كنوز| الوحش البشرى !

د. مصطفى محمود
د. مصطفى محمود

د. مصطفى محمود

اربطوا الأحزمة على المقاعد، هذه العبارة التى تظهر بالنور الأحمر فى كل طائرة كلما بدأت فى الهبوط أو الارتفاع منذرة بأن تغييرا خطيرا يقع، أشعر الآن بأن مثل هذه العبارة تظهر فى عربة الحضارة التى نركبها جميعا نحن الجنس البشرى فى هذا الزمان منذرة بالهبوط إلى مرحلة أسفل، أسمع هذا النذير، بأننا يجب أن نربط الأحزمة على المقاعد، ليس لأننا نرتفع، وإنما لأننا نهبط، ونهبط، ونتدهور.

تفجير القنابل الهيدروجينية تحت الأرض وتحت البحر، وإطلاق صواريخ مدارية تحمل الموت فى أحزمة حول الأرض، فى الشرق والغرب يخرج الوحش البشرى مخالبه ويلوح بأنيابه، لم يعد يستحى ولم يعد يخجل، لم يعد يلجأ إلى أسلوب الدبلوماسى المهذب الذى يتكلم باسم الحرية والديموقراطية وتحرير الشعوب من الاستغلال والاستعباد، لم يعد يرفع راية السلام ويردد الشعارات النظرية البراقة ويسوق المنطق الفلسفى المحكم، وإنما كشف النقاب فجأة عن حقيقته، فإذا بنا أمام دول كبرى تريد أن تسود، وقوى تتصارع على السلطة لا غير.

المعسكر الشيوعى خرج منه عملاقان يبادلان بعضهما العداوة أكثر مما يبادلان عدوهما المشترك الرأسمالية، مناقضين بذلك منطوق الشيوعية ذاتها وكأنه مجرد حبر على ورق، لم يعد التاريخ يحركه صراع الطبقات، فها هنا معسكران هائلان، وكلاهما يتصارعان، والرأسمالية بدورها بدأت تمارس علنا أبشع جريمة فى التاريخ، والصهيونية كشفت عن وجهها فى لبنان وفلسطين، والشيوعية فى أفغانستان، والأساطيل راحت تذرع البحار تستعرض عضلاتها، والطائرات انطلقت تزمجر فى الجو وتتنافس فى بث الرعب، والأقمار الصناعية راحت تتسابق فى التجسس، والصواريخ، كل صاروخ يقول للآخر «أنا أطول منك مدى»، القوة.. القوة.. القوة.. الحضارة المادية انتهت إلى تسخير العلم لصناعة القوة، لابتكار وسائل الموت، المجاعة ونقص التغذية والفاقة تفترس قارات، والملايين تُرصَد للسلاح، وفائض القمح يُلقَى فى البحر ليرتفع سعره.

لقد أفلست الحضارة المادية. وإن أعُلن إفلاسها، وأشعر بأن عربة الحضارة تهبط بنا إلى أسفل وأسفل وأسفل، وإن علينا أن نربط الأحزمة على المقاعد استعدادا للخطر الماحق، وعلينا أن نواجه أنفسنا بالحقيقة ونكف عن ترويج الأكاذيب ونكف عن التشدق بحريات لا وجود لها، فقد عادت عصور المرتزقة والانكشارية، وهناك ألوف يقبضون مرتباتهم لأنهم يقتلون تحت أى راية، والجاسوسية تحولت إلى فن «كيف تكون جاسوسا مزدوجا» تتجسس لأمتك وضدها وتعمل بذمتين ولحساب من يدفع أكثر، والمذاهب تحولت إلى ذرائع للسلطة وللاستهلاك الصحفى وتبرير تحكم الأقوياء فى الضعفاء، وظلم الأقوياء للضعفاء، واستبداد الأقوياء بالضعفاء؟ 

وهذا إعلان إفلاس حقيقى، لقد عجزت الفلسفة المادية أن تصنع إنسانا وإن كانت قد صنعت قنبلة، ونحن ماضون إلى سقوط محقق إن لم نبادر إلى تغيير دفة المركبة الحضارية كلها فى اتجاه آخر. هذه المرة ليس نحو فلسفة مادية..

ولكن نحو فلسفة تعترف للإنسان بروح وذات خلقها الله حرة جديرة بالخلود. 
العودة إلى فلسفة روحية تأخذ من العلم كل ما يعطيه وتضيف عليه من خصبها، ومن أين تخرج مثل هذه الفلسفة إلا من الشرق!! فهل يعود الإلهام فينبع مرة أخرى وهل تشرق شمس جديدة وهل يسود السلام والإسلام أم أننا نهبط إلى هوة النهاية؟.

من كتاب «الشيطان يحكم» 

اقرأ أيضاً |العرض قريباً.. فتحي عبد الوهاب «شيطان» في مسلسل «وعد إبليس»