«مختار القرية» قصة قصيرة للكاتبة أسماء عبدالراضي

«مختار القرية» قصة قصيرة
«مختار القرية» قصة قصيرة


    في إحدى القرى النَّائية، أصبح السَّواد زِيًّا رسميًّا لنسائها، يعوي نحيبهنَّ بعد كلّ حادثة معلنًا تجديد حزن لا ينقطع، يجتمع الرِّجال في دار عمدتهم على أمل إيجاد طوق نجاة يخلّصهم ممَّا حلَّ بقريتهم، يستمرُّ جدالهم ساعات من دون فائدة.

 

منذ شهرين، يستيقظ أصحاب القرية كلَّ صباح على جرم جديد؛ سرقة، قتل، حرق، اختفاء شابٍّ من زينة شبابهم، والفاعل دائمًا مجهولٌ، هكذا تسجَّل في دفاتر النّيابة. في آخر اللَّيل تنطلق أصوات مرعبة مجهولة المصدر، تستمرُّ حتَّى مطلع الفجر، يعبث الرُّعب بأرواح الجميع، أمسى النَّاس يهابون الخروج من بعد صلاة العشاء.

 

وفي صباح يوم ماطر بدأَ الاجتماع في دار العمدة بمواساة سويلم الَّذي استيقظ ليجد مواشيه نافقة في (الزَّريبة)، ولمَّا آل الحديث إلى الشَّيخ إبراهيم إمام المسجد، قال بعد تقديم المواساة:

-عودوا إلى الله عباد الله، لعلَّه ابتلاء جراء ما نقترف من ظلم نفس أو قطيعة رحم.

امتعض الأستاذ بكر معلم الصِّبية؛ فتساءل مستنكرًا:

-هل نترك البحث عن الجاني ونعتكف في المساجد يا شيخ إبراهيم؟!

ارتفعت الأَصوات بين مؤَيِّد للشَّيخ ومُسْتَنكر عليه، حتَّى قطع الجدال عمران شيخ البلد، الَّذي لفت الانتباه بغلظة صوته وضخامة جسده، وهو يقتحم النَّاس قائلًا:

- واحد فقط يعرف السر وراء الجرائم كلها، معه الحلُّ حتمًا ولا بُدَّ.

تعالت الهُتافات مُستحِثَّةً شيخ البلد على الإفصاح عن قصده؛ ما جعله يصمت هنيهة قبل أن يقول بصوته الأجشّ:

- مختار المندوه.

- المجذوب؟ الَّذي يبول على ملابسه؟ هه! أَتَهْزَأُ بنا يا شيخ البلد؟!

قالها الأستاذ بكر ساخرًا.

ضجَّ الحاضرون، ترك الشَّيخ إبراهيم الاجتماع ساخطًا بعد أن اتّهم عمران باختلال قواه العقليَّة والدِّينيَّة.

فابتدرهم عمران مدافعًا عن فكرته:

- منذ شهرين نعيش في عذاب؛ يد خفِيَّة تقتل وتسرق وتُخفِي!

يسكت قليلًا مفسحًا لهم المجال لتدبُّر كلامه، ثمَّ يستأنف وقد توجَّه بنظره نحو العمدة:

- لم تصل الشُّرطة إلى شيء حتَّى الآن. أَنسِيتُم مختار وكراماته؟

ثمَّ يُعاوِد إجالةَ نظره في الحضور وهو يتنقل بينهم بخِفَّة طائر يحلِّق بمهارة.

- نسيتم العام الماضي يوم أخبركم بمن أحرق القصب؟

ولم تلبث أن انطلقت ضحكة ساخرة من فم بكر قبل أن يقول:

- لا تبالغ، هل خَفَّ عقلنا يا شيخ البلد؟!

همَّ عمران بالردّ عليه، فقاطعه أحد الحاضرين قائلًا:

- يوم اختفاء حفيدك يا حضرة العمدة، من دلنا على مكانه؟ لولا مختار ما كنا عرفنا أنَّه عالق في التّرعة عند الجسر الغربيّ!

نظر العمدة بتعجب وحيرة دون أن ينطق بحرف، وكأنَّ الرَّجل قال شيئًا لم يعرفه العمدة إلَّا الآن!

أضاف آخر مدللًا على كرامات المختار:

-ولماذا غضب الشيخ إبراهيم؟ نسي يوم دلَّه مختار على من سرق حذاءه من قدام المسجد يوم الجمعة؟

حاول شيخ البلد أن يُخفِي ابتسامة نبتت على شفتيه الغليظتين، احمرت عينا بكر غضبًا، فقال وهو يغادر المجلس:

- يبدو أن عقل الجميع قد خفَّ؛ ذهبت الجرائم بعقولكم! لله الأمر!

زاد الصَّخب، وانقسم النَّاس بين مؤيد ومعارض، ومندهش يترنَّح بين التَّصديق وعدمه.

عند السَّاقية القديمة الرَّابضة شرق الجسر يجلس مفترشًا الأرض بجوار عُشَّته، مسندًا ظهره المقوَّس إلى جذع شجرة الكافور العتيقة، يأخذ شعره الأكرت فوق رأسه هيئة كومة التُّراب مُشكِّلًا عِمامةً سوداء، وتبتلع وجهه لحيةٌ كثيفةٌ لم ترَ الماء منذ أمد، تتناثر بضع ثآليل على وجهه ورقبته، يستقرُّ أكبرها فوق أنفه حتَّى لتخال أنَّها ذبابة تقف عليه، يرتدي جلبابًا رقيقًا رغم برودة الجوّ، يتمتم بأناشيد يحفظها عن ظهر قلب، وفي يده قطعة خبز يقضمها تارة وينظر إليها تارة أخرى، ويحدّثها كجليس يأنس بصحبته.

 

قطع على المختار حديثه مع قطعة الخبز، الخفير يقف محافظًا على مسافة تفصل بينهما؛ هربًا من روائحه المنتشرة في المكان، ينظر إليه متمتمًا بحذر: "كانت جدَّتي تقول دائمًا: (يوضع سرَّه في أضعف خلقه) لكن هل يضعه في أقذرهم؟!". طلب الخفير من مختار السَّير معه، فنهره ملوحًا في وجهه غير آبِهٍ بما يقول، فكَّر الخفير في استخدام القوَّة، ولكنَّ المجذوب أمسك (عِرقًا) كان بجانبه، وانطلق نحوه كنَسرٍ يعلم وجهته، فرَّ الخفير ليعود وبصحبته ثلاثة آخرون، ربطوا المجذوب كفعلهم بدابَّة يخشون فرارها، وانطلقوا صوب دار العمدة.

دخل الخفر، يدفع كبيرهم مختارًا بعد أنّ فكَّ أغلاله، تتعلَّق العيون به وقد انكمش جلده وخمدت ثورته.

-صحيح أنت تعرف الجاني ابن الحرام يا مختار؟

قالها العمدة ساخرًا.

تمتم مختار بكلماتٍ غير مفهومة، طلب منه عمران أن يستريح، لكنَّه لم يُحرِّك ساكنًا، فقال الأخير:

- قل يا مختار! من حوَّل قريتنا إلى جحيم؟!

طال صمته، وآذان الحضور معلَّقةٌ بشفتيه المرتجفتين، ثمَّ انطلقت الهتافات:

- إن كنت تعرف حاجة قُلها يا مختار.

- ما تخاف يا مختار، تكلَّم.

يتفرَّس في وجوه الجالسين كمن يقرأ دواخلهم، ثمَّ يعود لتمتمته غير المفهومة دون أن ينطق بذات شفه.

اقترب شيخ البلد من العمدة، همس في أُذنه، ثم انسحب بصحبة مختار الذي سار معه دون اعتراض أو ضيق، عاد بعد ساعة ليعلن للجميع نتيجةَ حديثه مع المندوه، يمطر الحاضرون عمران بتساؤلاتهم، يتردَّد الأخير قليلًا قبل أن يقول:

-الأستاذ بكر هو سبب الخراب.

هاج النَّاس وارتفع ضجيجهم، صاح أحدهم مستنكرًا:

- بكر معلم فاضل، منّا وعلينا، نأمنه على أولادنا!

- الأُستاذ بكر طيّب وأمينٌ، كيف يتآمر علينا؟!

تشابكت الأصوات، فلا يكاد أحد يتبين حرفًا، هتف عمران:

- صدمت مثلكم، لكنَّه وجه مزيَّف يداري به ألاعيبه.

صاح سويلم كأنَّهُ أتى بالدَّليل:

- دائما أراه يقرأ في كتاب على القهوة، ولمّا سألت ابني، قال لي.. ماذا كان اسم الكتاب يا سويلم؟ آه (كيف تصبح ملهمًا)، يعني إيه "ملهمًا" يا حضرة العمدة؟

امتعض العمدة، أشاح بِيده ساخطًا، سحب نفسًا من شيشته، نفثه متأفّفًا، وقد اربدَّ وجهه:

- من غير سؤال يا سويلم، واضحة!

بدأَ عمران يسوق أدلَّة على اتِّهام الأستاذ تؤكد عمله في الخفاء مع (هجامة) الجبل مستغلًّا مكانته، فانطلق النَّاس غاضبين نحو بيته، حاول الشَّيخ إبراهيم احتواءهم، لكنَّ غضبهم كان أكبر من أيِّ محاولة للتهدئة، أصرُّوا على طرده، خرج بكر بأهله ليلًا تاركًا القرية، شيَّعه صغارها رميًا بالحجارة!

بعد رحيله ساد الهدوء، وترسَّخ اقتناع أصحاب القرية بكرامات المجذوب الَّذي أصبح مختار القرية وقوتها الخفية، وأمست عشَّتُه مزارًا يقصده كلُّ حائر، أمَّا عمران فغدا الوسيط الوحيد بينه وبين الجماهيرِ.

في الجمعة الأُولى من رمضان، ازدحم المسجد لأوَّل مرَّةٍ منذ أمد، فاستغلَّ الشيخُ إبراهيمُ اجتماع النَّاس، وحدَّثهم عن الشَّعوذة والمشعوذين، أصغى المصلُّون لكلام الشيخ، فيما توجَّهت أعين بعضهم نحو عمران الَّذي يجلس في زاوية المسجد ينظر إلى الشَّيخ محدِّثًا نفسه:

"تظلُّ مهمَّتي ناقصة إن لم أتخلَّص منك!"