مرفت الجسرى تكتب .. أقول لك إيه عن الشوق يا حبيبى؟

حجاب وزوجته مرفت الجسرى
حجاب وزوجته مرفت الجسرى

مساء الفل يا سيد.. مساء الورد والحب يا سيسو!
من غير مقدمات كتير لأن دى مش أول مرة أكتب لك ولا أول مرة أكلمك فيها.. ازيك النهارده؟ أنا كويسة الحمد لله.. إنما جرت فى النهر مياه كثيرة من آخر مرة اتكلمنا فيها مع بعض!
أنت تعلم جيداً أن شهر يناير.

الشهر الذى قررت فيه الرحيل أصبح صعباً علىَّ. صحيح أنى أقوم بالمحاولات ل«أغَلْوِش» على نفسى.. لا أريد أن أدخل فى جو الكآبة، أريد أن أذكرك دائماً وأنت مبتسم ومتفائل كعادتك حتى فى أصعب الظروف التى مررنا ومرت مصر بها. ولكنى أنجح فى بعض الأحيان وأخفق فى أحيان أكثر..حنعمل إيه؟ ماهو زى مانت قلت: 

وتستمر الحياه بين ابتسامة وآه.. فيها اللى تاه فى دجاه واللى ضميره هداه.. وكل ضيقة بعدها وسعة.. ودى الحقيقة بس منسيّة..  شهر يناير يبدأ بعيد ميلادى المعلن (2 يناير) والذى كنت تذكره تماماً وتعمل نفسك ناسيه، ثم تمازحنى قائلاً: «هو عيد ميلادك ده يوم إيه؟ 3؟ 4؟ هو بكره يوافق يوم إيه؟».


أنا رجعت أتدرب على الغنا زى ما كنت انت حابب وزى ما كنت دايما بتشجعنى إنى أعمل.. وزى ما انت كنت بتقول «يلعن أبو الفن اللى ما يْمَزِّجش صاحبه»، على غرار المثل الشعبى: «يلعن أبو القرش اللى ما يْنَزِّهش صاحبه». فما تقلقش أنا دايماً با عمل اللى باحبه ويسعدنى أولا...أقولك على حاجة كمان حتستغربها؟! جربت الحكى وحبيته..لأ وإيه؟!


باشتغل دلوقتى على نص جميل جداً من السيرة الهلالية.. قصة عزيزة ويونس برواية المنشد الصعيدى الرائع جابر أبو حسين. فاكر لما كنت بتحكى لى عن إنك لما دخلت عالم القراءة الواسع وانت صغير وعندك 7 سنين، ما اقتربتش أبداً من الشعر الخالص ودواوينه وكأنما كنت تتجنبه عمداً وتخشى منه.

ومع إن مكتبة والدك كانت عامرة بدواوين الشعر. إنما تسرَّب إليك الشعر عبر المدّاحين اللى كانوا بيمروا بالبلد بحكاياتهم المغناة عن سعد اليتيم وأيوب وناعسة وغيرها.. والمسحراتية اللى كنتوا تسهروا تسمعوهم ينشدوا فنون «القوما» و«الكان وكان».

وكمان المواويون اللى كانوا بييجوا على صهوات جيادهم لينشدوا فنون «الواو» / المربعات الصعيدية. وتعلمت الكثير من ابن بلدك «زكريا الحجاوى» واللى كان عاد وقتها من القاهرة حيث كان يعمل صحفياً ليشارك بأزجاله فى المحافل الانتخابية للمرشح السعدى «عباس عصفور».

وبقالى فترة بادور على الملحمة الشعبية «عزيزة ويونس» اللى كتبها زكريا الحجاوى، وده عشان أنا زى مانت عارف وكنت بتحكى عنى بفخر، إذا قررت دراسة موضوع ما فإنى لا أهدى ولا أستكين إلى أن «أجيب آخره»، وأدرسه من كل نواحيه.

وقرأت أيضاً لشوقى عبد الحكيم صديقك فى السيرة الهلالية. وانا بتدرب على الحكى، باذكر حكاياتك عن الشخصيات التى سحرتك فى طفولتك لأنها كانت حكاءة بارعة، وكأن كلامها يقطر شعراً وفناً. مثلاً الشيخ فانوس وكان اسمه الأصلى الشيخ هاشم.

 

 

 

 

 

وكان بائع سرِّيح سريع الغضب، وكان الأطفال يستغلون سرعة غضبه ليسمعوه يشتم ويستمتعون بشتائمه المبتكرة. من الواضح أنه كان شخصية استثنائية حيث اكتشفتَ بالصدفة بعد سنين أن هذا الشيخ فانوس/ هاشم كان يكتب يوميات بلدكم.. المطرية، الدقهلية، ويؤرخ للمواليد والوفيات والأحداث التى كانت تمر بها البلد!


وأيضاً الجارة شوق صديقة والدتك دولت، والتى كنت لا تمل من سماع أحاديثهما المشوِّقة عندما تأتى لزيارتكم والتى كانت تنسج حكاياتها ببراعة وتغزلها بالأمثال والنكت والتشويق. حتى ولو كانت تحكى عن أذن زوجها التى تورمت بعد تناوله لأكلة السمك: «حضّرت السمك والرز وأكلنا فى أمان الله، ودخل أبو محمود يقيِّل شوية.. شويتين ودخلت أصحِّيه عشان يشرب قهوة العصرية إلا وألاقيلِك ودنه دى بقت قد الشبارة ياختى» (مشيرة إلى كفها لتبيِّن حجم أذنه المتورمة).   


ولا أنسى كلامك عن الشيخ بيومى الذى كان يدور فى الشوارع صارخاً : «الله حى ..عرابى جاى»، ثم يغرق فى غمغمات وأذكار غامضة، والشناوى شبيه محمد على باشا عندما كان يصرخ من فوق صهوة جواده، أيام الملكية: «بكره تيجى جمهورية واللى يعوز حاجة ياخدها»، ثم يغرق بعدها فى خطبة طويلة يختلط فيها العقل والجنون.


وأذكر حكاياتك وأنا أتدرب على الحكى، وأبتسم ابتسامة لا يدرك معناها غيرى، لأن روحك التى سكنها عشق الفن والجمال والخير والحق تلازمنى دوماً، وأفكِّر كم كنت ولا أزال محظوظة للسنين التى قضيناها معاً فى عشق العشق والحب والجمال والشعر والأدب والفنون. 


ومنذ فترة تذكرت البورتريه الذى رسمه لى أحد الرسامين فى روما.. فى ﭘياتزا ناڤونا على ما أذكر، كنا معاً وأحببتُ أنا أن يرسمنا معاً ولكنك فضّلت أنه يرسمنى لوحدى وقلت لى إنه قد قام أكثر من فنان برسم بورتريه لك.

ولطالما أحببتَ أن يقوم أحد الأصدقاء الفنانين التشكيليين برسمى. وأذكر ضاحكةً أن الصديق العزيز الجميل الفنان الرائع آدم حنين عندما رآنى لأول مرة، شبّهنى بموديلات «بوتيتشيللى»، وأنت علّقت ممازحاً مشاغباً كعادتك : «بس موديلات بوتيتشيلى أطول شويتين». 


وكنت دائماً تطلب منى أنى أقوم بِبَروزة البورتريه وأعلقه فى بيتنا وتكاسلت لسببٍ ما. أخذت البورتريه وبروزته وعلقته فى «الطرقة» مواجهاً لبورتريهاتك. يومها جاءتنى مكالمة من الجميلة الفنانة التشكيلية ناهد شاكر تقول لى أنها كانت تعمل على لوحة، ثم كأنما حضرت أنت فى مخيِّلتها (وأنت تعلم معزّتك عندها، كما أعلم أنا معزّتها عندك هى وعمتها الرائعة والتى لا تعوض الفنانة شادية) وطلبت منها ترسم لى بورتريه.

وأنجزت ناهد البورتريه فى الليلة ذاتها وكان رائعاً. طبعاً لم أتمالك دموعى التى غسلت يومها وجهى وروحى، وهى تحكى لى، مع إنها نبهتنى قبلاً أنها ستبوح لى بشىء ما.. ولكنها ترجونى ألّا أتأثر. هوّنت عليها وأخبرتها أن هذه الدموع هى دموع فرح وليس حزن، وذلك لإحساسى بأنك ترسل لى رسالة من حيث أنت! 


أمى حبيبتى الله يرحمها اختارت شهر يناير أيضاً، 20 منه السنة الفائتة، لتتحرر من عذاباتها الدنيوية وتلحق بك. كنت قد ذهبت معها مرةً لزيارتِك فى مقرِّك الأخير. قالت لى يومها: «شغّلى سورة ياسين»، شغّلتها بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل الذى كنت تحبه.

الحقيقة كنت أحب أن أسمعِك أيضاً كل ما كنت تحب سماعه من موسيقى صوفية أتينا بها من استانبول والتى كنت تسمعها وأنت تتمايل مأخوذاً قبل دخولك المستشفى ببضعة أيام. أو ربما موسيقى الباروك وبالذات باخ، الذى كنت تحب سماعه فى الصباح.

ولموسيقى باخ تأثير مهم فى حياتك وذلك لأنك وصلت ليقين وأنت تستمع لإحدى سيمفونياته بعد فترة شك مررت بها، وكأنما كانت موسيقاه نور أضاء روحك، لتصل للحقيقة. وهذا ما يفعله الفن بنا: 
لو للحقيقة قامة.. هامة.. ايد.. قدم
لاقص فى البلاد أترها. 
قَبْلِن يتمحى.. ويتردم
لحد ما القاها.. واعفَّر الجبين
وادخل عليها أبكى
أبكى شوق.. ودم
ندم
على السنين
اللى انقضت وبينا بحر بين.
على العموم ظنّى أنك روح حرّة وأنا بالفعل أشعر بوجودك فى الأماكن التى أحببت ولا أزال، بيتنا مثلاً، أو عند البحر حبيبك. أذكر أن فى نفس وقت رحيلك حدث زلزال كان مقره جزيرة كريت فى اليونان، كان ظنى أنا وأختى وقتها أنك قابلت كازانتزاكيس الذى كنا ننوى زيارته فى مقره الأخير فى كريت ولم تسعفنا الظروف. 


ويا قلبى كله بأوانه.. وكل وقت وله آدانه.. الفجر له بلبل صدّاح والليل كمان له كروانه..  وانا لا بلبل ولا كروان.. أنا قلب عمرُه ما كان خوّان  داق العذاب أشكال والوان.. ولا ضاقش ليله بإخوانه
يا قلبى كله بأوانه..   وللكلام بقية يا بو السييد حبيبتك مرمر.

اقرأ ايضاً | «نواب ونائبات قادمات»: الاهتمام بالصناعة يجعل الدولة قوية‎

نقلا عن مجلة الادب :

202302012