«تورى ولوكيتا».. عندما تعزف السينما على عذابات شخصياتها

«تورى ولوكيتا».. عندما تعزف السينما على عذابات شخصياتها
«تورى ولوكيتا».. عندما تعزف السينما على عذابات شخصياتها

صنع  المخرجان داردين فيلما تنفجر صورته بأبعاد اجتماعية ولمسة سياسية حاضرة

 يبقى الأخوان البلجيكيان جان بيير ولوك داردين من الملهمين فى عالم الإخراج، استطاعا أن يصنعا تاريخا سينمائيا كبيرا مرصعا بالجوائز وكان آخرها السعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائى ال75، وفى فيلمهما الجديد «تورى ولو كيتا» الثانى عشر فى مسيرتهما، يعودا بإثارة سينمائية ليست فقط على المستوى الفنى الخاص بعالمهم المدهش والمحفز للفكر، ولكن أيضا بطرحهما قضية إنسانية شائكة عن معاناة المهاجرين الأفارقة الذين تم جذبهم إلى عالم الجريمة فى أوروبا.  


صنع المخرجان داردين فيلما تنفجر صورته بأبعاد اجتماعية ولمسة سياسية حاضرة، طالما مست العقول قبل المشاعر بعمق أكبر وثراء فنى وبساطة فى تسلسل الطرح رغم القضية الكبرى التى تغلف الشاشة والتى تظهر قسوة آليات الهيمنة التى تحكم العلاقات الإنسانية وخاصة لشباب المهاجرين أو المنفيين عن أوطانهم فى أوروبا.


مع «تورى ولوكيتا»، يسرد جان بيير ولوك داردين قصة صداقة بين شابين قاصرين فى المنفى تُظهر عنف العلاقة، وتدين الأضعف بدلا من الحماية أو إطلاق صرخة للمساعدة.
فى الفيلم نحن أمام حكاية عن الحياة على الهامش فى ضواحى بلجيكا القاسية.

ويكمن جمال تصويرها فى واقعيتها الصادمة وأسلوب سردها سواء فى إطار اللقطات المقربة المعتادة لأسلوب داردين وأيضا من خلال اللقطات الطويلة، التى صاحبت هجرة أبطال القصة من بنين والكاميرون إلى بلجيكا على التوالى أمام صراعات جديدة ومخاطر جديدة.


«تورى» الذى يجسده بابلو شيلز الطفل الذكى الذى تعرض للاضطهاد فى الوطن لديه أوراق إقامة ومكان تحت الرعاية، بينما شقيقه الرحلة المراهقة  «لوكيتا»  (مبوندو جويلى) تعانى من حجز أوراقها بعد رفض الشرطة اعطاءها الأوراق الرسمية للإقامة، تضطرهم الظروف من أجل تأمين إرسال المال إلى والدتهم فى بلادهم فى إفريقيا وتأمين احتياجات مدارس إخوتهم إلى العمل فى الخدمة تارة وأيضا فى توزيع المخدرات لطباخ يحول مطبخ أحد المطاعم التى يعمل بها إلى محطة لتوزيع المخدرات. 


 ترضخ لوكيت لطلبات الطباخ تارة من أجل الحصول على المال، وأخرى من أجل أن تظل الى جوار شقيقها، وطلبات ذلك الطباخ تذهب بعيدا ودائما بحجة استعادة أوراقها الرسمية، فى ابتزاز واضح لفقيرة معدمة قادمة من أفريقيا، حتى يتم إرسالها لإحدى المزارع النائية لزراعة المخدرات ثم التجول فى شوارع المدينة من أجل كسب حريتها. 


وفى سياق الأحداث نرى أخوة وصداقة حميمية تربط تورى مع لوكيتا، رغم قتامة وصرخة مشهد الاتجار بالبشر فى أوروبا والذى مهد له المشهد الافتتاحى بعمق وفق سيناريو ينتقل من الكآبة لصرخة وتساؤلات موجعة بالإحباط الواضح من عدم استجابة الدولة لأزمة المهاجرين والبيروقراطية القاسية التى لا تساعد إلا فى تأجيج الجريمة والاستغلال بعد أن نكتشف أن تورى ولوكيتا ليس شقيقين، بل التقيا على مركب. 


وحينما يقرران الهرب تأتى رصاصة أحد الشركاء فى المزرعة والذى لا يريد أن ينكشف أمره ليتم اغتيال لوكيتا .وفى المشهد الأخير يقول تورى كلمته أثناء الجنازة .. «الأوراق الرسمية اغتالت لوكيتا لأنها تنتظر الحلم والخلاص ليأتى الموت سأظل وحيدا فى الغربة» وكأنه يفتح النهاية على كارثة أخرى سيذهب إليها هذا الصبى .


نعم  السينما هنا هى الصدمة وهى النقد الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، معاناة وألم وغربة وعذابات المغتربين من كافة الجنسيات والذين لا يتم تصويرهم كأبرياء أو ملائكة بل متورطين فى الجرائم مهما صغرت من أجل البقاء والعيش والحصول على الأوراق الرسمية.

ولكن تلك الأوراق تكون طريقهم إلى الموت تحت نظر القانون. بل إن الفيلم يذهب بعيدا حينما يوجه النقد العنيف للكنيسة الراعية للفتاة لوكيتا حينما يتم اجبارها على التبرع للكنيسة رغم احتياجاتها إلى المال لإرساله لأسرتها ووالدتها المريضة. فى مشهد صعب حيث يتم البحث عن المال فى ملابسها واماكنها الحساسة وهى أمام دهشة لا توصف .


أداء بسيط وثرى ذلك الذى يقدمه لنا الثنائى جولى ماندو بدور – لوكيتا – وبلباو سيشلز بدور – تورى.ومدير التصوير بانوا درايفو الذى كان الشريك الدائم لجملة أعمال داردين كان له بصمته الإبداعية الرائعة والتى ظلت تتمحور حول الإنسان المغترب والتنازلات الكبرى التى يقدمها من أجل البقاء فى أوروبا.


سينما داردين تأخذنا إلى حيث عوالمها وعذابات شخصياتها وهى تظل تعزف على إيقاع الغربة والهجرة والظلم والتعسف الأوروبى لمن هم بأمس الحاجة إلى الدعم والرعاية والأخذ باليد والحماية فى رحلة المنفى بلحظاتها السعيدة وحزنها العميق.

اقرأ ايضا |  محمد صبحى يكتب:«آل فابلمان» لستيفن سبيلبرج.. خطاب ساحر في حبّ السينما