محمد داود يكتب: الهداية في القرآن

محمد داود
محمد داود

في سلسلة مقالات للدكتور محمد داود أستاذ علم اللغة بجامعة قناة السويس، يسلط الضوء على قضية الإلحاد، من خلال الرد على تساؤلات وردت بالفعل، ننقلها لكم يوميًا.

عمل «داوود» في البداية على نشر هذه التساؤلات عبر صفحته على موقع «فيسبوك»، تحمل اسم «الملحدون يعترفون»، ثم أشار عَليه بعض أصحابه بسلسلة تجمع خلاصة هذه الحوارات في كتاب لتكون متاحة لمن لا زالوا يفضلون النسخة الورقية للكتاب على النسخة الإلكترونية.

وإلى اللقاء الجديد
عزيزى...
فـرقٌ بـين هـدايتين:
لقد هدى الله الناس جميعًا هداية السبب ـ وسأبيِّن لك معانى الهداية فى القرآن ـ بأن أرسل الرسل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب، وجعل للإنسان عقلًا يدرك ويفهم ويعلم، ويبحث فى كون الله ليرى فيه من شواهد الحق وبراهين الإيمان.. ليرى فى عظمة المخلوق دليلًا على عظمة الخالق سبحانه.
فمن استجاب وأخذ بهداية السبب منَّ الله عليه بنوع آخر من الهداية، وهى هداية التوفيق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].
والآية تبين أن العصاة لم يخرجوا عن قدرة الله عليهم، وأن الله لو شاء لهدى كل نفس، بل الخلق جميعًا، كالكائنات المسخَّرة: الشمس والقمر.. وغيرها من الموجودات.
وهنا لا وجود للحرية، ولا إرادة للإنسان، ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الإنسان مكرمًا حرًّا مختارًا، يختار الإيمان بالخالق دون إكراه، (لا إكراه في الدين)[البقرة: 256].
ويفوز بالثواب العظيم فى الدنيا والآخرة؛ لأنه آمن..
فليرحم الإنسان نفسه ويختار سبيل الطاعة ليفوز بالجنة، وليرحم الإنسان نفسه بترك الكفر والمعاصى التى نهى الخالق عنها.
مثلًا: الإنسان حين لا يلتزم باللافتات التحذيرية.. احذر (خطر الموت).. احذر (منطقة ألغام).. احذر (هذه منطقة غرق)... إلخ, ولا يستجيب، ثم يصيبه الأذى ويقع فى المحذور.. فهو من أساء إلى نفسه، ولا يجدى أن يتلكأ ويتململ ويُلقِى بالملامة على الآخرين، وسبحان من خلق النفس ويعلم طبعها الجدلى، قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].
عزيزى.. وهذا بيان معانى الهداية فى القرآن الذى وعدتك به:
كلمة الهداية فى القرآن الكريم لها وجوه من المعنى، من أهمها أن الهداية حين تُسنَد إلى المخلوق يكون لها معنى, وحين تُسنَد إلى الخالق يكون لها معنى مختلف, ويتضح ذلك بضرب المثال، فكلمة السؤال حين تُسند إلى الأستاذ ينصرف الذهن إلى الاختبار والتقييم والتعليم، ولكن حين تُسند إلى التلميذ فالمراد طلب المعرفة من علم الأستاذ، فالسياق يحدد المعنى.
معنى الهداية حين تسند إلى مخلوق:
حين تسند الهداية إلى المخلوق فإنها تعنى الإرشاد والبيان، والدليل فى مثل قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]؛ أى يسترشدون، فالناس فى عرض المحيط ليلًا عندما يريدون تحديد المسار والاتجاه الصحيح يسترشدون بالنجم؛ أى يهتدون به، وكذلك يسترشدون ويستدلون بالنجم فى الصحراء المترامية ليلًا.
وفى مثل قول الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24]، فالعلماء والأئمة يرشدون الناس، ويبينون لهم الصواب والحق.
وقال تعالى فى حق سيدنا محمد ﷺ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]؛ أى تبين وتوضح وترشد الناس إلى ذلك.
إذًا حين تسند الهداية إلى الناس ـ إمامًا أكان أم نجمًا ـ فهى بمعنى الإرشاد والبيان.
معنى الهداية حين تُسند إلى الخالق:
وحين تسند الهداية إلى الخالق يكون لها معنى آخر يتناسب مع جلال الخالق ، ومع كمال علمه وإحاطته، ومع عظيم حكمته.
فالهداية التى فى قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، بمعنى التوفيق والإعانة من الله , كما فى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، يعنى: وفقنا وأعنَّا، فهذا هو المعنى الذى يحدده السياق.
إذًا هناك هداية السبب، وهناك هداية التوفيق, هداية السبب: حين تسند إلى المخلوق، وهداية التوفيق: حين تسند إلى الخالق.
وحين يبين الله  ذلك فى القرآن فإنه يؤكد للخلائق أنه هدى الناس جميعًا هداية السبب، بمعنى أنه أرسل الرسل، وبعث الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية، وجعل هذه الآيات الكونية الدالة على قدرة الخالق، فهدى الله الناس جميعًا هداية السبب، فمن الذى ينال هداية التوفيق؟ 
الذى ينال هداية التوفيق هو من أخذ هداية السبب، وتؤكد الآيات هذه الحقيقة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] [محمد]، ونلحظ هنا أن (اهتدوا) بواو الجماعة؛ أى أُسندت الهداية إلى الناس، فالهداية هنا هداية السبب، (زادهم) الضمير يعود على الله ، فأُسندت الهداية هنا إلى الخالق، فهى بمعنى التوفيق، فمن أخذ بهداية السبب وُفِّق من الله وفاز بهداية التوفيق.
معنى المشيئة فى الآية:  {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]:
أما عن المشيئة فى الآية فتدل على أن الله جعلها لاختيار الناس؛ حيث قضت حكمة الله أن جعل الإنسان كائنًا حرًّا مختارًا ليس مجبرًا، أو مسخرًا كباقى الكائنات؛ فالإنسان له حرية الاختيار، بمعنى أن الإنسان هو الذى يحدد مصيره باختياره، فمن رحمة الله أنه بيَّن سبل الفوز والنجاة فى هذا النظام الاختيارى المقفل بالنسبة للإنسان، فى حين أن الكائنات الأخرى مسخرة، وتتجلى رحمة الله وتظهر فى إتاحة سبل الهداية للإنسان، وتيسيرها له، ويظهر هذا فى عفوه الدائم ومغفرته التى لا تنقطع، بل من عظيم الكرم أن من استجاب لهديه وتاب وأناب بدَّل الله سيئاته حسنات.
فقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} بيان لطلاقة القدرة (قدرة الله)، وأنه لو شاء لجعلكم مسخرين كالكائنات الأخرى، ثم بيَّن أن الحرية المنضبطة هى المسؤولة (أنت حر إذًا أنت مسؤول), فليرحم الإنسان نفسه، ويختار سبيل الطاعة كى يفوز بالجنة, وليرحم الإنسان نفسه بترك المعاصى والمنكرات التى حذر الله منها حتى لا يستحق العقاب عليها.