بقلم د. علاء الجرايحي: مصر التاريخ.. وأهل الإفك

د. علاء الجرايحي
د. علاء الجرايحي

 

القلوب دائمًا ما تُحب الكلام الجميل والمعسول، وهناك من البشر مَنْ لديه نبرة حين تستمع إليها، تقتنع وتُؤمن بما يقولون دون أن يُساورك شكٌ فى صدق كلامه، والسؤال مَنْ الذى يسمع ذلك الكلام، أهو القلب حقًا أم الأذن؟! وأُجيبك يقينًا أنها الأذن، لكننا مع تناولنا للكثير من الموضوعات، والقصص والحكايات والروايات الواقعية وغيرها، نلحق خطأً دائمًا ذلك بالقلب، الذى يميل إلى مُتحدثيه دون تفكيرٍ، رغم أنها وجهة نظر خاطئة، لأن مصدر السمع معروفٌ بالفطرة لأى مخلوقٍ، فالإنسان وغيره من المخلوقات يسمع بأُذنيه وليس بقلبه، والأذن تسمع فقط لكن لا ترى أو تشعر، لذا فهى تُصدِّق معسول الكلام، وإذا أوقفنا اتصالها عن حواس البصر والعقل والقلب، ستجعلنا فريسةً لأى مُتحدِّثٍ لبق أن يُحدِّثنا بأكاذيب القول، وننصت له أيضًا وتصديقه، ومراحل العمر المختلفة تميل إلى القلوب وأحكامها، فالقلب يحكم بما يشعر حتى لو كان منافيًا للعقل أو يحكم بما يميل إليه، رغم اللامنطقية فى بعض الأحيان أو فى أغلب الأمور بمعنى أدق، لذلك فإن مَنْ يُحكِّم قلبه أحيانًا يصنع معجزات ويُهدر أيضًا الكثير من الفرص، لأنه يبنى قراراته على احتمالات غير مُؤكَّدة.

القلب له لغة لا يعرفها الكثيرون وربما يعلمونها ولا يُجيدون استعمالها، فدائمًا ما يُخاطب القلب ويُنذر أصحابه، وما يجعلنا لا نفهم لغته هو التعتيم الدائم والتجاهل المستمر لتحذيراته واحتمالاته، وربطه على الدوام بالعاطفة فقط، وتعمُّد تعطيله فى معظم الأحيان، رغم أن القلبَ جهازٌ حيوىٌّ مهم للإنسان كباقى أجهزته الحسية والمعنوية، إن أردته أن يعمل بكامل طاقته، فقم بشتغيله وإعماله على الفور، استمع إليه بتمعُّنٍ، تناوب معه النقاش، اسأله وانتظر إجابته، وتأكَّد أنه سيُعطيك كل ما تحتاجه من نتائج دقيقة ومطلوبة لمُسايرة ما يُؤرِّقك بالحياة، وسوف يكون سندًا لك فى كل شىءٍ استدعيته فيه، وعظمة بناء الإنسان لا تُوصف، فهو يملك كل شىءٍ بداخله، جهاز إرسال، وآخر استقبال، وثالث استشعار، ثم حركة وقوة وحياة، وغيرها من أدوات إعانته على العيش فى سلامٍ.

الكنز هو ذلك الشىء الغريب فى هذا العالم، والكنوز دائمًا تختلف من وقتٍ إلى وقتٍ، ومن زمنٍ إلى آخر، فمثلًا الأهرامات والمعابد والتماثيل المصرية القديمة كانت فى عصرها بنايات شاهقة  عظيمة للملوك، وشيئًا يرمز إلى عبقرية الفنان المصرى وبراعته فى البناء والتشييد، حتى جاءت شعوبٌ عديدة، ومرَّت أزمنة كثيرة، وما زالت هذه الأعمال محتفظةً بشكلها وجوهرها، حتى أصبحت كنزًا لهذا الزمان ونالت إعجاب العالم أجمع بعراقة الحضارات القديمة، ورأى العالم التكنولوجى أن الحضارة المصرية فى وقتٍ من الأوقات كانت لشعبٍ مُتقدِّم جدًا، يُتقن فنون العمارة والهندسة، وكذلك التحنيط والطب، فلقد وجدنا فى مومياوات قديمه آثارًا لعلاج الأسنان، وإجراء العمليات الجراحية، وأيضًا أشياءً عجز العلم عن فهمها إلى اليوم، كما كانت تُوجد مركبات ووسائل للترفيه ذات جودة عالية، والسؤال هنا ما الذى حدث بعد هذا التقدُّم العظيم وجعلنا نتأخَّر لقرون؟

الاحتلال حاول كثيرًا اكتشاف معالم الحضارة المصرية القديمة وكنوزها، ومن ثمَّ إبادتها ودفنها بأسرارها، كما قام بالتعتيم على كنوزنا وهُويتنا، لتُصبح مصر بلدًا كغيره من الدول، حيث سرقوا الفكر والبرديات؛ لكى نتأخَّر عن الركب، بينما يتقدَّمون هم علميًا، ويجعلونا نثق بأن لهم اليد العليا فى التقدُّم والتحضُّر والازدهار.. لقد قامت حضارات الغرب على سرقة تراثنا وآثارنا وعلومنا والتعلُّم منها، أما نحن المصريين، فنملك حضارات وأعمالًا ممتدة لآلاف السنين، لذلك فإن الأيادى الخبيثة دائمًا ما تُحاول التدخُّل فى أمورنا وشئوننا؛ لعلمهم اليقينى بأن هذا الشعب إذا أخذ المساحة الكافية، سيبتكر ويُبدع ويتقدَّم ويصنع المعجزات التى ستُظهر قوته وسيادته الحقيقية، إننا نحن المصريين نتقدَّم على طول الزمن بالعمل والعلم والإيمان، ولسنا بارعين فى الخديعة والمكر والسرقة، نتعامل بشرفٍ فى زمنٍ أصبح فيه الشرف سذاجة، لكننا نعلم جيدًا أنه من شِيم الرجال، وهذا ما علَّمناه للعالم أجمع ونجده الآن موجودًا فى صعيد مصر وأريافها بقوةٍ؛ لاحتفاظ هذه البقاع بجزءٍ كبير من أصالة الشعب المصرى الحقيقى.

الذى حدث للمصريين من تغييرٍ فى العادات والتقاليد والمبادئ كان شكلًا من أشكال الاستعمار، حيث أُثيرت فى أراضيهم الفتن والاختلاقات، ونمت الاختلافات، فحدثت الشروخ بينهم، كما فعلوها بين الدول وبعضها البعض، وكلما اتسعت فجوة الاختلاف والخلاف كلما كان التقدُّم صعبًا ولا يمكن بحالٍ أن يحدث إلا إذ كانت الدولة قوية، ونظامها قوىٌّ، يقدم على تنفيذ خطوات التقدُّم بكل شجاعةٍ وإقدامٍ دون النظر إلى آراء المنتقدين أو اختلافات المتمذهبين الهادمة التى ليس لها علاقة بالخبرة أو المهنية، ولكن كل ما تملكه هو الثرثرة التى تُعيق عجلة التقدُّم، فيا صديقى ويا أخى المصرى ويا أختى المصرية، انظروا إلى حالكم، لقد شيَّدنا مصانع ومهدنا طرقًا وخلقنا محاور وكبارى فى أقصر زمن، رغم الأزمات العالمية، وأصلحنا منظومةً مُتكاملة أتلفها الزمان، كالرقابة والموانئ وقناة السويس والقطارات، وأنشأنا محطات الكهرباء والرياح، وأحرزنا تقدمًا فى الزراعة بعد أن تركها الجميع، وأقمنا مستشفيات نُعالج فيها مرضانا فى أسرع وقتٍ، ومدنًا لمحدودى الدخل لحمايتهم من الأخطار بديلًا لمناطقهم المنسية لعصور طويلة، وطورنا التعليم حتى نكون شعبًا ذا وعىٍّ له إرادة مبنية على فكرٍ، وصنعنا شراكات دولية طويلة الأمد حتى تتحسَّن معيشة المواطن البسيط، أفلا ترون ما يحدث فى مصر؟!

إنها مصر بلدكم، بلد صرخ من كثرة التأخُّر بعدما كان أصل الحضارة، بلد صرخ فى أولاده ليفيقوا ويعملوا؛ ليُصلحوه ويُتوجوه بما يستحقه من مكانةٍ وريادة، فهذا البلد خرج من طينه كثيرون ممن استفاد العالم منهم، بينما بخلوا هم عليه، أما آن الوقت أن نعمل بجدٍ لكى نُعيد لحضارتنا مجدها وأصالتها، أما آن الوقت حتى يعلم العالم كله الشرقى والآسيوى والأوروبى أن مصر بلد عمل وعلم وبناء، ونترك الثرثرة لأصحابها، فنحن رجال المستقبل، ونحن أهل الدين، ونملك الأزهر الشريف والكنيسة القبطية، وأهل السياسة، والقيادات الوطنية، الذين هم من طين هذا البلد، ونملك فنًا وثقافةً وتاريخًا، وسنُجدد أمجاد حضارتنا معًا.. تحيا مصر ويحيا شعب مصر، أبناء العزة والكرامة والوفاء، ولعن الله أصحاب الوعود الزائفة المُحبين للثرثرة، وجعل ثرثرتهم تنقلب عليهم وتنقلب على مَنْ دبَّر معهم وعلَّمهم أساليب المكر والدهاء والكذب فى كل الأحاديث، حفظك الله يا مصر وحفظ أولادك.