخة الشهيرة لإدفارد مونش التي رسمها عام 1893، قد وُجِّهت لتصوير ذلك الألم الخاص بالحياة الحديثة، وقد أصبحت أيقونة دالة على العُصاب والخوف الإنسانيّ، في اللوحة الأصلية تخلق السماء الحمراء شعورًا كليًّا بالقلق والخوف وتكون الشخصية المحورية فيها أشبه بالتجسيد الشبحيّ للقلق.

 

في ظهر لوحته كتب مونش بعض أبيات الشعر، التي ذكرها في يومياته واصفا ما حدث له: كنتُ أسيرُ في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة، ثم فجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم، فتوقَّفت وانحنيتُ على سياجٍ بجانبِ الطريق وقد غلبنى إرهاقٌ لا يوصف، ثم نظرتُ إلى السُّحب الملتهبة المعلقة مثل دمٍ وسيفٍ فوق جُرفِ البَحرِ الأزرق المائل إلى السواد في المدينة، لقد استمر صديقاي في سيرهما، لكنَّنى توقَّفت هناك أرتعشُ من الخوف، ثم سمعتُ صرخةً عاليةً أخذ صداها يتردد في الطبيعة بلا نهاية .

 

اقرأ أيضًا: «تعساء في الحب».. عظماء في الأدب رغم فشلهم في الحياة الزوجية

 

ويذكر ان الأديبة الراحلة  رضوى عاشور، تحدثت عن لوحة الصرخة في سيرتها الذاتية التي تحمل نفس الاسم، «لأنّ الصرخة لوحة شهيرة فقد حظيت بكتابات كثيرة تصفها وتقرؤها وتصنف موقعها من تاريخ الفن الأوروبي الحديث، ومقدمات الحركة التعبيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتبحث في تفاصيلها وتربط أحيانا بين التجربة التي تنقلها وحياة مبدعها، بل وتسعى إلى تحديد موقعه الجغرافي اللحظة التي أشار إليها في يومياته، أين كان يقف وإلى أي اتجاه كان ينظر حين داهمه الخوف الشديد.. بل وذهب البعض إلى أن هذا المكان كان قريبا من مسلخ المدينة، وقد يكون الصوت جئير الحيوانات ساعة الذبح، وأنه -أعني الموقع- كان بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، تعالج فيها أخت مونش، وربط هذا البعض بين الصرخة وأصوات المرضى المثقلين بمتاعبهم النفسية والعصبية» .

 

اقرأ أيضًا: «لم تمنعهم إعاقتهم عن النجاح».. أدباء ومبدعين من رحم المعاناة

 

وقد وصف الناقد التشكيلي سالدي 1915 مونش بأنه «مُبدِّد الأحلام»، الرسام المحاصر بالفزع الذي تطلقه كل أشكال المعاناة في الحياة كما تصوره ألوانه الموحية، الرجل الذي يُهيمنُ عليه شحوبُ الرعب والانقباض، في عالمه حضورٌ خاص للبدائية الخشنة والموت المتسلل خلسة والعالم القديم والعالم الجديد، حيث تسيل دماء موضوعاته وتصرخ بصوتٍ عال معبرة عن معاناة وجودها الخاص وغموضه.

 

وعلى الرغم أن "مونش" كان ممسوسًا بفنه، فإنه ليس مجرد فنان ذي طاقة إبداعية ورؤية تصويرية نقية وبسيطة وإحساس بالقيم، لكنه أيضا فنان ذو استبصار ينم عن فهم مأساوي واكتئابي آسر يخلب الألباب.

 

وتعبر لوحة الصرخة عن ذلك القلق الشخصي الذي عاناه إدفارد مونش في حياته، ثم جسده في فنه، في اللوحة يتحول الإيقاع المنحني المتقوس الذي يصرخ إلى رمز وجودي يمتزج بنفسه مع الإيقاعات الخاصة بالطبيعة، وهذه الطبيعة التى من خلال إيقاعات سماوية حمراء وبحرية زرقاء وسوداء، تبدو وكأنها جميعها، تصرخ معًا، ومعها مونش صرخة مرعبة، وكأم مونش أيضا يصرخ ولا يصرخ، فالطبيعة تصرخ بعنف وكآبة، يصرخ ولا يصرخ وكأن صرخاته داخلية، تنم عن المعاناة والقلق والألم الشديد، وكأنها تخرج من جسده كله، من وجوده كله، فتتردد أصداؤها في ذلك الوجود الكبير المحيط به، وكأنه هو أيضا وحده الذي يعاني، بينما يمشي أصدقاؤه في هدوء في اللوحة، خلفه غير مكترثين، وفي مذكراته كما قال، تركاه في وضعه المرعب ذلك، وسبقاه، تركاه وراءهما ومضيا.

 

سبب شهرة «الصرخة»

 

قد يرجع شهرة الصرخة لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصا الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها يكون من الصعب نسيانها، واعتبر النقاد الصرخة أيقونة العصر الحديث كما كانت الموناليزا هي أيقونة عصر النهضة.

 

سجّلت الصرخة نقطة تحوُّل هامة في القرن العشرين، لقد قطع الإنسان كل صلاته بما كان يمنحه الارتياح في القرن التاسع عشر؛ أما الآن، فلا يوجد تقاليد ولا عادات، ولا أعراف ولا ثوابت، فقط إنسان مسكين في لحظة أزمةٍ وجوديَّةٍ مهولة يواجه وحده الكون الذي لا يفهمه ولا يستطيع التواصل معه سوى بالذعر.

 

المثير بشأن اللوحة ليست الطريقة التي أثرت بها في الفن الحديث لاحقًا، ولكن كيف توغّلت اللوحة في الثقافة الشعبية، وأصبحت أكثر شهرةً من مونش نفسه، الكثير من الناس لا يعرفون مونش ولكن يعرفون الصرخة، جدير بالذكر أن العنوان الأول الذي أطلقه مونش على هذه اللوحة لم يكن هو "الصرخة" بل "يأس" أو "قنوط" .

 

وقد أصبحت الصرخة أيقونة أعيد نسخها وإنتاجها في بطاقات البريد والملصقات الإعلانية وبطاقات أعياد الميلاد وسلاسل المفاتيح وأصبحت إطارا لسلسلة من الأفلام السينمائية ظهرت عام 1996 وما بعده بعنوان الصرخة أيضا، وأعاد أندي وارول رسمها مرات عديدة أخرى على طريقته عام 1984.

 

يوجد من اللوحة 4 نسخ مختلفة بيعت نسخة 1895 في مزادٍ علنيّ خلال أول ربع ساعة من عرضها بـ 120 مليون دولار أمريكي، وتعرضت اللوحة للسرقة من متحف مدينة أوسلو بالنرويج خلال شهر أغسطس 2004 على الرغم من وجود كاميرات تصوير متعددة ضد السرقة داخل المتحف وخارجه وأعيدت في 2006، وكانت قد سرقت من قبل أيضا سنة 1994 من متحف مونش بأوسلو وأعيدت في مايو من نفس العام.