«جامعة الورق» قصة قصيرة للكاتب محمد فرحات

الكاتب محمد فرحات
الكاتب محمد فرحات

لا يُعطي القَدر لأم الـمحروس مساحةً من الـحياة لتحيا سعيدة بقلبٍ حُـر؛ لكنَّها تتحركُ بسرعةٍ، تُـحاولُ أنْ تـحصلَ عَلَى قَدْرٍ قليل من حقِّها، أزاحت البطَّانية مِن فوقِ جسمها وفردتـها فوقَ جسمِ ابنها الـمحروس النائم بـجوارها، وأبعدت مِـخدتـها الصغيرة من تـحت رأسها، واستندت على ذراعيها الـممتلئتين ونـهضت من فوق حصيرتـها البلاستيكيَّة الـخضراء.

 

كلُّ صباحٍ، يوقظها من نومها حـماسُها تـجاه ما قد تعثر عليه من رزق؛ لكنَّ اليوم أوقظها مبكرًا وجع ضرسها الشديد الَّذي لا يـجعلها تـهنأ بنومها أو تستمر فيه، لا تستطيع أم الـمحروس الشَّكوى من وجع ضرسها لأحدٍ، وخاصةً ابنها الـمحروس، تـحاول فقط أن تتناسى وجعه الَّذي صار يـُحمِّر وجهها ويورِّم خدَّها الأيـمن وينفخه، تتجاهل ألـمها؛ لأنَّـها ليس معها ثـمن كشف الـمستوصف الـخيري، فقط تـحاول الـهروب من وجعِ ضرسِها، تتألـمُ ولا تتأوَّه.

 

لـم تُغيِّر أم الـمحروس جلابيتها السُّوداء بَعدَ استيقاظِها، جلابيتها الَّتـي اضيقت على جسمها ولكنَّها لا تـمتلكُ جلابية أخرى.

ألقت فقط فوق كتفيها الـممتلئتين بطانية خفيفة صغيرة ووضعتها فوقها كشالٍ يُدفئها من بردِ الصَّباحِ ونسيمه البَارد، ثُـمَّ خرجت من باب عُشتها الـخشبيَّة الَّتـي تُشبه كوخًا قديـمًا، والَّتـي فصَّلها مِن أجلِها زوجُها الرَّاحل دسوقي، أقامها لـها كما وَعدها أمام حيِّ النَّرجسِ، وقدَّمها لـها عُشًّا يـجمعهما.

صنعها من بقايا أخشاب كانت تُستخدم فـي بناءِ إحدى البنايات الفاخرة بـحيِّ النَّرجسِ؛ حتَّـى يتزوجها فيها، ثُـمَّ رَحَلَ سريعًا.

 

خرجت أمُ الـمحروسِ مِن عُشتِها، بينما كان الظَّلامُ لا يزال يُغطي الشَّوارع، وحلَّت حَبلَ رَشـمة حِـمارتـها السَّوداء الـمربوطة بـجوارِ عُشتِها وسحبتها وأدخلتها بين عرقي عربتها الـخشبية، وصعدت فوق مقدمة العربة، وحرَّكت جسمها الـممتلئ يَـمنة ويَسرة لتستقر فوقها، لتتجه لوجهتها الَّتـي تعرفها جيدًا.

 

بدأت فـي ضرب حِـمارتـها السَّوداء على ظهرها بالـحبل لتتحرك بالعربة،لا تستطيع الـحِـمارة الـهزيلة تـجنب ضربات حبل أم الـمحروس الغليظ على ظهرها، ولا تـجد مهربًا منه إلَّا أنْ تتمالكَ وتُسرع بالعربة الـخشبيَّة لتتقي هذه الضربات.

قادتـها الـحِـمارةُ تـحت ظلام الفَجر الَّذي لا يزالُ يُغطِّـي الشوارعِ الـمُقابلة لـحيِّ النَّرجسِ، كانت تـجري بين سيارات العائدين من سهراتـهم، والَّذينَ يستغربون سيرها بعربتها الـخشبيَّة أمام حيِّهم، مروا حولها بسياراتـهم الـمُسرعة الَّتـي تُـخرج من نوافذها أصواتَ أغانٍ عالية.

بشجاعة وجَّهت أم الـمحروس حِـمارتـها وسط هذه السيَّارات السَّريعة الَّتـي تَـمُرُ بـجوارها كالطلقات، وتسابقت معها نَـحو رزقها فـي سِباقٍ غير متكافئ.

صبر أحد سائقي السيارات عليها؛ ليتركها تلُفّ مِلف الطريق رائفًا بـحالـها؛ فضربت حِـمارتـها بـحبلِها تُريدها أنْ تـجري كحصان بين هذه السيارات غير الـمُبالية بـها.

لا تأبه أمُ الـمحروسِ بسباقها مع هذه السيارات؛ فلديها سباق آخر أهم، إنَّـها تُسرعُ حتَّـى تلحقَ أكوامَ القُمامةِ قبلَ أنْ تصلَ إليها سيارة جـمع القمامة الآلية الَّتـي تـحملُ كلَّ مَا فـي الأكوام من خيرات.

 

بسرعةٍ وصلت قُرب الكوم الأوَّل الَّذي يُلقي فيه سُكان النَّرجس أكياسَ قماماتـهم؛ فسحبت حَبل حمارتـها للخلف فتوقفت الـحِمارة بِـجوار الرصيف الذي تتجمع فوقه القمامة وتوقفت عربتها.

اهتز جسمها البدين بأكمله عندما قفزت من عربتها الخشبية وجرت بـخطواتها الضيقة نـحو القمامة، اقتحمت رائحتَها النتنة وغرست كفَّها اليُمنـى فيها تُقلِّبُ الأكياسَ وتفتشها، رفعت الأكياسَ الـممتلئة عن آخرها ببقايا طعام فاسد وحفاضات أطفال، بينما أمسكت كفُّها اليُسرى شُوالًا قامت بتفصيله وتـخيطه حتَّـى تلمُ فيه كل ما تـجده من ورق أو كرتون فـي أكوام القمامة، قلَبت بسرعةٍ الأكياس وجـمَّعت أوراقها بـحركاتـها السريعة الـمُستمرة  متناسية تـمامًا وجع ضرسها الَّذي يهدأ حين تفكرُ فـي غيره.

 

سريعة هي رغم بدانتها، فقد سبقت السيارة الآلية الضخمة الَّتـي اقتربت من الرَّصيفِ وبدأت تسير بـجواره وهي تـجرف القُمامة من فوقه بلا صبرٍ، لكنَّ أمَ الـمحروسِ رأت تـحت القُمامة الَّتـي تـجرفها جَرَّافةُ القُمامة الآلية صندوقًا كرتونـيًّا كبيرًا متهالكًا كان يرقد تـحت الأكوام ولـم تُلاحظه، هذا الصندوق الكرتونـيّ كبير وثقيل وهو صيد ثـمين لأمِّ الـمحروسِ يُعادل مئات الأوارق الَّتي تـجمعها حين تزنُ مـحصولـها الورقيّ عند تاجر القُمامة، ولكنَّ الـجرَّافةَ الآلية اقتربت منه، وإنْ حاولت انتشاله ربَّـما دهستها هذه السيارة الَّتـي لا ترى.

 

جسمُها الـمُترهل اهتزَ بشدةٍ وهي تُسرع نـحو الصندوق الكرتونـيّ الكبير لتأخذه قبل أن تـجرفه السَّيارة الآلية الكبيرة؛ لكنَّ السَّيارة الضَّخمة رفعت جرافتها فوقَ الكومةِ الَّتـي حول الصندوق الكرتونـيّ وأنزلتها وهي تُصدِر صفارةً متكررة تُشبه التنبيه.

جامعةُ الوَرقِ لـم تـخف من تـحذير السَّيارة الَّتـي لا تصمت، فتحركت بـحركةٍ بـهلوانيَّة وأدخلت جسمها الـمربع بسرعة تـحتَ الـجرَّافة وأمسكت الصندوق الكرتونـيّ.

أوشكت الـجرَّافة أنْ تَنزلَ فوقها وتدهسها؛ لكنها دحرجت جسمها على الأرض هاربة من تـحتها بسرعة شديدة قبل أن تسحقها، وعادت لعربتها تـجرُ صندوقها الكرتونـيّ وراءها وهي منتشية بانتصارها على السيارة الآلية، وفمُها يَـحمَدُ ربَّـها على خروجها سالـمة من تـحت الـجرَّافة.

 

ركبت عربتها وقادت حِـمارتـها وسط السيارات وكأنَّـها بطل خرج من معركته بانتصار كبير يُفرِحُ القلب، أسرعت بـجوارِ الرَّصيفِ وهي تَـحصدُ مـحصولَـها الوَرقيّ قبل أنْ تصلَ إليه الـجرَّافة.

تقفُ بعربتها بـجوار أكوامِ القُمامةِ الـمُلقاة على الرصيفِ، وتفتشُ عن أوراقها الـمهمة، تنتشلُها مِن بين أكوامِ القُمامة وتقذفها داخل شُوالِـها الَّذي انتفخَ فوقَ عربتها بـما ملأته به من أوراق.

انتهى صباحُ عملِها، فتوجَّهت بعربتها لفهمي تاجر القُمامة، أوقفت حِـمارتـها أمام مَـخزن فهمي الـمُمتلئ بأكوامِ الأوراق الـمُجمَّعة والَّذي ترتفعُ فـيه رائحة القُمامة النتنة.

رائحةُ القُمامةِ فـي الـمَخزنِ هي رائحة العمل، أنزلت شُوالـها بصعوبةٍ، فوَزنَ فهمي مـَحصولـَها الصَّباحيّ مِن الأوراقِ، وأعطاها خـمسين جنيهًا كاملة؛ فأخرجت صُرةً قُماشيَّة مِن داخل صَدرها وأدخلت أجرها فيها، شكرت فهمي وهي تُعيدُ صرتـها داخل صدرها، وركبت عربتَها وعادت بـها وهي تُـمسك بزمام حِـمارتـها.

أصبحَ نورُ الصَّباحِ يُضيءُ الشَّوارعَ؛ فبدأت تزدحم بالسيارات، سحبت حبل رَشـمة حِـمارتـها أمام عربةِ الفول الَّتـي تقفُ كلّ صباحٍ أمام بوابةِ حيّ النَّرجس واشترت ككلِّ صباح كيس فول بثلاثة جنيهات، رغمَ بدانتها أم الـمحروسِ لا تأكلُ كثيرًا؛ فهي توفِّــرُ الـجزءَ الأكبر من طعامِها لابنِها الـمحروس.

 

وصلت لعُشتِها، أوقفت عربتها، ودخلت بسرعةٍ وأفرغت كيسَ الفولِ فـي طبقٍ وسخنت أربعة أرغفة وأعدت الفطور لابنها الـمحروس وأيقظته ليبدأ يومه، قام الـمحروس من نومه متأففًا، ثُـمَّ التهم ثلاثة أرباع طبق الفول بثلاثة أرغفة، وتأنَّــقَ داخل معطفٍ طويل، ونظرَ فـي جزءٍ مٍن مرآةٍ مكسورة مُعلَّق على أحد جدران عُشَّتهما الـخشبية وهو يُثبت تسريـحة شعره الـمُنتصبة مثل عرف ديك غاضب، واستعد للذِّهابِ لـجامعته، فأوقفته أمُّه على باب عشتهما وأخرجت صرتَـها القُماشيَّة من صدرِها، وأعطته أربعين جنيهًا؛ كي يشتري أوراق الـمواد الَّتـي يـحتاجُ إليها فـي كُلِّيته، وهي تقول له:

-  رجعت بسرعة..

عشان تلحق مـحاضرتك الأولـى.

فردَّ عليها وهو قاطب الـجبين.

 -  بتصحينـي بدري ليه؟

وبعدين مش ناوية تبطلي الشغلانة العِرة دي؟

خرجَ الـمحروس إلـى جامعته ليشتري أوراقه ويـحضر مـحاضراته، بينما عادت أمُّه لترقدَ على حصيرة عُشتها البلاستيكيَّة الخضراء لترتاحَ قليلًا؛ لكنَّ التَّفكيرَ لا يتركها تفلت منه؛ رُوحها تزدادُ حزنًا وهي تفكر ككلِّ يوم إن أصابـها مكروه مَن سيتولـى أمر الـمحروس ويعتنـي به حتَّـى يُنهي دراسته.

بضع لقيمات أنـهت بـها ما تبقى فـي جانب طبق الفول من الـمحروس، مضغتها على الـجانب الآخر من أسنانـها وهي تُـحاولُ أنْ تبتعدَ عن ضرسِها الـمتورم الـمؤلم وتتجنب الضغطَ عليه؛ لكنَّ فتاتَ طعامِها الـممضوغ داخل فمِها حُشرت بـجوار ضرسِها فصرخت صرخة صغيرة.

 

نزعت أمُ الـمحروسِ من حصيرتِـها فتلةً بلاستيكيَّةً مُدببة صغيرة جدًّا وفتحت فمها وحاولت أن تُسلكَ ما عَلقَ بضرسِها مِن بقايا فَطورها القليل؛ فصرخت من الوجع عندما لـمست الفتلةُ البلاستيكيَّةُ ضرسَها وأحـمَّر وجهُها ودمعت عيناها من الألـم الشديد الَّذي ينخرُ فـي فمها وصارت لا تستطيعُ لـمس وجهها.

 

هذه الـمرَّة لـم تستطع أمّ الـمحروسِ الـهروب، تركت سيلَ دموعِها ينهمرُ مِن عينيها فوقَ خدَّيها، وَسَـمحت لـجسمِها الثَّقيل أنْ يقعَ عَلَى حصيرةِعُشتِها مغشيًّا عليه من الوَجعِ.

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي

 
 

 
 
 

ترشيحاتنا