عاجل

هالة العيسوي تكتب: من 49 سنة

هالة العيسوي
هالة العيسوي

أكتب هذا المقال للشباب والكهول حتى سن الخمسين مثلًا، أولئك الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد أو وعوا ما جرى قبل تسعة وأربعين عامًا حين اندلعت حرب أكتوبر 73، التى انتهت بنصر عظيم مؤزر. هؤلاء الذين لم يذوقوا حلاوة انتصار محا عارًا لم يعيشوه أيضًا فى 1967. ربما لمحوا لقطات سريعة منه فى مشاهد من أعمال سينمائية أو درامية لكنهم لم يعيشوا تلك اللحظات الحلو منها والمر أيضًا. 

فى مثل هذا الشهر من 49 سنة كنا فى بدايات العام الدراسى. وقتها كنت قى المرحلة الثانوية، كنا نعيش حالة إحباط جماعى ومرحلة عدم يقين وغياب الأمل فى أعقاب نكسة 67 التى استولت فيها إسرائيل على شبه جزيرة سيناء من مصر، وعلى الضفة الغربية والقدس وكانتا تحت الإشراف الأردنى، وعلى مرتفعات الجولان السورية. وقتها اكتست الوجوه والنفوس بكآبة منقطعة النظير دفعت كثيرًا من الشباب للهجرة إلى الخارج بحثًا عن أفق جديدة وبداية طازجة. حتى كان السادس من أكتوبر وما تلاه من أيام الحرب المجيدة، فانقلب الحال 180 درجة. 

ولن ينبئك مثل خبيرعن هذا التحول. شباب المهاجرين العرب الذين عانوا فى الغربة انكسارات نفسية ومذلة وإهانات تنوء منها الجبال، ثم أصبحوا هم أنفسهم هدفًا للتوقير والاحترام من ذات الجهات والأشخاص الذين عايروهم من قبل.

لا أدرى كيف أحدثك عن مشاعر استعادة الكرامة، والشموخ والعزة، التى انتابتنا جميعًا سواء كنا فى الداخل أو فى الخارج. 

لن أخجل من القول بأننى أتفهم تمامًا أزمة الإسرائيليين من أبناء جيلى، أزمة الانكسارات التى تأتى بعد الهزائم، فتظل تلاحق الشعوب حتى يزول العار. الإسرائيليون من أبناء جيلى مازالوا يتلقون رعاية نفسية، على أثر هزيمتهم فى حرب أكتوبر أو ما يسمونها «حرب يوم الغفران»، مازالت تجرى لهم حلقات الفضفضة حتى الآن، لينفسوا عن مشاعر الصدمة والقهر التى تلازمهم، والحنق والغضب الذى يطلقونه على قادتهم، والأسى على نفوسهم. هى مشاعر عشناها من قبل بعد النكسة لكننا طرحناها جانبًا بفضل النصر العظيم فى أكتوبر. 

قبل أيام نشرت أرشيفات الجيش الإسرائيلى لأول مرة دراسة سيكولوجية أجرتها وحدة علم النفس العسكرى، بعد أيام قليلة من انتهاء حرب يوم الغفران، بخصوص توثيق أسباب فشلهم فى الحرب، لأول مرة منذ 49 عامًا تنشر تسجيلات نادرة للجنود الإسرائيليين الذين قاتلوا فيها. تكشف نظرتهم إليها.

فى هذه التسجيلات عبر أحد الجنود عن المشاعر القاسية بوصفه «لقد ذهبنا مثل قطيع إلى الذبح». واتهم المقاتلون قادتهم بالاستخفاف بحياة الإنسان. وقال جندى آخر: «سمعنا من عميد قوله لنا إنه لا يهتم إذا بقى 15 رجلًا من الكتيبة بأكملها».  وقال مقاتل آخر: إن «القادة أرسلوا جنودًا دون اعتبار لقناة السويس بسبب الضغوط السياسية.

وأوضحت وحدة علم النفس العسكرى أن نقد المقاتلين للقيادة المباشرة تركزعلى ثلاثة مجالات: المستوى المهنى، ودرجة الاستعداد الذى أبدوه فى تشغيل الوحدات، ودرجة الثقة التى غرسوها فى الجنود. وهو ما يثبت أن عكس هذا هو ما حدث عندنا وأن الروح القتالية للمقاتل المصرى خير أجناد الأرض، وأن الثقة بالله وفى قياداته هو ما حقق له النصر المبين. نحن مازلنا نتذوق حلاوة النصر وهم مازالوا يشعرون بمرارة الهزيمة.