من وراء النافذة

هالة العيسوى تكتب .. إيمان رجب

هالة العيسوى
هالة العيسوى

نادرًا ما أطرح أحزانى الخاصة على الملأ، إلا إذا كانت أحزانًا يشاركها معى الكثيرون. وأثق أن فجيعتى فى فقد إيمان رجب الصديقة المقاتلة، لا تقل عن فجيعة المئات ولا أبالغ إن قلت الآلاف ممن قسمهم غيابها، وقهرهم فقدها. جمعنا أولًا القاسم المهنى المشترك بالاهتمام بالشئون السياسية العالمية، كانت من المميزات فى مجلة «المصور» فى هذا المجال، وأنا هنا فى جريدة «الأخبار». ثم قبل ثلاثين سنة بالتمام والكمال  جمعتنا رحلة تدريبية طويلة إلى الولايات المتحدة امتدت ثلاثة أشهر، لمست خلالها الجانب الإنسانى فى شخصيتها، من رقة الطبع، وحسن الطوية، وطيبة القلب، وسمو الأخلاق، ورقى السلوك. هانم أصيلة فى بساطة مذهلة بلا خيلاء.

تغلب الجانب الإنسانى على الجانب المهنى فى إيمان، فضّلت التجارة عن المهنة، لكنها تجارة مع الله. كرست نفسها وجهدها للعمل التطوعى الخيري، وعملت بكل كد على تطوير دار رعاية الأيتام التى انخرطت فيها، حرصت على تحقيق المدينة الفاضلة فى هذا الكيان الصغير لكى تقدم للمجتمع شبابَا نافعًا للوطن فى كل المجالات. قدمت لهم تعليمًا لائقًا كلُ حسب قدراته، أيقظت مواهبهم ورعتها، ضمنت لهم مستقبلًا مريحاً بعد تخرجهم من الدار. حينما كان عدد نزلاء الدار ضئيلًا فتحت لكل طفل دفتر توفير، حصلت لكل طفل منهم على شقة من المحافظة، وحين يبلغ الثامنة عشرة من عمره يكون قد أصبح شابًا قادرًأ على العمل، مؤهلًا، ولديه رصيد يكفل له الاعتماد على نفسه، والبدء فى مشروع صغير، أو التوظف فى جهة تناسب مؤهلاته. بعضهم تزوج وأنجب، وأهدتها السماء أبناءً بررة من نزلاء الدار وأصبح لديها أحفاد. ليتآخوا مع ولديها شريف وياسمين. 

ذات يوم منذ عدة سنوات هاتفتنى إيمان، بضحكتها الرائقة قالت: عازماكى على مفاجأة، سأبهرك. ذهبت تسبقنى اللهفة على مفاجأة إيمان. فإذا بى أحضر بروفة لكورال أطفال الدار، وهو يغنى مضناك جفاه مرقده .. و بكاه و رحم عوّده، حيران القلب معذبه .. مقروح الجفن مسهده، يستهوى الورق تأوهه .. و يذيب الصخر تنهده، و يناجى النجم و يتعبه! أما المفاجأة الأكبر فكانت أن مدرب هذا الكورال هو المايسترو الكبير سليم سحاب.

تفننت إيمان فى تعظيم موارد الدار ذاتيًا، حتى لا تظل تحت رحمة التبرعات قلّت أو كثرت، ولا المعونة الضئيلة التى تقدمها وزارة التضامن. مرة مشغل، ومرة ورشة أثاث بسيط وإصلاح احتياجات المنازل، وأخيرًا افتتحت عيادة طبية بأسعار رمزية لسكان المنطقة.

لم يكن هناك سقف لطموحات إيمان، أرادت ونفذت توسعات فى مبانى الدار بعد أن ارتفع عدد نزلائه، تحكى بفرحة طفل عن كل خطوة صغيرة؛ النهاردة خلصنا إجراءات الدفاع المدني، أمس انتهينا من توصيلات المياه. 

كنت أشفق عليها من الجهد الخارق الذى تبذله، وقد داهمها المرض اللعين، إرفقى بنفسك ياإيمان، فيكون ردها: «الراحة موت». وكأنها كانت تسابق الزمن، وتتحدى المرض، وتخفف هى عنى مشاعر القلق عليها.

رحمك الله يا إيمان وجعل كل لحظة ألم كابدتها فى ميزان حسناتك، وألهم أسرتك وأحبائك، وأبناءك الذين لم تنجبيهم الصبر والسلوان.