في كلمته بمؤتمر الأزهر العالمي..

شيخ الأزهر: مفهوم "السلام العالمي" أمسى وكأنه من أعقد الألغاز

شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب
شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب
قال شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، أن مفهوم «السلام العالمي» أمسى وكأنه من أعقد الألغاز وأشدها استعصاء على أي عقل يتقيد بشيء من قواعد المنطق وبديهيات الفكر، نتيجة «التيه»، مشيرا إلى أن كل ما يقال عن الإسلام في شأن السلام يقال مثله تماما عن المسيحية واليهودية.

وأضاف – خلال كلمته بمؤتمر الأزهر العالمي – الخميس 27 إبريل، أن الرسالات السماوية تتطابق في محتواها ومضمونها ولا تختلف إلا في باب التشريعات العملية المتغيرة، قائلا: «عقيدتي أن رسالة محمد هي حلقة أخيرة في سلسلة الدين الإلهي الواحد، والقرآن الكريم يقرر حقيقة الاختلاف بين الناس دينا واعتقادا ولغة ولونا، والقرآن صريح في تقرير حرية الاعتقاد مع ما يلزمه من نفي الإكراه على العقائد».

وأوضح أن الحرب في الإسلام دفاعية وأول تشريع يبيح للمسلمين إعلان الحرب معلل بدفع الظلم والدفاع عن المظلومين، وأنها ليست قاصرة على الدفاع عن المساجد فقط بل مشروعة للدفاع عن الكنائس وعن معابد اليهود، مشددا على أن الإسلام لا يقاتل تحت بند الكفر، بل تحت بند العدوان، ولا يبالي إن كان يقاتل معتدين كفارا أو معتدين مؤمنين.


وجاء نص كلمة شيخ الأزهر كالتالي:
بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛

أصحاب الفخامة والغبطة والنيافة من رجالات الكنائس الشرقية والغربية..
أصحاب السماحة والفضيلة!

السيدات والسادة!

أهلا بحضراتكم ومرحبا بكم جميعا ونشكركم جزيل الشكر لتكرمكم بتلبية دعوة الأزهر ومجلس حكماء المسلمين ل: «مؤتمر الأزهر العالمي للسلام» وليس مؤتمرنا هذا بأول مؤتمر يعقد للبحث في هذه القضية، وأكبر الظن أنه لن يكون المؤتمر الأخير الذي يناقشها، وإني إذ يشرفني أن أكون من بين السادة المتحدثين في هذه الافتتاحية فإني أشعر بأن موضوع «السلام العالمي»، رغم كل ما قيل فيه فإنه يبدو وكأنه بحاجة إلى المزيد من المتابعة والتحليل والبحث، وما ذلك إلا لأن مفهوم «السلام العالمي» أمسى وكأنه من أعقد الألغاز وأشدها استعصاء على أي عقل يتقيد بشيء  من قواعد المنطق وبدهيات الفكر، نتيجة «التيه» الذي تضل فيه الفروض وتضطرب في عتمته الأقيسة والحجج، ويبدو أن «السلام» لم يعد هو القاعدة في حياة البشرية كما يذهب إلى ذلك أنصار نظرية السلام من فلاسفة التاريخ، الذين يؤكدون على أن «السلام» هو القاعدة في حياة البشر، وأن الحرب والعنف استثناء وشذوذ عن القاعدة، ولعل أصحاب نظرية الحرب كانوا أبعد نظرا وهم يقررون: «أن التاريخ البشري إنما هو تاريخ بحيرات دموية... والتاريخ ينبئنا أن الإنسانية لم تنعم دهرا طويلا بالعيش في ظل سلام كامل ودائم، حتى إن بعض الكتاب الأمريكيين ليسجل أن البشرية عبر تاريخها المكتوب والذي يبلغ قرابة ثلاثة آلاف ونصف عام فإن: 268 سنة فقط سادها السلام، أما باقي السنوات فقد كانت مشغولة بالحروب، ومن هنا استنتج جورج ويل George Will –الكاتب الأمريكي المعروف- أن السلام عاجز عن أن يحمي نفسه بدون حرب»([1]).

ولا شك أن هذا المد والجزر في رصد مفهوم السلام يغري كثيرين بالبحث عنه في مصادر أخرى متعالية، أو بعبارة أخرى: في مصادر عابرة للزمان والمكان، لا تتأثر بوحي البيئة، ولا بالظروف الخاصة والملابسات التاريخية المتغيرة، وأعني بالمصدر المتعالي فوق التغير والذاتية والمنفعة والغرض وقصر الفكر والنظر، أعني به: الأديان الإلهية ونصوصها المقدسة، التي تفزع إليها الآن كما تفزع الطيور المذعورة إلى أعشاشها الآمنة الحصينة..

واسمحوا لي حضرات السيدات والسادة أن أتخلص من هذه المقدمة، التي أراها طالت قليلا، إلى كلمة موجزة عن فلسفة السلام في «الإسلام» الذي أعتنقه دينا أهتدي بنوره في معرفة الحق في مجال الفكر والخير في مجال العمل والسلوك.. وأقرر بداية أن كل ما يقال عن الإسلام في شأن السلام يقال مثله تماما عن المسيحية واليهودية، لا أقول ذلك مجاملة لحضراتكم، وإن كانت مجاملتكم مما يحمد في هذا المقام، ولكن لأن عقيدتي التي تلقيتها من القرآن الكريم تعلمني –كمسلم- أن رسالة محمد ? ليست دينا منفصلا مستقلا عن رسالة عيسى وموسى وإبراهيم ونوح عليهم السلام؛ وإنما هو حلقة أخيرة في سلسلة الدين الإلهي الواحد الذي بدأ بآدم وانتهى بنبي الإسلام، وأن هذه الرسالات من أولها إلى آخرها تتطابق في محتواها ومضمونها ولا تختلف إلا في باب التشريعات العملية المتغيرة، فلكل رسالة شريعة عملية تناسب زمانها ومكانها والمؤمنين بها..

ويضيق الوقت عن الاستشهاد بالآيات التي تؤكد على أن ما أوحاه الله إلى محمد هو عين ما أوحاه إلى نوج وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام.

وهو ما يفسر لنا اتفاق الأديان على أمهات الفضائل وكرائم الأخلاق، وتغريد الوصايا العشر، وموعظة الجبل والآيات التي تعنى بالوصايا ذاتها، تغريدها كلها في سرب واحد ولغة شعورية واحدة..

أما عن تصور فلسفة السلام في «الإسلام» فأستسمحكم في عرضها في شكل رسائل يترتب بعضها على بعض ترتيبا منطقيا.. هذه الرسائل هي:

أن القرآن الكريم يقرر حقيقة الاختلاف بين الناس دينا واعتقادا ولغة ولونا وأن إرادة الله شاءت أن يخلق عباده مختلفين، وأن «الاختلاف» هو سنة الله في عباده التي لا تتبدل ولا تزول إلى أن تزول الدنيا وما عليها.

يترتب على حقيقة الاختلاف في الدين منطقيا حق «حرية الاعتقاد» لأن حرية الاعتقاد، مع الاختلاف في الدين، يمثل وجهين لعملة واحدة، وحرية الاعتقاد تستلزم بالضرورة نفي الإكراه على الدين، والقرآن صريح في تقرير حرية الاعتقاد مع ما يلزمه من نفي الإكراه على العقائد.

وحين ننتقل إلى تكييف العلاقة بين المختلفين عقيدة، والأحرار في اختيار عقائدهم، نجد القرآن صريحا في تحديد هذه العلاقة بإطارين:
الأول: إطار الحوار، وليس أي حوار، بل هو الحوار الطيب المهذب وبخاصة إذا كان حوار المسلم مع مسيحي أو يهودي: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن? [العنكبوت:46]، وقولوا للناس حسنا [البقرة:83].

الإطار الثاني: إطار التعارف الذي يعني التفاهم والتعاون والتأثير والتأثر يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات :13]، ذكرنا الله تعالى في الآية بوحدة الأصل أولا ثم ذكرنا بما يناسب هذه الوحدة من صلة التعارف.
يتضح لنا أيها الإخوة أن القرآن يحدد العلاقة بين الناس في علاقة «التعارف» التي هي نتيجة منطقية لطبيعة الاختلاف وحرية الاعتقاد.

أما الحرب في الإسلام فهي ضرورة، واستثناء يلجأ إليه حين لا يكون منه بد، وهذه هي نصيحة نبي الإسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية»، وليست الحرب في الإسلام هجومية، بل دفاعية، وأول تشريع يبيح للمسلمين إعلان الحرب ورفع السلاح تشريع معلل بدفع الظلم والدفاع عن المظلومين أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [الحج: 39]، ومشروعية الحرب في الإسلام ليست قاصرة على الدفاع عن المساجد فقط، بل مشروعة بالقدر ذاته للدفاع عن الكنائس وعن معابد اليهود، وإن تعجب فاعجب لدين يدفع أبناءه ليقاتلوا من أجل تأمين أهل الأديان الإلهية الأخرى، وتأمين أماكن عباداتهم..

والسؤال الذي يثير حيرة الكثيرين وهو: لماذا قاتل الإسلام غير المسلمين؟ والجواب لم يقاتلهم أبدا تحت بند «كفار»، كيف والقرآن الذي يحمله المسلمون معهم في حروبهم يقول: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وكيف يشن الإسلام حربا من أجل إدخال الآخرين في الدين كرها، والقرآن يقرر: لا إكراه في الدين.. إن الإسلام لا يقاتل تحت بند الكفر، بل تحت بند العدوان، وتحت هذا البند لا يبالي القرآن إن كان يقاتل معتدين كفارا أو معتدين مؤمنين: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات: 9].
هذا التنظير السريع المبني على نصوص مقدسة شديدة الوضوح تبرهن على أن الإسلام دين سلام وليس دين عدوان، ونقول مرة ثانية: إن الأديان الإلهية كلها سواء في هذا التأصيل المحوري لقضية السلام.

وتبقى بعد ذلك تساؤلات أختم بها كلمتي، وهي:
إذا كانت نصوص الإسلام التي ذكرت بعضا منها تكشف عن انفتاح هذا الدين على الآخر واحترامه واحترام عقائده، فكيف يصح في الأذهان وصفه بأنه «دين الإرهاب»؟ وإذا قيل: هو دين إرهاب لأن الذين يمارسون الإرهاب مسلمون؟ فهلا يقال إن المسيحية دين إرهاب، لأن الإرهاب مورس باسمها هي الأخرى؟! وهلا يقال إن اليهودية دين إرهاب لأن فظائع وبشاعات ارتكبت باسمها كذلك؟ وإذا قيل: لا تحاكموا الأديان بجرائم بعض المؤمنين بها، فلماذا لا يقال ذلك على الإسلام؟ ولماذا الإصرار على بقائه أسيرا في سجن الإسلاموفوبيا ظلما وبهتانا وزورا.

وهل من الممكن أيها السيدات والسادة أن نستغل هذا المؤتمر النادر لنعلن للناس أن الأديان بريئة من تهمة الإرهاب؟ وهل يمكن أن نشير فيه –ولو على استحياء-إلى أن الإرهاب الأسود الذي يحصد أرواح المسلمين في الشرق أيا كان اسمه ولقبه واللافتة التي يرفعها لا تعود أسبابه إلى شريعة الإسلام ولا إلى قرآن المسلمين، وإنما ترجع أسبابه البعيدة إلى سياسات كبرى جائرة اعتادت التسلط والهيمنة والكيل بمكيالين؟