فى الصميم

ديون أمريكا.. وديون الفقراء!

جلال عارف
جلال عارف

كانت مفارقة لافتة.. أن يذهب الرئيس الأمريكى «بايدن» إلى اجتماع الدول السبع الصناعية الكبرى وهو يحمل معه هم السؤال الذى يطارد الادارة الأمريكية هذه الأيام عن احتمال التخلف عن سداد ديونها إذا لم تصل لاتفاق مع  الكونجرس على رفع سقف الديون قبل نهاية الشهر (!!)..

بايدن أعرب عن ثقته فى التوصل لاتفاق وان كان سيختصر جولته الأسيوية لاستكمال المفاوضات من أجل ذلك.. ولم يكن رئيس الأغنى يجد أى حرج فى تناول القضية.. فهو يعرف أن ديون شركائه فى مجموعة السبعة قد تضاعفت فى الآونة الأخيرة، ويدرك أن الديمقراطيين فى الكونجرس لن يتحملوا ـ فى نهاية الأمر مسئولية تخلف أمريكا عن السداد، وإن كانوا سيفرضون تخفيضاً فى النفقات الحكومية.

العالم يتابع باهتمام ما يحدث لأنه يؤثر على كل دول العالم، خاصة فى ظل أزمة عالمية ضاغطة، ومع إفلاس عدد من البنوك الأمريكية، لكن الكل يدرك أن اقتصاد أمريكا مازال هو الأقوي، ومازال قادراً على مواجهة التحديات، وأن حكاية رفع سقف الديون ليست جديدة، فقد حدثت عشرات المرات على يد الجمهوريين والديمقراطيين على السواء.. وأنها هذه المرة ستمر كالعادة بعد المناورات الحزبية المعتادة خاصة مع اقتراب الانتخابات.

ومع ذلك، فإن الضجة التى يثيرها احتمال تخلف أمريكا عن سداد ديونها مهما كان احتمالاً ضعيفاً، تكشف عن مفارقات عديدة فى ملف الديوان العالمية:
تكشف ـ أولا ـ عن أن أمريكا صاحبة أقوى اقتصاد هى المدين الأكبر للعالم الخارجى رقم يتجاوز العشرين تريليون دولار، ويأتى بعدها كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان..

وهو ما يعنى أن الفائض من ثروات العالم يذهب للدول الغنية، ويتردد فى الاستثمار فى الدول الفقيرة والمتوسطة، والنتيجة أن يزداد غنى الأغنياء وتزداد معاناة الفقراء..

وهو وضع لا يمكن الاستمرار فيه، خاصة مع أزمات متوالية مع وباء «كورونا» ثم مع أوضاع اقتصادية صعبة وزيادة هائلة فى أسعار الطاقة والغذاء، ومع حقيقة أن أثرياء العالم ضاعفوا ثرواتهم فى سنوات الأزمة، وأن ١٪ استحوذوا على ثلثى ثروات العالم، وأنهم كسبوا فى عامين فقط مع كورونا ٢٦ تريليون دولار تمثل ٦٣٪ من حجم الثروة التى انتجها العالم من عام ٢٠٢٠ إلى ٢٠٢٢، وضع ما شئت من علامات التعجب والاستفهام!!

المفارقة الأخرى يكشف عنها تقرير مهم نشرته مؤسسة «أوكسفام» العالمية مع انعقاد قمة الدول السبع فى «هيروشيما» والذى قال إن الدول الغنية مدينة للدول الفقيرة بنحو ١٣ تريليون دولار (!!) من تعهدات لم تف بها والتزامات لم تسددها على مدى عقود، حيث تعهدت الدول الغنية بتقديم ١٠٠ مليار دولار سنويا لمساعدة الدول الفقيرة على مواجهة تغير المناخ، كما تعهدت بتقديم ٠٫٧ فى المائة من الناتج الاقتصادى سنويا لمساعدة هذه الدول التى عانت كثيراً من سنوات الاستعمار ونهب الثروات.

ولم تف هذه الدول بتعهداتها والنتيجة حرمان الدول الفقيرة مما قدرته المنظمة العالمية بأكثر من ١٣ تريليون دولار كان من الممكن أن تحسن الأوضاع وتنقذ الملايين من الفقر والتخلف.

الأسوأ أيضا يكشفه تقرير آخر للمنظمة يكشف المعايير المزدوجة عند صندوق النقد الدولى !  ويرصد التقرير التحذير القوى من مسئولى الصندوق لدول أوروبا من الآثار السلبية لسياسات التقشف التى تتبعها لمواجهة الأزمة الاقتصادية الحالية..

بينما يتشدد هؤلاء المسئولون فى فرض برامج التقشف على الدول الفقيرة ـ دون اعتبار للآثار الاجتماعية والإنسانية لملايين البشر فى هذه الدول جراء هذه البرامج التى تبالغ فى التشدد مع الفقراء وفى تدليل أثرياء العالم!!

طبيعى أن ينزعج العالم من احتمال ضعيف بأن تتخلف أمريكا عن سداد ديونها بسبب المناكفات الحزبية وليس بسبب العجز البعيد حتى الآن عن أقوى اقتصاد فى العالم، لكن الطبيعى أيضا يكون الانزعاج أكبر بكثير حين لا تسدد  الدول الصناعية الأغنى ما التزمت به من مساعدات بلغت ١٣ تريليون دولار للدول الفقيرة والأشد فقراً..

وطبيعى أن يتحول الانزعاج إلى رعب حقيقى حين يكون على الدول الفقيرة أن تسدد كل صباح ٢٣٢ مليون دولار من ديونها لنفس الدول الغنية التى تخلفت عن سدادما تعهدت به من مساعدات أو من تعويضات عن سنوات الاستعمار والاستغلال ونهب الثروات!!

هل يمكن أن يستمر نظام عالمى يسمح بهذا القدر من المعايير المزدوجة التى تضاعف ثراء الأغنياء وشقاء الفقراء؟!.. أزمات العالم تقول إن هذا هو المستحيل.