كنوز| أجمل التاريخ كان غدًا!

 محمود عوض
محمود عوض

بقلم: محمود عوض

حبيبتى.. لست أعرف من أين أبدأ كلماتى.. لست أعرف حتى إلى أين أرسلها.. فالأمر يختلف كثيرا حينما يرسل الإنسان خطابا إلى عنوان مشكوك فيه، فليكن هذا خطابا إذن، و، فليكن مجرد تنهيدة.

حبيبتى.. فى العين دموع كثيرة، أوشكت أن تنساب فجأة، أولا إن مسحتها من عينى همسة رقيقة، كنست فى طريقها كل المسافات بيننا، وتلال القسوة فى قلوبنا، قسوة جعلتنا نحن أبناءك مجرد أسماء وأرقام لا معنى لها، وجعلتك أنت حبنا مجرد سفينة غارقة يتساقط منها الفارون خوفا من قدوم الخريف.

ولكن الجو الآن ربيع، ليس ربيع سعاد حسنى الذى يجعل الجو بديعا، ولا هو ربيع عباس العقاد الذى يستخرج المشاعر من داخل عقل إليكترونى، إن الجو ربيع، بغير أن يعنى هذا أن نفوسنا سوف تصفو فجأة بقرار من القدر، ولا أننا سنعيش حياتنا فى انتظار دائم لخريف سوف يعود حتما.

إن الخريف يا حبيبتى لن يعود إلا إذا سمحنا نحن له بذلك، والسفينة لن تكون غارقة إلا إذا قصرنا نحن فى سد ثقوبها، ليس حتما إذن أن نسير بعيون عمياء، وقلوب مغلقة، لقد تعلمنا منك دائما أن مرارة الماضى يجب أن تفسح الطريق لصرخات المستقبل، وتعلمنا أن فى الحياة دائما مجالا لكى نولد من جديد، وتعلمنا أن القدرة على الحب معناها بالضرورة القدرة على التضحية. ونحن لم نتعب يا حبيبتى من التضحية.

إننا لم نتعب لأن حبنا لك أصبح شيئا يسرى فى الدماء، فى شرايننا، ولأننا نرى بأعينا قطيع الذئاب المتنمر لك والمحيط بك فى كل اتجاه، ماذا يريدون منا؟ النوم؟ الانكسار؟ الفرار فى أول قارب نجاة؟ الموت؟ ثم، ماذا يريدون منك؟ الضياع؟ الرضا بالاغتصاب؟ الاعتذار؟ الغرق؟

لا يا حبيبتى.. لن يكون مصيرك أبدا هو الغرق، لقد زرعت فينا الإرادة، والتحمل، والتمرد، وزرعت فينا الحصانة ضد الرصاص الطائش، والمناعة ضد الاستسلام للموجات المتتابعة.

حبيبتى.. كانت القطيعة بيننا فيها من المرارة ما جعلنى عاجزا عن التعامل مع الحياة، فيها من القسوة ما جعل الألوان كلها تنتهى بالسواد، فيها من الرفض ما جعلنى فجأة فاقد النطق . لقد عبرنا الحياة معا، وكل منا يسير فى نفق طويل منفصل، سمعنا طوال الرحلة أصواتا تنذر بالخطر، وتنبؤات تؤكد الموت، ومع ذلك اكتشفنا بعد رحلة العذاب، أن الأمل كان هو الوقود فى داخلنا الذى جعلنا نسير فى النفق المظلم الى آخره.

كانت لحظات كالزلزال، كالبركان، كغريق تم انتشاله، إننى لن أنسى أبدا لقاء العيون وهى تتساءل فى دهشة وصمت، لقد عرفتك فورا، ولكنك لم تعرفينى حتى الآن لم تعرفينى، ولكن هذا لا يهم، فلست وحدى الذى يحتكر حبك، إنهم ملايين، الملايين الذين يريدون أن يحتضنوك ويقبلوك ويمسحوا الدمعة الصامته من عينيك، الملايين.. الذين أقسموا أن يفتدوا ترابك بدمائهم، فمن موتهم، تبدأ حياتك.

حبيبتى.. لسنا نحن الذين يقولون «ضاع العمر.. يا بلدى»، لسنا نحن هؤلاء، لأن العمر لك، والحب منك، والتاريخ أنت، وأجمل التاريخ كان غداً.
« أخبار اليوم» 22 إبريل 1978 

 

 
 
 

احمد جلال

محمد البهنساوي