«طوائف الحرف في القاهرة».. كنوز اقتربت من الاندثار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

"الحمَّارة..السقا.. الشبكشية..المشربجية..الصرماتية..الطرابيشي"..حرف كان لها أهميتها ووضعها عند المصريين، وتخصصت لها أحياء بذاتها يعمل كل أهلها بنفس الحرفة، ولكنها اندثرت ولم يبقى منها إلا بعض الأسماء التي سمعناها في الأفلام القديمة، أو روى لنا الأجداد قصص عنها.


ورغم اندثار تلك الحرف من حياة المصريين، إلا أن الدكتور نبيل السيد الطوخي، إستطاع أن يوثقها في كتابه "طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1841-1890"، ونستعرض في السطور التالية حكايات بعض الحرف المندثرة .

 

اقرأ أيضا| الدكتور جمال شيحة : مصر نجحت فى مواجهة فيروس«سى» وحققت طفرة كبيرة فى مهنة الطب



روى  دكتور نبيل الطوخي في كتابه، كيف كان الحرفيون ينتظمون في طوائف، لكل طائفة منها رئيس يسمى شيخ الطائفة، وهو المسئول عن جميع الأمور الداخلية لشئونها، كما كان يتولى أيضًا تنظيم العلاقة بينها وبين الحكومة، ثم بعد الشيخ يأتي المعلم، ثم الصانع، فالتلميذ.


وقتذاك كان لكل حرفة حي قائم بذاته؛ فهناك مثلًا أحياء للحدادين، والنحاسين، والصاغة، والسروجية، والحقيقة أن هذا الأمر لم يقتصر على هذه الحرف فحسب، بل كان هناك أيضًا طوائف للنشالين، والشحاذين، والمتسولين.
الحرفيون يواجهون "نابليون" .


وأكد أن طوائف الحرف في مصر لم تكن منغلقة على ذاتها لتتابع فقط شئونها الداخلية، ولكن كان لها دور سياسي مهم في الحركات الجماهيرية التي ظهرت خلال القرن الثامن عشر لتتمرد ضد الظلم والاستبداد، وحين داهم الاحتلال الفرنسي أراضي المحروسة عام 1798، كان للطوائف دور مهم في الدفاع عن القاهرة ضد بونابرت.


فالحرفيين شاركوا أيضًا في ثورة القاهرة الأولى التي اندلعت 21 أكتوبر عام 1798، وثورة القاهرة الثانية عام 1800؛ حين اتحد عمال الحرف من العربجية والحدادين والسبَّاكين والنجارين من أجل صنع القنابل وتشغيل المدافع.


أشهر الحرف المصرية المندثرة 


حتى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كان يوجد في القاهرة حوالي 204 طوائف وانخفض هذا العدد بعدها ليصل إلى 164 طائفة، وقد كانت العادة وقتها أن يُطلق على الشوارع والحارات أسماء الحرف والصناعات، ولذلك فحتى بعد أن اندثرت تلك الحرف بقيت أسماء الشوارع تصارع الزمن فهناك حارة السقايين، وحارة النحاسين، أما عن أشهر الحرف التي تدهورت بمرور الزمن فهي:


الحمَّارة


من بين جميع طوائف الحرف كان الحمارة هم الأكثر عددًا؛ إذ بلغ عدد أفراد هذه الطائفة 1739 فردًا، وقتذاك لعبت طائفة الحمارة دورًا مهمًّا في تاريخ القاهرة، إذ كانت وسيلة مواصلات أساسية يتنقل بها السكان بسهولة مواجهين اتساع المدينة وتشعب حواريها، وقد كان الحمار وقتها هو الوسيلة الأرخص والأسرع والأقدر على ولوج أزقة الحواري الضيقة.


وإذا كنت تعيش خلال هذا الزمن الموغل في البعد وقررت أن تركب حمارًا لتصل إلى وجهتك، فكل ما عليك فعله هو التوجه إلى أبواب القاهرة ومداخل أسواقها وأماكنها المشهورة؛ هناك سيُجهز لك الحمار ببردعة محشوة مغطاة من الأمام بالجلد الأحمر، ومجهزة بشرائط صوفية ناعمة، وعادة ما تكون البردعة مرتفعة حتى يكون الراكب عاليًا دائمًا، وحتى لا تقع من فوق ظهر الحمار لأي سبب، سيكون المكاري (مالك الحمار أو من يتولى رعايته) بجانبك حفاظًا على سلامتك وحتى يطلق نداءات إبعاد المارة عن الطريق.


ولأن الحمير كانت وسيلة النقل الأساسية؛ فقد وضعت لها الحكومة المصرية لوائح وقوانين تنظم عملها وشروط استخدامها؛ ففي عام 1895 أصدرت مديرية الجيزة لائحة الحمَّارة ووفقًا لقواعد تلك اللائحة يجب على مالك الحمار أن يذهب إلى مراكز البوليس من أجل معاينة الحمير والتأكد من خلوها من الأمراض والقرح، كذلك تجري معاينة البردعة؛ إذ يشترط أن تكون بحال جيدة.

 

وبالنسبة لمالك الحمار فقد وضعت له اللائحة ثلاثة شروط، هي ألا يقل عمره عن 14 عامًا، وأن يكون خاليًا من الأمراض، وأن يحصل على تصريح من المديرية.


ولم تكتف لائحة مديرية الجيزة بتلك القواعد؛ لكنها نظمت أيضًا عمل الحمارة؛ إذ لا يجوز للحمارة أن يسيروا في الشوارع بحثًا عن ركاب، ولا يمكنهم طلب أجرة زيادة عن التعريفة المدرجة باللائحة، كما يجب أن يقفوا في صف واحد بالترتيب حتى لا يزدحم الشارع العمومي.


العفريت يصل المحروسة


وفي 1 أغسطس عام 1896 استيقظت مدينة القاهرة على خبر ظهور الترام، وهو الأمر الذي استقبله المصريون بالخوف؛ إذ أطلقوا عليه اسم العفريت، ووقتها كتبت الصحف المصرية عن رد فعل المصريين «العفريت يصل المحروسة»، و«العفريت يسابق الريح»، وفي 12 أغسطس احتفلت المحروسة رسميًّا بتسيير الترام، ولم يستطع الأهالي الوقوف في وجه التكنولوجيا الحديثة، وشيئًا فشيئًا اختفت مهنة الحمارة التي حاول أصحابها الحفاظ على مهنتهم للمرة الأخيرة، حين أطلقوا شائعات مفادها أن ركوب الترام يسبب العقم للسيدات.


الشبكشية والمسلكاتية


الشُبك هي أداة تدخين ويطلق على صانعها اسم الشبكشي، أما أصل كلمة الشُبك فيعود إلى اللغة التركية ويحمل المعنى نفسه في اللغة الأم؛ وهي أداة تدخين محمولة يسهل التحرك بها على عكس الشيشة، وهي تشبه الغليون قليلًا، ولكنها عبارة عن قصبة مصنوعة من الخشب ويوجد بها مكان لوضع التبغ.


وقد انتقل الشُبك من الدولة العثمانية إلى مصر في القرن السابع عشر؛ ومنذ الأيام الأولى له في المحروسة أفتى الكثير من الفقهاء المسلمين بتحريمه، لكنه انتشر بسرعة ولم يقتصر أمر تدخينه على الرجال فقط، فالنساء أيضًا تمتعن بتدخين الشُبك.


وقتذاك كان شُبك النساء أرشق وأكثر زخرفة، كما أن مبسمهم كان يُصنع من المرجان عوضًا عن الكهرمان، وكان صانعو الشبك قديمًا يقطنون بحي النحَّاسين، وهناك أبدعوا وتفننوا في إتقان أنابيب الشبكات التي كانت تُصنع من البوص أو الكريز، وأحيانًا أخشاب الجوز واللبخ والياسمين.


وأما أفراد الطبقة العليا في القاهرة فقد كانوا يدخنون تبغًا يحمل رائحة عطر لطيف ولذيذ يُجلب لهم خصيصًا من مدينة اللاذقية في سوريا، وقد استمر الشبكشية يتفننون في صنع أنابيبهم حتى نهاية القرن التاسع عشر، حينما انتشرت ماكينات صناعة السجائر.


ومن حرفة الشبكشية، انبثقت مهنة أخرى هي المسلكاتية، والتي كانت تطلق على الأشخاص المسئولين عن تنظيف الشُبك؛ إذ كان العديد من فقراء القاهرة يعيشون على تلك المهنة.


وفي عمله عادة ما يحمل المسلكاتي أسلاكًا طويلة يضعها في عصا مجوفة أو في أنابيب من القصدير، كما يحمل أيضًا حقيبة من الجلد يضع بداخلها أليافًا من القنب يلفها على السلك من أجل تنظيف الشُبك، وقد بلغ عدد المسلكاتية في أواخر القرن التاسع عشر، حوالي 46 مسلكاتيًّا.


الصرماتية والإسكافية...حرفة فرعونية قرُبت على الاندثار


كلمة "إسكافي" يعود أصلها إلى الحضارة السومرية التي قامت في جنوب العراق بداية من عام 3200 قبل الميلاد، وفي اللغة السومرية إسكاف كانت تعني صانع الأحذية، وفي اللغة الأكادية حُرفت إلى إسكابو، وحين دخلت إلى البلاد العربية أضحت إسكافي، وهي الكلمة السائدة حتى يومنا هذا.


تعد مهنة صانع الأحذية أو الإسكافي من أقدم المهن التي عرفها الإنسان؛ إذ امتهنها الفراعنة وصنعوا من الصنادل عدة أشكال تدل على المكانة الاجتماعية، وعرف الآشوريون وبلاد الشام والروم والفرس أيضًا هذه المهنة؛ إذ كانت كانت الأحذية آنذاك تُصنع من الجلد والخشب والمطاط والبلاستيك.


وفي المحروسة كان الصرماتية يصنعون كل ما يلزم سكان القاهرة من البُلغ والمراكيب والأخفاف، ولم يقتصر العمل في تلك الحرفة على المصريين، ولكن عمل بها الشوام أيضًا، وكذلك الأرمن الذين كانت تضاهي أحذيتهم في جودتها البديعة تلك المستوردة من أوروبا، وكان من أشهر الصرماتية الأرمن في مصر، عم هاجوب الإستانبولي.


وقد وصل عدد الصرماتية في مصر في سبعينيات القرن السابع عشر 1176 صرماتيًّا، ومع نهاية القرن التاسع عشر كسدت صناعة الأحذية الوطنية وغمرت الأحذية الأوروبية الجاهزة أسواق القاهرة، ومع ذلك لم تندثر مهنة صناعة الأحذية تمامًا؛ ففي وقتنا الحالي ما زالت هناك أحذية خاصة تُصمم لبعض الأفراد؛ مثل اللاعبين والأشخاص الذين يعانون من عيوب خلقية في أقدامهم، مثل الأقدام المفلطحة.


الخراطون والمشربجية..فنانون تحركهم الفطرة


لمصر تاريخ طويل مع خراطة الأخشاب التي ظهرت في العصر الفرعوني، وحتى اليوم توجد آثار لآلات خشبية استخدمت في مصر القديمة مثل المناشير والمطارق والبلط، وفي العهد القبطي انتشرت خراطة الأخشاب أيضًا، ولكنهم وقتها لم يكتفوا بالأخشاب المحلية؛ إذ استوردوا أجود أنواع الخشب من الخارج مثل خشب الجوز، والأبنوس، والبلوط.


بعد الفتح الإسلامي لمصر استمر فن الطراز الخشبي القبطي، وفي عهد ابن طولون ازدهر فن الزخارف الخشبية الإسلامية، وآثار هذه الحرفة ما تزال موجودة في الكثير من البيوت، مثل بيت الشيخ محمد أمين السحيمي في حي الجمالية.


وكانت حرفة الخراطين قديمًا مقسمة إلى أربع فئات هم: خراطو الخشب، والصناديقية أو صانعي الصناديق، وصناع المقاعد، وصناع المشربيات، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت القاهرة تضم عددًا كبيرًا من الخراطين، وكانوا يقطنون في حي باب الشعرية؛ فكل قطعة خشب زُينت بها المشربيات والنوافذ كانت من صنع يديهم؛ وقتذاك كان الخراط المصري يعمل بآلات بسيطة، إلا أن نتاج عمله كان غاية في الدقة والإتقان، ولكن بمرور الوقت قل أعداد العاملين في هذه الحرفة حتى بدأت المهنة في الزوال شيئًا فشيئًا؛ لأن نوافذ المنازل الحديثة أضحت تُصنع من الزجاج.