واحدة من الأحداث الكبرى التى شكلت خارطة التجربة الحزبية فى مصر على مدار عقود

الكاتب والمفكر الدكتور خالد قنديل: كتاب «حادث 4 فبراير» قراءة جديدة للتاريخ| حوار

الكاتب والمفكر الدكتور خالد قنديل
الكاتب والمفكر الدكتور خالد قنديل

مرت أحداث تاريخية ووطنية عديدة على مصر شكلت وجدان العديد من الأجيال عبر التاريخ وكان حزب الوفد باعتباره أحد الأحزاب العريقة شاهدا على أكثرها، وواحدة من الوقائع التاريخية هى واقعة ٤ فبراير ١٩٤٢، عندما حاصرت الدبابات الإنجليزية قصر عابدين واقتحم السفير البريطاني سير مايلز لامبسون وقائد القوات البريطانية فى مصر الجنرال روبرت ستون مكتب الملك فى الدور الثانى من القصر، وقدما للملك مرسوما يقضى بتعيين مصطفى النحاس باشا رئيسا للوزراء، وخيراه بين ذلك وبين إقالته عن العرش.

وبعد توقيع الملك صاغرا، كانت مخاوف بريطانيا وقتها قد بلغت مداها عندما خرج طلبة جامعة القاهرة يهتفون «تقدم يا رومل»، وبعد فشل رئيس الوزراء حسين سرى فى السيطرة على المظاهرات قدم استقالته ورأى الإنجليز تعيين حكومة وفدية برئاسة النحاس باشا لامتلاكه الشعبية للسيطرة على الأمور، فلما تردد فاروق فى الاستجابة، تحرك السفير ومعه قائد القوات لمواجهة الملك وفرض إرادتهم بالقوة، وفى فبراير المقبل يكون قد مر واحدٌ وثمانون عامًا على وقوع هذا الحادث التاريخي باعتباره  من الحوادث الدامغة فى سجلات التاريخ، لما اكتنفه من مفارقات، وتعد على السيادة المصرية آنذاك.. وبهذه المناسبة يكشف كتاب (حادث 4 فبراير.. قراءة جديدة للتاريخ) لمؤلفه الدكتور خالد قنديل، تفاصيل وخبايا أخرى تحيط بهذا الحدث البارز فى تاريخ مصر الوطنى،  والذى يسلط فيه الكاتب الضوء على الكثير من الوقائع والتفاصيل الأبرز، وإلى نص الحوار.

إجلاء للحقائق ودليل إنصاف للأجيال فى الواقعة التاريخية

- فى البداية ما سبب اهتمامكم بهذه الواقعة التاريخية وتناولها فى كتاب يتناول أبعادها وظروفها؟
على الرغم من كل الأحداث المتعلقة بواقعة ٤ فبراير  وما يحيط بها فهى تعد واحدة من الأحداث الكبرى، التى شكلت خارطة التجربة الحزبية فى مصر، على مدار عقود، للدرجة التى لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم، رغم مرور أكثر من ثمانية عقود  عليها،  التى تؤكد كيف أن حزب الوفد ورجاله المخلصين ظلوا عنوانًا للوطنية ومحفزين للأجيال فى كل عمل وطنى، والكتاب يرد بالوقائع وبقراءة تلك الأحداث بصورة موضوعية ومنصفة بعيدا عن الافتراءات التي نالت الحزب من قبل البعض الذين يعمدون إلى تشويهه مستخدمين هذا الحدث للطعن فيه وبكتابات تفتقر إلى الحيادية والموضوعات ، ويكشف للأجيال الحقائق دون تزيين أو تزييف. 

- بالرجوع إلى تفاصيل هذه الواقعة التاريخية   والأحداث التى تم سردها بالكتاب  هل كان تمسك النحاس باشا عقب حادث 4 فبراير بأن تكون الحكومة وفدية خالصة، وليست حكومة ائتلافية هو القرار المناسب؟
الحقيقة أنه كان موقفا مبدئيًا وقديمًا، وليس جديدا، بعد تجربة مريرة مع حكومة ائتلافية، وقد وضعت مظاهرات الطلبة التى اندلعت فى تلك الفترة الملك فاروق فى حرج بالغ، وقد حدث أن طلب الملك من  رئيس وزرائه حينذاك حسين سرى، أن يسيطر على تلك الفوضى، لكن سرى فشل فى السيطرة على المظاهرات، ولم يكن أمامه من حل سوى أن يتقدم باستقالته، ورغم أن التصور العام لحل الأزمة، كان يسير نحو تشكيل حكومة ائتلافية بالفعل، إلا أن حقائق الأوضاع على الأرض، كانت تقول بأن الأفضل هو تعيين حكومه وفدية، برئاسة النحاس باشا، استنادا على شعبيته الجارفة، التى كانت قادرة وحدها فى السيطرة على الأمور، وهو ما صادف هوى كبير فى نفوس قيادات كبيرة فى القوات الإنجليزية، فهدوء الأوضاع في مصر التى كانت تغلى بالغضب فى تلك الفترة، من شأنه أن يمثل حماية كبيرة لظهورهم أثناء مواجهتهم لقوات رومل التي كانت تتقدم باتجاه مصر من ناحية الغرب.

وربما تكفي قراءة مدققة لمذكرات المندوب السامي البريطاني في تلك الفترة مايلز لامبسون، للإجابة على هذا السؤال من وجهة النظر البريطانية أيضا، إذ يقول فى مذكراته إن أمين عثمان الذى شغل موقع وزير المالية فى حكومة الوفد، سأله عن مقترحاته حول ما يتعين أن يفعله النحاس ردًا على طلب القصر تشكيل حكومة مؤقتة، فما كان من لامبسون إلا أن قال إن النحاس ينبغى أن يرفض أي فكرة يقدمها القصر عن الحكومة المؤقتة، لأنها لعبة من القصر حتى تمر العاصفة، وبعد ذلك تعود ألاعيب القصر مرة أخرى، وقال لامبسون إن النحاس باشا يجب أن يطالب بحكومة ائتلافية، حتى يدعم مركزه فى البلاد، وقد كان هذا هو رأى البريطانيين، وقد حمل هذا الرأى أمين عثمان إلى النحاس باشا، الذى أعلن رفضه لفكرة الحكومة المؤقتة والحكومة الائتلافية، مؤكدا للسفير أنه لن يشكل إلا وزارة وفدية لحمًا ودمًا، وهو نفس الموقف الذى أعلنه النحاس باشا صراحة أمام الملك، عندما طلب منه الأخير أن يؤلف حكومة ائتلافية، ولكن النحاس رفض وقدم أسبابا قوية لرفضه، وعرض على الملك أن يؤلف حكومة وفدية تتحمل وحدها المسئولية رغم خطورة الموقف.

- كان بإمكان النحاس باشا أن يستغل حاجة الإنجليز الشديدة لتشكيل حكومة لها ظهير شعبى، ، لكنه بدلا من ذلك سعى حسبما يرى البعض إلى مكسب شخصى أو حزبى كيف رد الكتاب على ذلك؟
هذا الأمر ليس صحيحا على الإطلاق، وربما تكفى وقائع الاجتماع الذى دار بين النحاس باشا والسفير البريطانى فى مصر، بعد تشكيل الحكومة الوفدية، للدلالة على موقف النحاس الوطنى، فالحقيقة أنه عندما قبل النحاس الحكم بأمر الملك يوم 4 فبراير 1942 ، وطلب منه أن يقابل السفير البريطانى، وتمت المقابلة، دار بين النحاس باشا والسفير حديث عنيف، انتهى إلى فرض النحاس شروطه على بريطانيا لمحو الإهانة التى حدثت، ومنها تعهد الانجليز بتمثيل مصر فى مؤتمر الصلح لتحقيق أمانيها الوطنية، وإقرارهم بأنه ليس لهم أن يتدخلوا فى شئون البلاد ، وإمدادهم لمصر بالقمح، فقد كان متوقعًا من السفير البريطاني أن يرفض تلك الشروط ، وأن يواجه النحاس بواسطة أمين عثمان، وذلك كان يتطلب من السفير البريطاني أن يعقد اجتماعا يضمه ويضم النحاس وأمين عثمان . وهو أمر لم يحدث ولا نجد سندًا له.

والحقيقة إن قبول النحاس تشكيل الوزارة فى ظل تلك الظروف الصعبة، كان فى حقيقته قرار حماية البلاد من الفوضى، وما فعله النحاس بقبوله تأليف الوزارة، يضاف إلى رصيد التضحيات التى قدمها لوطنه، لأن موافقته على تشكيل الوزارة، أنقذ البلاد والعرش والديمقراطية فى مصر بشكل عام.

ما جاء فى الكتاب وضع النحاس باشا أسيرا لمواقفه ومطالبه الشخصية والحزبية فى توقيت بالغ الحساسية، وكان يمكنه أن يفعل ما هو أفضل، لهذا فإن الكتاب رغم إزالته للكثير من الغبار عن -

اقرأ أيضًا | قنديل: التبرع لبهية و57357 دعم للإنسانية

- مواقف النحاس باشا وحزب الوفد، فإنه كان بدرجة عالية من الموضوعية التى أظهرت مواطن ضعف فى مواقف النحاس؟
وهل هناك أفضل من حماية كرامة مصر، لقد بدا الأمر شديد المهانة فى حادث 4 فبراير، وقد كانت تلك الإهانات قد ترتبت على تأخير تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة لمده ثلاث ساعات فقط، وقد عدَّدها الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته، وكيف اهتزت أعصاب الكثيرين لدى سماعهم بتحرك القوات البريطانية وإحاطتها بالقصر، وبلغ من بعضهم أنه لم يملك عبرته، فقد كانت الصدمة بالغة غاية العنف؛ إذ أصابت عرش مصر، وصاحب هذا العرش، وأصابت استقلال مصر وكرامة مصر وسيادة مصر، ولو أن إنجلترا كانت فى حالة حرب مع مصر، وكانت منتصرة عليها، لما قست فى معاملة شعبها وملكها بهذه القسوة، غير أن تلك الصدمة البالغة غاية العنف من جانب بريطانيا، توقعها زعماء الأقلية والسراى، ولكن كرامة واستقلال وسيادة مصر لم تكن تعنيهم، وإنما كل الذى يعنيهم ألا يتولى النحاس الحكم فحسب لتوافق شهوتهم ومصالحهم، فقد جاءت تلك الصدمة أو الإهانة الثانية التى وجهت لمصر، وتمثلت فى اقتحام السفير البريطانى لقصر عابدين، جاءت وليدة النتيجة التى توصل إليها الزعماء، فى الاجتماع الأول الذى عقده الملك مع الزعماء جميعًا يوم 4 فبراير 1942 بعد وصول الإنذار البريطانى للملك لمشاورتهم فى مواجهته، وقد دارت المناقشات بين الزعماء وأسفرت فى النهاية عن كتابة الاحتجاج، الذى وقعه الملك والزعماء جميعًا، بمن فيهم مصطفى النحاس، وكان نص الاحتجاج يقول: «إن المجتمعين يعتبرون الإنذار البريطانى مساسًا خطيرًا بالمعاهدة المصرية البريطانية، واعتداءً على استقلال البلد، ولهذا السبب وتنفيذًا لنصيحة الزعماء فإن جلالة الملك لا يمكن أن يوافق على عمل فيه مساس بالمعاهدة المصرية البريطانية واستقلال البلد.

- يتعرض الكتاب لاتصال قيادات وفدية بزوجة النحاس باشا السيدة زينب الوكيل  لإقناعه بلقاء الملك، فهل كان الرجل أسيرا إلى هذه الدرجة لسطوة زوجته كما تردد؟
وهل هناك ما يمنع أن يستشير الرجل أى رجل زوجته فى أى قرار، لقد كانت السيدة زينب الوكيل بمثابة المستشار الصادق الأمين لزوجها النحاس باشا، وقد عرفت برجاحة العقل وبعد النظر، ولو كانت بعض قيادات الوفد فى ذلك الوقت تعرف غير ذلك، لما أشركوها فى أى اتصالات سياسية، إن ترديد مثل هذا الكلام عن زعيم كبير بحجم النحاس باشا، يشبه إلى حد كبير ما تردد حول أدوار غير حقيقية لعبتها قرينات رؤساء سابقين فى مصر بعد ثورة يوليو، وجميعها تظل فى دائرة النميمة السياسية، على نحو ما فعله مكرم عبيد فى كتابه الأسود.

على ذكر الكتاب الأسود، لا يحمل الكتاب مكرم عبيد وحده التسبب فى الأزمة، بل من يقرأ يجد أن دور النحاس باشا كان الأكبر، فهو الذى عنّف مكرم عبيد باشا على تصريحات ليست مسيئة

- ومعتادة عقب لقائه بالملك فاروق، وكان بالإمكان التعامل معها بتفهم وحوار وليس بتلك الطريقة المهينة لمكرم عبيد؟
الحقيقة أن ألاعيب أحمد حسنين باشا، لعبت دورا كبيرا فى توسيع شقة الخلاف بين النحاس باشا ومكرم عبيد، وعملت على تهيئة الانفصال بين الصديقين الوفديين الحميمين، وقد استطاع مكرم أن يمارس نفوذه ويفرض شخصيته فى صفوف الوفد، بسبب قربه السابق من الزعيم سعد زغلول، وكان له أثر كبير فى اختيار مصطفى النحاس خليفة لسعد فى زعامة الوفد، ثم اختير هو سكرتيرا عاما للحزب، وبذلك توطدت الصداقة بينهما حتى أصبحا لا يكادان يفترقان، فقد بدأت علاقة الصداقة بينهما منذ انضمامهما الي الوفد، ثم زادت توطُّدًا أثناء نفيهما مع سعد فى جزائر سيشل، وقد أشار مكرم إلى تلك العلاقة فقال: «أنا كنت معه على صلات أكثر من الأخوّة».

ولطالما كان مكرم يردد فى خطبه كيف كان أخوه مصطفى النحاس يواسيه فى مرضه بالمنفى ويجلس معه فيديم مجالسته وتمريضه، وهكذا توطدت الصلات وازدادت تعمقًا على مر الأيام حتى أصبح مكرم - بشهادة كل المراجع والمصادر - محور نشاط الوفد والقوة الدافعة له فى الانتخابات وغيرها من مظاهر النشاط الشعبى، مستغلا تلك العلاقة الوطيدة برئيس الوفد حتى أصبح الرأى العام يعتقد أنه هو الذى يحرك النحاس، وذهبت الآراء فى تفسير ذلك مذاهب شتى ، فالبعض يُرجعه إلى أن مكرم كان ذا صلات بمجموعة من الساسة الإنجليز فى لندن بحكم أسفاره الكثيرة الى العاصمة البريطانية ودراسته فى أكسفورد وعلاقته المتينة برجال حزب العمال خاصة،  بينما يفسره البعض الآخر بأن النحاس كان بحكم طبيعته من النوع الذى لابد أن يسيطر عليه شخص ما، والواقع أن النحاس يعتبر مسئولاً إلى حد كبير عن اعتقاد جماهير الوفد وأعضائه والرأى العام فى سلطان مكرم عبيد ، وذلك لإيثاره له واصطحابه فى غدواته وجولاته وبما يسبغه عليه من الأوصاف وبالثقة المطلقة به.
لم يظهر الكتاب أى حرص كافٍ من جانب النحاس باشا لاحتواء الأزمة قبل استفحالها، بل أظهرته صانعا للأزمة، التى تفاقمت وتحولت إلى عداء دفع مكرم باشا إلى إصدار الكتاب الأسود،

- والذى أثار الكثير من الغبار، حتى لو كان البرلمان قد أدان مكرم باشا، وصوّت بالثقة على النحاس باشا وحكومته؟.
لقد كان النحاس فى تلك الفترة وحتى انتهاء أزمة الكتاب الأسود عام 1943 يعانى هو الآخر صراعا بين ذكريات ماضيه ورفيق كفاحه، وصديق الزمن وبين ما رآه منه من تعنت فى قضية الكتاب الأسود، وتصديقه لزوجته عندما أصر مكرم - مخطئًا - على إدراج اسم زينب الوكيل وأقاربها فى ملفات الكتاب، وقد كانت هناك إلى جانب ذلك عوامل أخرى هيأت وساعدت على إشعال نار هذا الخلاف، فيذكر فؤاد سراج الدين عاملًا كان - فى اعتقاده - مبعث الخلاف بين النحاس ومكرم ، وهو أن مصطفى النحاس فى هذه الوزارة (42/1944) استن سنة جديدة ليتلافى ما حدث فى وزارة 1936/1937 وخروج ماهر والنقراشى من الوفد بسبب ما كانا يعتقدانه من سيطرة مكرم باشا على النحاس باشا واستئثاره بكل النفوذ والحظوة لديه، ومن ثم ، فإن النحاس باشا فى وزارة 1942 - ومنذ البداية - عمل على إيجاد نوع من الموازنة بين أعضاء « الوفد الكبار» حتى لا يتوهم بعضهم - كما حدث سابقاً - أن مكرم يطغى عليهم أو أنه يستأثر بكل المكانة لدى رئيس الوفد، فتتولد الأحاسيس والانفعالات وينتهى الأمر إلى انشقاق جديد» وقد فوجئ مكرم بهذه الخطة ولكنه أخطأ فى تفسيرها ، فبدلا من أن يفهمها على وجهها الصحيح، أعتقد أنها تحول فى شعور النحاس نحوه أو فى مكانته هو عند النحاس، ولم يستطع مكرم وهو المعروف بعصبيته وعنفه كما يذكر فؤاد سراج الدين فى مذكراته، أن يتمالك أعصابه أو يسيطر عليها، فاستسلم لأوهامه ولأقوال السوء من بعض المتصلين به، يضخمون له الأمور ويستثيرونه ويفهمونه أن الأمر خطة مرسومة لزحزحته عن مكانه فى الوفد والهيئة الوفدية ، فاندفع مكرم حتى وقعت الواقعة.