د. فتحية سيد الفرارجى تكتب: رحلة آنى إرنو نحو العالمية

آنى إرنو
آنى إرنو

عرفت أنها واحدة من مؤسسى علم السير الذاتية المجتمعى المعاصر ككاتبة نسائية متخصصة تركز فى كتاباتها على علامات ودلالات الوسط الاجتماعى.

عُرفت روايات إرنو بتمركزها، إلى حدّ بعيد، حول تجاربها الخاصّة والحميمية، حيث لا تغادر أعمالُها مواضيعَ مثل الأزمات العائلية، والإحساس بالعار تجاه الطبقة التى تنتمى إليها.

حينما يشهد الإبداع الأدبى والأديب مكانته العالمية ويتخطى الحدود الجغرافية والزمانية، ويظل خالدا فى تاريخ البشرية، ساعيا فى البحث عن أصالته وما يعبر عن مكنونات ذاته دونما السعى لتقليد الآخرين ببصمته التى لا تتكرر وتميزه عن باقى المجتمعات، هنا يعيش الأدب فى المجمعات بقلبه النابض. والأدب الفرنسى يحتل المركز الأول فى حصاد جائزة نوبل فى الأدب منذ عام 1901 حتى اليوم. فقد حصل عليها كل من: سولى برودوم، فريديريك ميسترال، رومان رولان، أناتول فرانس، روﭼيه مارتن دو جار، فرانسوا مورياك، ألبير كامو، سان جون بيرس،كلود سيمون جاو شينججيان (كاتب صينى حصل على الجنسية الفرنسية قبل ثلاث سنوات منذ حصوله على جائزة نوبل)، جان مارى جوستاف لو كليزيو ​​وباتريك موديانو. وهناك بعض الكتاب رفضوا جائزة نوبل أمثال سارتر وصامويل بيكت، ولأسباب صحية لم يحضر حفل الحصول على الجائزة أندريه جيد وهنرى برجسون.

ولكن تعد آنى إرنو أول كاتبة فرنسية تحصل على تلك الجائزة ومن بين الكتاب الفرنسيين تحتل المكانة السادسة عشرة من بعد ثمانى سنوات من حصول الكاتب الفرنسى باتريك موديانو على الجائزة والمرأة السابعة عشر من بين النساء التى تحصل على جائزة نوبل للأدب.


وفى تقليد أصيل لابد وأن يقدم كل من يحصل على جائزة نوبل، خطبة يتحدث فيها عن أعماله ومسيرته الأدبية. وتعد الخطابات التى يلقيها الكتاب الحاصلون على جائزة نوبل فى تلك الاحتفالية العالمية فى الأكاديمية السويسرية إرثا ثقافيا دوليا يلخص الفترات والخبرات والأحلام من مختلف الأجيال والجنسيات.

ومن بين التساؤلات التى يمكن أن تدور فى تحليل خطابات الحاصلين على نوبل: كيف تتشكل صورة كل كاتب بين النظرة السابقة واللاحقة؟ هل تنتمى خطابات الأدباء الحاصلين على نوبل إلى أدب الأفكار؟ ما خصائص هذه الخطابات الأدبية؟ إلى أى أسلوب تنتمى هذه الخطابات الوصفية؟ كيف يساهم الاستشهاد فى عملية إثراء الخطابات الموجهة لجمهور متنوع فى العالم كله؟ 


ويحلل دومينيك مانجونو الخطاب على مستوى الأطر ونوع الخطاب. والخطب تعتمد على الحجج لأنها تحاول الإقناع مستندة على أمثلة. وكذلك من الدلائل اللغوية استخدام المصدر لتثبيت موقف المحادثة دون الاعتماد على علامات الزمن أو على الضمائر الشخصية.

وأما عن جانب الجماليات فتتضح بلاغتها على سبيل المثال فى المقارنة والاستعارة. كما يعتمد تحليل الخطاب على قوانين القدرة اللغوية والبلاغية التى تنقسم إلى فئتين: قوانين عامة تشتمل على المشاركة والإخلاص وقوانين أخرى أكثر تخصصا: كالإعلامية والشمولية وتحليل السلوكيات الاجتماعيه تعتمد على النظرية الشهيرة للمواجهات.


وأما جوليا كريستفا فترى أن الاستشهاد يعد التقاء مقاطع من الكتابة وبإعادة تركيبها تكون نصا جديدا. وتعتبر ناتلى بياجيه الاستشهاد قطع من الفسيفساء. يمكن إدخالها بشكل ظاهر أو بشكل ضمني. 


وتلك الخطابات الكثيفة المعقدة التى يثريها الاستشهاد لها مستويات تلقٍ شفوى وتحريرى فى ذات الوقت وتتضمن تلك الخطابات بالأساس الحديث عن الكتابة وعن الشخصيات والكُتاب الذين أثروا حياة الكتاب وعن اللمحات السياسية.

ويؤكد الكاتب موديانو على هيمنة الكتابة أكثر من الجانب الشفهى لدى الروائي.  ويستدعى المتحدث الجمهور المشاهد- المستمع إلى التفكير فى الوضع الإنساني، كما يعتمد على الاستفهام.

وأما عن جانب الجماليات فتتضح بلاغتها على سبيل المثال فى المقارنة والاستعارة. فمثلا نجيب محفوظ يقارن المفكرين الذين يجب أن يطهروا البشرية من التلوث الأخلاقي. أما خطبة كلود سيمون تعبر عن وجهة نظرة بمقارنة العلماء بالأطفال الذين يحبون أن يكسبوا ويكافأوا.


وتتجلى الجماليات فى العالمية من الذهاب والإياب المستمر منه وإلى الآخرين. وتصير الكتابة شرف ومهنة نبيلة للكاتب الشغوف بالعدالة. وخطب الكتاب الحاصلين على نوبل تعد فى المقام الأول ترجمة لاهتمامات كل جيل وأهم قضاياه، كل فى مجتمعه. كما يوضح القلق من المستقبل ودور الاستشهاد الذى يبرز وضع المؤلف وعلاقته بالسابقين واللاحقين.


ومع الوقت ومع القرن الحادى والعشرين تتسع فكرة التناقض. ويعتبر الكاتب الفرنسى لوكلزيو أن الأدب أكثر أهمية عن ذى قبل ووسيلة للمقاومة والحماية ويركز على فكرة التناقض وعلى أهمية الكتاب الذى لا يجب أن يكون أداة مثالية عملية واقتصادية ولا يتأتى ذلك إلا بدور دار النشر.


وتحليل السلوكيات الاجتماعيه عند مانجنو يعتمد على النظرية الشهيرة للمواجهات: فى الحياة الاجتماعية كل يبحث عن الدفاع عن أرضه (تسمى واجهة سلبية) وتعريف الآخر وتقدير الآخر للصورة الشخصية (واجهة إيجابية). فالروائى يعد ساحرًا وصاحب رؤى وبتأثير الأشعة فوق الحمراء لخياله يجسد لنا عصره وزمانه. 


وعلاوة على هذا النسيج الحالى يبرز الروائى بيرس دور الخيال الشعرى الذى يعود للإنسان البدائي ويظل السؤال الذى يلاحق معظم الحاصلين على نوبل: ما دور الأدب مع الغزو الثقافى ؟

ويثير ألبير كامو أصغر كاتب حاصل على نوبل السؤال حول الشهرة. أما عن مورياك فهو يعرف ويبرر كتابته السوداء فأمام يأس الإنسان المختنق بعبثية العالم يستسلم لكل ما هو لا إنساني.

وبما إن ايدجر بو كان يحب التجول فى المدينة فى وضح النهار فى العاشرة وأثناء الليل وقت مراهقته، ومثل روائى القرن التاسع عشر هذا الكاتب الذى ولد مع الحرب العالمية الثانية تلاحقه صور المدينة الكبيرة والمدن المحطمة.


ولكن كيف ساهم الاستشهاد فى إثراء الخطب الموجهة لجمهور فى العالم أجمع؟ ترى لجوليا كريستفا أن التقاء مقاطع من الكتابة والاستشهاد وبإعادة تركيبها تكون نصا جديدا. وتعتبر ناتلى بياجيه الاستشهاد قطعا من الفسيفساء. تلك الفسيفساء وعلاقات الاستشهاد وترجمته تعتمد على عناصر أساسية: تقطيعها وتجميعها والمعنى الذى يضفيه دخولها فى المضمون.

ويمكن إدخالها بشكل ظاهر أو بشكل ضمني. وهناك بعض الدلائل الشكلية الظاهرة التى تعبر عن الاستشهاد كالكتابة المائلة والأقواس. ويستعمل بعض الكُتاب الخط الثقيل.


والاستشهاد يميز الشخصية بتحديد نفسيتها وما يلاحقها ومهاراتها الثقافية. ومن خطب الكتاب يتضح أهم الشخصيات التى تركت أثراً فى حياتهم واصطحبتهم فى أعمالهم. ويذكر أهم الكتاب الذين تركوا أثرًا عالميا. كما يحددون أثر الحكايات فى الطفولة ومن كان يحكى لهم كجدة لوكلزيو. ومشاريعهم بعد الحصول على جوائزهم.


وعلاوة على الروابط الشخصية والإنسانية تلعب الروابط الزمنية والمكانية دورًا كبيرًا. ويقارن ماديونو بين بطء الوقت لكبار الكتاب فى القرن التاسع عشر وكيف أبدعوا وكتبوا أعمال رومانسية ضخمة والإيقاع السريع للعصور التالية وميلاد أعمال غير متصلة ومقطعة.


وبالنسبة لبعض الحاصلين على الجوائز كانت الروابط والعلاقات المكانية بين داخل فرنسا وخارجها لها أثر عميق. فقد ارتبط فرانسوا مورياك بالأقاليم فى الإجازة المدرسية وماديونو بالعاصمة الفرنسية تلك المدينة الصامتة التى تحمل رائحة الماضى ويتساءل عن مستقبل المدن والغابة عند لوكلزيو.

ووفقًا لو كليزيو​​، فإن الأدب هو وسيلة لتأكيد هوية المجتمعات التى انتهى استعمارها. لهذا السبب، يصر على الدور الدائم للكتاب الأداة المثالية، العملية، القابلة للإدارة، الاقتصادية.

ولتحقيق هذه الرغبة أكد على دور الناشرين لأن الكتاب يجب ألا يكون رفاهية لا يمكن الوصول إليها. يقترح مشروع النشر المشترك مع البلدان النامية، وإنشاء صناديق لإعارة المكتبات أو متنقلات الكتب.


ويتساءل لو كليزيو ​​فى خطابه عن الهدف من الكتابة: إذا كتبنا، فهذا يعنى أننا لا نتصرف. أن نشعر بصعوبة فى مواجهة الواقع، وأننا نختار طريقة أخرى للتفاعل، وطريقة أخرى للتواصل، ومسافة، ووقت للتفكير . ويرى موديانو أن الروائى غالبًا ما يكون عرافًا وصاحب رؤية وراصد زلازل. بفعل قوة الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية لخياله، يجسد هواء عصره. 


ويرى البعض أن القرن الحادى والعشرين يشهد تناقضا بين السابقين واللاحقين، بين العودة للوراء والتقدم نحو المستقبل، بين أهمية الإبداع الأدبى للأثرياء والأغنياء، بين المناظر الساكنة الداخلية والمناظر الديناميكية للمناظر الخارجية. تلك الخطابات الكثيفة المعقدة التى يثريها الاستشهاد لها مستويات تلقى شفوى وتحريرى فى ذات الوقت.

وقد صرحت الكاتبة الفرنسية  آنى إرنو   فى لقائها على التليفزيون السويدى قائله: إنه لشرف كبير لى أن أمنح هذه الجائزة وأيضا مسئولية عظيمة أشعر بها بمنحى هذ الجائزة.

ومن جانبه قام الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون على حسابه على تويتر بتحية منح الكاتبة للجائزة واصفا إياها بالصوت الحر للمرأة.


ولكن لإعداد خطبتها التى تقدمها للعالم أجمع، بمن تأثرت الكاتبه ممن سبقوها وحصلوا على تلك الجائزة ؟ صرحت بأنها تأثرت بحوار ألبير كامو والذى يعود لعام 1957.حينما تحدث فى خطابه فيها عن جذوره وعن معلمه الأول.


ولكن عما تحدثت هى؟
وتحدثت عن تأثير أسرتها وعن تعليمها وتدريس كتبها بالمدارس. وعن نيتها فى  مواصلة محاربة الظلم بجميع أشكاله، وأكدت أن الجائزة منحتها  مسؤولية والكتابة بالنسبة لها فرصة وليست نوع من الشجاعة وتعد نوعا من الانتقام والتمرد حول أصلها ومنشأتها والمشاكل التى واجهتها منذ صغرها.


وقال عنها النقاد إنها المرأة التى أوحت بالتنقل بين الطبقات للمجتمع. والتى عرفت أنها واحدة من مؤسسى علم السير ذاتية المجتمعى المعاصر ككاتبة نسائية متخصصة تركز فى كتاباتها على علامات ودلالات الوسط الاجتماعي.

وظهرت معها أشكال جديدة من السيرة –الذاتية- الإجتماعبة. ومهدت إلى وجود تنوع كتابة السير ذاتية الشخصية وللشخصيات الأخرى ومحاولة إعادة التساؤل حول العلاقة بين السيطرة والمسيطر وإعادة انتاج الطبقات هل سيؤدى إلى جيل جديد ؟ منذ بداية مسارها المهنى ككاتبة قدم عملها الأدبى واشتهر بجوانب السير ذاتية أولا بشكل ضمنى ثم شيئا فشيئا بشكل علني.

ومن المذكرات اليومية التى تعرف باللغة الفرنسية ب journal intime  تميزت كتابة آنى بما يسمى مذكرات الخارج : journal extime و يعد الناقد الفرنسى ميشيل تورنيه أول من استخدم هذا المسمى.


فالكاتبة الفرنسية آنى إرنو الحاصلة على نوبل هى ابنة لأب كان مزارعا وأم عاملة ثم أصبح تاجراً صغيراً بمقاطعة نورماندى وأمها كموظفة فى محل الحلويات الخاص بالعائلة.

وكانت والدتها ذات صيت اجتماعى عالى الذى أثر وميز بلا أدنى شك المجال الفنى للشابة من خلال العمل الأدبي. تلك الكاتبة التى ولدت فى الأربعينيات عاشت حتى سن ال 18عام فى (كافى ابيسيرسه).

وهو متجر كبير ذو مداخل متعددة خاص بوالديها. ولقد شهدت حياة ارنو باعاً كبيراً فى التحول بين الطبقات على مراحل عديدة والذى جعلها تتحول من وسط إلى آخر. وجعل منها الأولى فى العائلة التى تقوم بعمل دراسات فى جامعة ريون وقد حصلت على أعلى الدرجات العلمية حتى وصلت لمنصب أستاذ للغة الفرنسية.

وزواجها من بعض الأشخاص من الطبقة البرجوازية جعلها تتحول بين الطبقات الاجتماعية. تركت ارنو منزلها وقد تزوجت وأصبحت أم لعائلة برجوازية فى مدينة سيرجي.

 
وتلك الوريثة لأدب المقاومة الذى يهتم بالالتزام بتطبيق المعايير، تغزو العالم الأدبى وتمزق عزلتها بسكين كتابتها الخاص مع روايتها الأولى الموسومة بالصوان الخاويوهى فى الثلاثينات من عمرها المنشورة عام 1974.

ولقد أفرغت ما  لديها فى هذا الصوان الممتلىء بالذكريات وهى تحاول أن تبحث عن ذات تلك المرأة التى وصفتها فى روايتها بعد سبعة أعوام ومنحتها عنوانها: المرأة المجمدة عام 1981. فمع ظهور عملها الأدبى أتيحت لها الفرصة من أجل تجديد الأنماط والأنظمة المعدة مسبقا للأدب المعاصر.

ومع قلمها تنقل حياة بطلة روايتها بين عالمين مختلفين إحداهما الذى نشأت فيه فى فترة المراهقة وجدت فيه من جانب التجاهل والجفاء والفجاجة من العملاء والزبائن الذين يتناولون الخمر. والعادات الصغيرة للعائلة الممارسة للتجارة. وعلى الجانب الآخر سهولة وخفة طالبات مدرسة الحرية المنحدرين من الطبقة البرجوازية الصغيرة. 

وتستمر الكاتبة الفرنسية بتقطيع حدود الذات لتصل لروايتها التالية بعد ثلاثة أعوام «المكان». تعبر عن نفسها بأسلوب أبسط وأكثر إيجازًا . تكتب إرنو حياتها فى نفس الوقت، حياة الآخرين، والسياق الاجتماعى الذى يبنى هذه الحياة والهويات.

وفى هذه الأعمال، ربما مسألة المرأة ومكانها فى المجتمع مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا ؟ تصور جميع الأعمال شابة أو مراهقة فى فرنسا ما بعد الحرب. وذاتية المرأة التى تطورت جراء تقلبات المجتمع الفرنسى فى فترة ما قبل الحرب وكيف تصور إرنو التوترات الرئيسية التى مرت بها النساء فى هذا الوقت. أول (أنا) فى السطر الثانى من ذكريات عام 1985 لا تعبر مطلقا عن (أنا مؤلف) ولكن عن شخص غير معروف الذى ترك بعض المقتطفات من مشاعره العاطفية على جدران المدينة الجديدة «أنا أحبك أليس». خلال التسعينيات.


ولأهمية كتابات آرنو وفى ظل الصداقة التى جمعت بينهما قررت الراحلة الأستاذ الدكتورة أمينة رشيد أستاذ الأدب الفرنسى والمقارن بجامعة القاهرة،ترجمة روايتها «المكان» مع زوجها الراحل الأستاذ الدكتور سيد البحرواى أستاذ الأدب العربى الحديث والنقد بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللعة العربية.

وتعد بذلك أول رواية تنشر لها باللغة العربية فى مصر.ثم توالت الترجمة لثلاثة روايات بعدها.وفى مقالة قدمتها أمينة رشيد تناولت الصعود الثقافى والطبقي، والمكان المقصود به «المكان» فى المجتمع العالم.

وكيف ارتقت فى السلم الاجتماعى رغم أنها من أسرة من الطبقة العاملة، ثم أصبحت أستاذة أكاديمية كبيرة ومرموقة ورغم ذلك لم تنس مكانتها الاجتماعية الأولى. قالت فى مقدمة رواية «المكان»: هذا الكتاب ولد من وجع، وجع أتانى فترة المراهقة، عندما قادتنى المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى بقالة، وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد، لماذا لا يقرأ أبي، لماذا يسلك بفظاظة، كما يكتب الروائيون ؟. وجع مخجل لا يستطيع الإنسان أن يصرح به أو حتى يشرحه لأحد.


ومع تجربتها العاطفيه ولوعات الفقد والفراق ومشاعر الغيرة نسجت مقتطف من جورنال الحاصلة على نوبل فى اللحظة التى عاشت فيها قصة حب مع أحد الدبلوماسيين الروس فى عام 1989 بعنوان فقدت ثم خرجت روايتها بعنوان «عشق بسيط» بعدها بثلاث سنوات.

وجعلت من الأماكن نسيجها المحورى فمنذ عام 1997 تشغل مدينة سيرجى بونتواز أهمية كبيرة. وقد خصصت عدة كتابات لهذه المدينة الجديدة واصفة حياة أصدقائها الذين كانوا معها فى المتاجر. وترجمت إزدواجية مابين الضاخية والمركزية فى العاصمة. ذلك المشهد الجغرافى ومدلوله الإجتماعى نقل صورة واقعية هامة.


ومع كتابها «الحدث» الصادر عام 2000 كتبت عن تجربتها فى الإجهاض فى الستينيات عندما كان لا يزال غير قانونيا وتم تحويل الرواية لفيلما وفاز بجائزة الأسد الذهبى فى مهرجان البندقية السينمائى عام 2021.


ولأكثر من ربع قرن تصل بقواطع قلمها إلى البحث عن سلطة الكتابة من خلال التجارب والخبرات الاجتماعية واللغوية والجنسية والتاريخية والحوارات و مع رواية السنوات التى خرجت من رحم خيالها لتولد عام 2008.

وسوف تتبع الكاتبة تحول ما فى أسلوبها الكتابى والذى قادها إلى رواية صغيره تتسم ربما كما يراها بعض النقاد بالعنف والمشاعر الغير مقبولة وفقا لتيار السير الذاتية النبيل والتاريخي. ما بين فقد عذريتها وذكريات الفتيات إجهاضها غير الشرعى عام 1963.

ولقد فتح باب الترجمة عام 2018 آفاقا كبيرة وواسعة للكاتبة مع ترجمة السنوات إلى اللغة الإنجليزية. هذا الكتاب يؤكد حقيقة وهى أن كل الصور والأشياء ستختفى ربما إسقاطا على حقيقة الموت.

وتعرض أيضا عن أمنية وأمل للكاتبة وهى تحث القراءة على استغلال الوقت واستثمار بعض الشيء قبل النهاية المحتومة. هذا الكتاب يشكل التحول الثانى فى أسلوبها الكتابى والانتقال إلى شكل جديد من السير ذاتية غير الشخصية والجماعية.


وجائزة نوبل ليست تكريمها الأول فقد سبقها جائزة اللغة الفرنسية وجائزة مارجريت يورسنار على مجمل أعمالها. فى عام 1984 حصلت على جائزة رينودوت عن كتابها «المكان».

ووصلت إلى نهائى مهرجان بوكر 2019 كأفضل جائزة. فى سن الثمانين من عمرها عرفت ظهوراً إعلامياً مدوياً خصوصا بعرض قصتها فى كتابها الحدث فى السينما وحصلت على جائزة (لومير وليون دوور فى مدينة فينيس العام الماضي) وأيضا عن كتابها «الشعور البسيط». 


ومع سيرنا نحن القراء معها فى رحلتها من مولدها فى التسعينيات وحتى عام 2022 نجد أن عناوينها تسير من حالة الجمود والفراغ إلى الديناميكة والضوء والحركة مما يدل على تطور خط كتابتها الداخلى وانتقالها كما ذكر (رافائيل ليريس) فى مقاله المنشور بجريدة لوموند الفرنسية من موضوعات يصفها بأنها ذات مستوى أقل مثل الإجهاض والأسواق وموضوعات أخرى إلى موضوعات يرى أنها أكثر نبلا أو ذات مستوى أعلى –على حد قوله- مثل الوقت والذاكرة والنسيان.

رافضه أيضا وجهة نظر زخرفية للجملة. مفضله أنها تظل واضحة وتتسم بالخشونة بالصرامة والعنف حتى وصفت ب(الكتابة المعدنية) والتى تشهد على عدم ثقتها تجاه جمال ووضوح الكلام وأشكال السيطرة الممارسة والناتجة من تلك الأسلوب فى الكتابة والانتقال بين الطبقات.


ولاحظ الباحث والكاتب والناقد دومينيك فيارت من خلال عملها الأدبى الوقت والذاكرة (2014). اهتمامها أيضا بالإشكاليات الاجتماعية لمختلف الطبقات والتنوع الثقافى والمجتمعى ومطالبتها بحقوق المرأة.


هكذا عُرفت روايات إرنو بتمركزها، إلى حدّ بعيد، حول تجاربها الخاصّة والحميمية، حيث لا تغادر أعمالُها مواضيعَ مثل الأزمات العائلية، والإحساس بالعار تجاه الطبقة التى تنتمى إليها، إضافة إلى كتابتها عن علاقاتها العاطفية دون استعارات أو تورية، وهو ما تسبّب بإثارة العديد من النقاشات الحادّة عند صدور عدد من أعمالها.


ولعلّ عملها الأخير، «شابّ»،  ينتمى إلى هذه الأجواء، حيث تحكى الرواية علاقة إرنو العاطفية مع شاب يصغرها بثلاثين عاماً. وقد تلقّت الرواية، منذ صدورها، عدداً كبيراً من المراجعات النقدية التى اعتبرت أنها ربما أهم عمل صدر خلال الموسم الأدبى الجديد هذا الخريف. 


إنها ترى أيضا أن الفن والفكر وضعا مؤخراً على طاولة الاهتمام. واهتمت أيضا بمشاكل الذاكرة والمشاكل اليومية المتعلقة بالإرث والنسب .كانت تهتم وتدخل بشكل أساسى فى مناقشات ومباحثات الظواهر الأدبية.

وكان لها موقف صارم وقاطع بضرورة العودة إلى الفاعل (الذات) وقصص السير ذاتية حيث المؤلف يروى قصة ويستمد أحداثها من حياته الشخصية.ووصولها لدرجة أستاذة الادب فى جامعة سيرجى بونتواز يعد تجسيدا لتخطيها فكرة التميز المجتمعى. وخطوة سريعة نحو إذابة التباعد الاجتماعى.


ولقد شاركت فى مناظره بعنوان: من الآن فصاعدا سيكون الأدب فى منافسة ونفس مكانة العلوم البشرية. أضافت أن الإنسان المولود بالفطرة فى المجتمع الفرنسى الواقع فى مدينة سان ماريتيم كان قد كبر فى المقهى ومحل الحلويات الخاص بأسرته فى مدينة يوفتو.

وأضافت أن وجوده ونشأته فى هذا المكان سمح له وأتاح له فرصة التنقل والتحول المبكر جدا واستكشاف كل أنواع المحادثات وأيضا مستويات الكلام. وأن يأخذ فى اعتباره التدرج الطبقى والأشياء الأكثر دقه وأشكال السيطرة الأصغر حجما و الرغبة فى الهروب من الوسط الاجتماعي.


ولكن كيف تنتقل الكاتبة من السيرة الذاتية الداخلية للسيرة الذاتية الخارجية؟ بين الاثنين (الحقيقة والأمل) تحكى لنا إرنو عن حياتها مستخدمة الضمير غير شخصى الثالث (هو/هي). عن حياتها المميزة وتطور عالمها على مدار السنوات.

وقد اعتمدت فى قصها للقصة على تقنية التحول بدأ من الضمير الثالث الغير شخصى إلى الضمير الغير الشخصى (on) وهو ضمير نكرة فى اللغة الفرنسية وصولا إلى الضمير الشخصى الأول للجمع (نحن).


ويشهد الإنتاج الأدبى عالمية أكبر وأوسع مع خروجة من بين السطور ويصبح نصا مرئيا ومسموعا على خشبة المسرح والسينما وحينما ينشغل به أيضا العمل الأكاديمى ويكرس له دراسات وأبحاث نقدية.

وكتابة السيرة الذاتية تطورت من مذكرات ومراسلات واعترافات روسو أو كتابة السيرة الذاتية الخيالية مثلا عند جيل لورا وروايته الموسومة بألباما سونج وكتابة اليوميات والمذكرات إلى اختيار الكاتبة الفرنسية آنى للمذكرات الخارجية .

إذا اختتم لوكليزيو خطابه بتخصيص جائزته لطفل أفريقى مجهول التقى به فى غابة دارين والمغامره إلﭬيرا، راوية القصص فى الغابة المعزولة والنائية. يحتفظ لوكليزيو ​​بذكرى لا تُنسى عن عذوبة صوتها وجمال اختراعاتها: كما لو كانت تحمل فى أغنيتها القوة الحقيقية للطبيعة.

ولكن الصوت الذى تردد ووجد صداه لدى آرنو: قولها إنها كتبت للانتقام من عرقها، وهى صيغة استخدمتها بالفعل عندما كانت تبلغ من العمر 22 عامًا. تشرح قائلة: الفكرة هى أن الكتابة يمكن أن تقول ما هو الواقع، سواء كان واقع المرأة، الواقع الاجتماعي.

و ما يجب أن أفعله، أن أكتبه، يُوهب لى من خلال ما رأيته، وما سمعته و ما جربته، يخدمنى كمواد، تشرح المرأة التى استمرت فى الكتابة كل يوم، لأن يوما بدون كتابة اليوميات يوم ضائع.


ربما سيشهد النقد التكوينى ساحة جديدة من الدراسة مع آخر كتبها الورشة السوداء (جاليمار، 2022): والتوقف أمام مخطوطاتها وفنيات كتابتها والتأمل فى تلك الكلمات: «جميع الكتب التى كتبتها كانت بدأت بجملة واحدة، غالبا ما تكون طويلة جداً، من التأملات والأسئلة والشكوك والاتجاهات المهجورة.

ومنذ عام 1982، اعتدت على كتابة هذا العمل الاستكشافى على أوراق، مع تواريخ، وواصلت القيام بذلك حتى الآن. إنها مذكرات حزن، عن عدم الحل الدائم بين المشاريع، بين الرغبات.

ونوع من ورشة العمل بدون ضوء وبدون مخرج، أتجول فيها فى دوائر بحثا عن الأدوات، والوحيدة، التى تناسب الكتاب الذى ألمحه، عن بعد، بوضوح»ولم تتوقف كتابة آرنو على استرجاع الماضى والبحث عن مفعول قوة الأدب فى القراء وتتخذ لقلمها لونا من الكتابة.

ومع تتويجها المعنوى والمادى بحصولها على ثمانية ملايين كوورن وفق عملة السويد والتى تعادل 730 ألف يورو، الذى أتى فى الثمانين من عمرها، يبقى الأمل ونستحضر فى إبداعنا الأدبى صورة مشرقة نابعة من جذور النخيل الذى يرتوى على ضفافى النيل.


اقرأ أيضا | في ذكرى حصوله على «نوبل».. لهذا السبب لم يسافر نجيب محفوظ لتسلم الجائزة | فيديو