عودة الابن الضال .. وهشام سليم !

د. إلهـــام سيـــف الدولـــة حمـــدان
د. إلهـــام سيـــف الدولـــة حمـــدان

عندما‭ ‬تنطفيء‭ ‬“شمعة”‭ ‬ــ‭ ‬بالتعبير‭ ‬المجازي‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬العربية‭ ‬ــ‭ ‬كانت‭ ‬تبدد‭ ‬الظلام‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي‭ ‬من‭ ‬حولنا؛‭ ‬ويجيء‭ ‬هذا‭ ‬الانطفاء‭ ‬المفاجيء‭ ‬ــ‭ ‬رغمًا‭ ‬عنها‭ ‬ــ‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬رياح‭ ‬المرض‭ ‬الفتَّاك‭ ‬العُضال؛‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬لانملُك‭ ‬له‭ ‬صدًا‭ ‬ولا‭ ‬ردًا‭ .. ‬لأنها‭ ‬جزء‭ ‬لايتجزأ‭ ‬من‭ ‬رياح‭ ‬الأقدار؛‭ ‬وتنفيذًا‭ ‬للمسطور‭ ‬في‭ ‬سيناريو‭ ‬المصير‭ ‬المحتوم؛‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬ـ‭ ‬بلا‭ ‬إرادة‭ ‬ـ‭ ‬نسقط‭ ‬في‭ ‬“بئر‭ ‬الذكريات”‭ ‬العميق؛‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتجميع‭ ‬بعض‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُبهرنا‭ ‬بها‭ ‬تحت‭ ‬“سرسوب”‭ ‬الضوء‭ ‬المُنبعث‭ ‬من‭ ‬“فتيلها”؛‭ ‬وتمنحنا‭ ‬القدر‭ ‬الكبير‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬والبهجة‭ ‬والجمال‭ ‬والإبهار‭ .. ‬والدهشة‭ ‬

وحين‭ ‬خبت‭ ‬وانطفأت‭ ‬“شمعة”‭ ‬الفنان‭ ‬هشام‭ ‬سليم؛‭ ‬بعد‭ ‬صراع‭ ‬طويل‭ ‬مع‭ ‬المرض؛‭ ‬نسمح‭ ‬لأنفسنا‭ ‬أن‭ ‬ندلي‭ ‬بدلونا‭ ‬في‭ ‬“بئر‭ ‬الذكريات”‭ .. ‬لنسترجع‭ ‬سويًا‭ ‬خطوات‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الفن؛‭ ‬وكيف‭ ‬تحول‭ ‬من‭ ‬“مشروع‭ ‬لاعب‭ ‬كرة‭ ‬قدم”‭ ‬إلى‭ ‬“ممثل”؛‭ ‬ونتذكر‭ ‬كيف‭ ‬تمرد‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬النجومية‭ ‬في‭ ‬“كرة‭ ‬القدم”‭ ‬ـ‭ ‬برغم‭ ‬براعته‭ ‬فيها‭ - ‬بحكم‭ ‬نشأته‭ ‬وانتسابه‭ ‬لوالده‭ ‬لاعب‭ ‬الكرة‭ ‬الكابتن‭/‬صالح‭ ‬سليم‭ ‬أسطورة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬المصرية؛‭ ‬وعندما‭ ‬أجاب‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬حياته‭ .. ‬قال‭ :‬

“‭ .. ‬مفيش‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ .. ‬صالح‭ ‬سليم‭ ‬نموذج‭ ‬لا‭ ‬يتكرر‭.. ‬ومهما‭ ‬وصلت‭ ‬لأي‭ ‬شىء‭ ‬فى‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ .. ‬لن‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ .. ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬أحد‭ ‬إلى‭ ‬مجده‭ .. ‬لكن‭ ‬فى‭ ‬الفن‭ ‬أنا‭ ‬أحسن‭ ... ‬“‭ !‬

وبهذه‭ ‬الروح‭ ‬المتمردة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الثقة‭ ‬والاعتزاز‭ ‬بقدراته؛‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬وإلى‭ ‬قلوب‭ ‬الجماهير‭ ‬من‭ ‬الباب‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬إطلاله‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬الكبيرة‭ .. ‬وأمام‭ ‬من‭ ‬؟‭ ‬أمام‭ ‬سيدة‭ ‬الشاشة‭ ‬العربية‭ /‬فاتن‭ ‬حمامة‭ ! ‬ليجسِّد‭ ‬شخصية‭ ‬“الفتي‭ ‬المراهق”‭ ‬المتمرد‭ ‬على‭ ‬تسلُّط‭ ‬وجبروت‭ ‬“سلطة‭ ‬الأمومة”‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭ ‬ـ‭ ‬وينجح‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مشاعر‭ ‬ملايين‭ ‬المراهقين‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬سنه؛‭ ‬وليكون‭ ‬الظهور‭ ‬في‭ ‬“امبراطورية‭ ‬م”‭ ‬أول‭ ‬خطواته‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التمثيل؛‭ ‬وليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب‭ .. ‬بل‭ ‬ليغرس‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬عُمره‭  ‬بذور‭ ‬مباديء‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وآفاق‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية؛‭ ‬تلك‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬يتطلعون‭ ‬إليها‭ ‬بحسب‭ ‬مفاهيمهم‭ ‬الضيقة‭ ‬قبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬التجارب‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬الحياة‭ .‬

ولكن‭ ‬حزب‭ ‬أعداء‭ ‬النجاح‭ ‬لم‭ ‬يتركوا‭ ‬الفتى‭ ‬الصاعد‭ ‬“في‭ ‬حالُه”‭ ‬وأطلقوا‭ ‬الشائعات‭ ‬بأن‭ ‬اختياره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السن‭ ‬المبكرة؛‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمحض‭ ‬الصدفة‭ ‬أو‭ ‬لموهبته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؛‭ ‬وإنما‭ ‬تم‭  ‬مجاملة‭ ‬واستنادًا‭ ‬إلى‭ ‬شهرة‭ ‬أبيه‭ ‬الكابتن‭ ‬صالح‭ ‬سليم‭ ‬“رئيس‭ ‬جمهورية‭ ‬الأهلي”‭ !! ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يهتز‭ ‬أمام‭ ‬تلك‭ ‬الشائعات‭ ‬المُغرضة‭ ‬الهدَّامة؛‭ ‬بل‭ ‬اشتد‭ ‬إيمانه‭ ‬بموهبته‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ . ‬

‭ ‬ثم‭ ‬تتوالى‭ ‬النجاحات‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬صائد‭ ‬اللآليء‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬بحار‭ ‬السينما‭ ‬المصرية‭ ‬ومكتشف‭ ‬النجوم‭ ‬المخرج‭ ‬الكبير‭/‬يوسف‭ ‬شاهين؛‭ ‬حين‭ ‬يُسند‭ ‬إليه‭ ‬دور‭ ‬العمر‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬“عودة‭ ‬الابن‭ ‬الضال”‭  ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬الفنانة‭ ‬ماجدة‭ ‬الرومى‭ ‬ليُشكلا‭ ‬ثنائيا‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتصدر‭ ‬قصص‭ ‬الحب‭ ‬والمواقف‭ ‬الرومانسية‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا؛‭ ‬وجاء‭ ‬قيامه‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭ ‬ردًا‭ ‬قاطعًا‭ ‬على‭ ‬الشائعات‭ ‬المُغرضة‭ ‬ولتأكيد‭ ‬عودة‭ ‬هذا‭ ‬“الابن”‭ ‬الي‭ ‬درب‭ ‬النجاح‭ ‬والتنبوء‭ ‬بالشهرة‭ ‬القادمة‭ ‬في‭ ‬مستقبل‭ ‬الأيام‭ . ‬

وبرغم‭ ‬كونه‭ ‬يحمل‭ ‬شهادة‭ ‬جامعية‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬بعد‭ ‬التخرج‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬السياحة‭ ‬والفنادق‭ ‬بجامعة‭ ‬حلوان؛‭ ‬إلا‭ ‬انه‭ ‬آثر‭ ‬أن‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الوسط‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صقل‭ ‬موهبته‭ ‬والعمل‭ ‬الدءوب‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬طموحاته‭ ‬وتطلعاته؛‭ ‬ليذهب‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬البريطانية‭ ‬“لندن”‭ ‬ليبدأ‭ ‬دراسة‭ ‬الفن‭ ‬فى‭ ‬“الأكاديمية‭ ‬الملكية‭ ‬للفنون”‭ ‬؛‭ ‬تلك‭ ‬الأكاديمية‭ ‬العريقة‭  ‬التى‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفنانين؛‭  ‬والتي‭  ‬تأسست‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬“الملك‭ ‬جورج‭ ‬الثالث”‭ ‬وتم‭ ‬إنشاؤها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬دعم‭ ‬الفنون‭ ‬في‭ ‬فروعها‭ ‬كافة؛‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬يتخرج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأكاديمية‭ ‬يصبح‭ ‬فناناً‭ ‬محترفًا‭ ‬ومبدعًا؛‭ ‬ويقوم‭ ‬العلم‭ ‬والدراسة‭ ‬بالإضاءة‭ ‬والدعم‭ ‬لإظهار‭ ‬جوانب‭ ‬الموهبة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الفنان‭ .‬

ويعود‭ ‬“هشام‭ ‬سليم”‭ ‬القادم‭ ‬إلى‭ ‬درب‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬يناير‭ ‬1958‭ ‬ليظهر‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬فى‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬الغض‭ ‬ــ‭ ‬وتخطي‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة‭ ‬شكلاً‭ ‬وتشكيلاً‭ ‬ــ‭ ‬ليخطف‭ ‬الأنظار‭ ‬فى‭ ‬فيلم‭ ‬“تزوير‭ ‬فى‭ ‬أوراق‭ ‬رسمية”‭ ‬أمام‭ ‬الفنانة‭ ‬الكبيرة‭/ ‬ميرفت‭ ‬أمين‭ .. ‬في‭ ‬العام‭ ‬1984؛‭ ‬أي‭ ‬إنه‭  ‬ــ‭ ‬وقتذاك‭ ‬ــ‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب‭ ‬وقمَّته‭ ‬ويرفل‭ ‬في‭ ‬أعوامه‭ ‬السادسة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ! ‬

ولم‭ ‬يتوقف‭ ‬قطار‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الراحل‭ ‬هشام‭ ‬سليم؛‭ ‬فقد‭ ‬توالت‭ ‬الأدوار‭ ‬بين‭ ‬السينما‭ ‬والتلفزيون؛‭ ‬لينتزع‭ ‬الإعجاب‭ ‬والنجاح‭ ‬بين‭ ‬الجماهير‭ ‬لاختياره‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬يلعبها‭ ‬بعناية‭ ‬ويؤديها‭ ‬بكل‭ ‬البراعة‭ ‬والإتقان؛‭ ‬وبخاصة‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬بتجسيد‭ ‬شخصية‭ ‬“عادل‭ ‬البدري”‭ ‬في‭ ‬رائعة‭ ‬الكاتب‭ /‬أسامة‭ ‬أنور‭ ‬عكاشة‭ : ‬“ليالي‭ ‬الحلمية”؛‭ ‬وليزاحم‭ ‬كل‭ ‬أبطال‭ ‬هذاالمسلسل‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬التألق‭ ‬والنجومية‭ ‬والنجاح‭ . ‬

‭ ‬وقد‭ ‬يطول‭ ‬بنا‭ ‬الحديث‭ ‬لمحاولة‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬لعبها‭ ‬ـ‭ ‬لضيق‭ ‬المساحة‭ ‬ــ‭ ‬ولكني‭ ‬أحاول‭ ‬الإشارة‭ ‬في‭ ‬عُجالة‭ ‬إلى‭ ‬تجسيده‭ ‬لشخصية‭ ‬“‭ ‬بهلول”‭  ‬فى‭ ‬فيلم‭ ‬الأراجوز؛‭ ‬وقام‭ ‬بالدور‭ ‬امام‭ ‬الفنان‭ ‬العالمي‭ /‬عمر‭ ‬الشريف‭ !‬

‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬الراحل‭ ‬المحبوب‭ ‬الذي‭ ‬استشعر‭ ‬كل‭ ‬مصري‭ ‬أنه‭ ‬فقد‭ ‬ابنا‭ ‬أو‭ ‬أخا‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته‭ ‬المقربين‭ ‬،فلم‭ ‬يكن‭ ‬غريبا‭ ‬في‭ ‬ديارهم‭ ‬بل‭ ‬أقرب‭ ‬الأقرباء‭ ‬لقلوب‭ ‬محبيه‭ ‬ومعجبيه‭..‬ويقيني‭ ‬أن‭ ‬المبدعين‭ ‬لايرحلون‭ ‬بل‭ ‬يغيرون‭ ‬عناوينهم‭..‬وها‭ ‬هو‭ ‬قد‭ ‬غير‭ ‬عنوانه‭..‬وداعا‭ ‬هشام‭ ‬سليم‭!‬

رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الإنتاج‭ ‬الإبداعي‭ ‬الأسبق‭ ‬بأكاديمية‭ ‬الفنون‭ ‬وعضو‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬مصر