محمد علي السيد يكتب (1): «الأولة في القتال».. معركـة جبـل مريـم

كتاب "الأولة في القتال" للكاتب محمد علي السيد
كتاب "الأولة في القتال" للكاتب محمد علي السيد

سطح جبل مريم.. كتلة من اللهب.. لكن تحصيناتها القوية.. ساعدت قوات المظلات على الصمود وقد سيطرت عليها بالأمس..فهذا هو اليوم السابع لثغرة الدفرسوار (22 أكتوبر 73) أعنف أيامها.. فى غروبه سيتم وقف إطلاق النار، حسب قرار مجلس الأمن.. لذا يسعى العدو لتحسين أوضاعه بأى ثمن.

وجبل مريم هو مفتاح مدينة الإسماعيلية وقيادة الجيش الثانى وطريق القاهرة.. وفي خندق قائد الكتيبة .. على عمق ثمانية أمتار تحت سطح أرضها.. جاء اتصال من اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثانى يطلب من المقدم عاطف منصف قائد الكتيبة انتظار مكالمة هامة.. فهناك قائد عظيم سيتصل به.. وجاءه الصوت المميز للرئيس السادات يقول له: "يا عاطف .. مريم أمانة فى رقبتك.. الدفاع لآخر رجل وآخر طلقة.. وعقب : معاك منعم .. وجاءه صوت اللواء عبدالمنعم خليل.. ليكرر أمر الانتظار فهناك مكالمة أخرى.. كانت أكبر مفاجأة.. لقائد الموقع.. فعلى التليفون كانت ابنته (سهيلة) ذات الثمانية أعوام.. تسأل (بابا) عن أحواله وموعد عودته سالماً.. وكانت أكبر لمسة إنسانية من قائد الجيش الثانى . لأحد رجاله.

سبعة أيام من الجحيم والبطولة والفداء.. عاشت غمارها قوات المظلات قبل هذا اليوم الحاسم.. فقد اتفق مجلس الأمن على وقف إطلاق النار فى آخر ضوء من يوم 22 أكتوبر.. وأصيب العدو بلوثة تحسين الأوضاع.. فها هو القتال يقترب من مائدة المفاوضات التى تستلزم (كروتاً) للمساومة.. لكن رجالنا كانوا له بالمرصاد.. دائما.

فى 16 أكتوبر.. بداية الثغرة، وبداية عمل قوات المظلات والتى أعدت لواء كاملاً للإبرار الجوى بالهليوكبتر فى منطقة تمركزها فى أنشاص  لكن بفعل الثغرة استخدمت كمشاة.. فعكفت على التقدم للاسماعيلية للاستيلاء على مطار الدفرسوار ومرسى أبو سلطان.. والذى تم يوم 17 وهناك اصطدمت بمدرعات العدو.. الذى تمركزفى المطار.. واستغل بعضها ناتـج حفر ترعة السويس وتخندقت به.. وعاشت القوات ليلة من جحيم النيران، لكنها صححت نيران مدفعية الجيش الثانى الميدانى.

وفي صباح 18 أكتوبر.. اشتبكت القوات مع مدرعات العدو فى عودتها لتمركزها وشاركت فى معركة جوية ضد ست طائرات سوخوى إسرائيلية أسقطت خلالها ثلاث طائرات.. واستمرت فى قتالها حتى العصر.

وفي يوم 19 أكتوبر.. تلقت قوات المظلات أوامر بالاستيلاء على جبل مريم وجبل حنيدق وعين غوصين.. وتم الاستطلاع الذى انتهى فى  20 أكتوبر بموقف.. احتلال العدو لجبل حنيدق بعد قصف شديد بالنيران.. واحتلال موقع عين غوصين.. وجاءت الأوامر بانسحاب قوات المشاة من جبل مريم  مساء يوم 20 وأصبح الموقع الوحيد الذى به قوات مظلات.. وتم تدعيمها بكتيبة مدفعية هاون.

وتمسكت القوات بالجبل فلو استولى عليه العدو.. لتحرك من غرب بحيرة التمساح، عابراً ترعة الإسماعيلية اعلى  كوبرى الجلاء الذى يواجه مباشرة بوابة قيادة الجيش الثانى بالإسماعيلية .

واستمر القتال الشرس طوال يوم 21 أكتوبر.. وحتى آخر ضوء وفى ظهر يوم 22 أكتوبر.. قام اللواء محمود عبدالله قائد قوات المظلات بزيارة جبل مريم وتفقد موقع قواتنا مؤكداً على ضرورة التمسك بمواقعنا بكل تصميم وقوة وكان لهذه الزيارة أثرها الواضح في رفع معنويات الرجال ونجحت قواتنا فى إيقاف قوات العدو شمالاً فى اتجاه الاسماعيلية وفى الرابعة عصراً.. جاءت الأوامر بوقف إطلاق النار اعتباراً من  السادسة مساء.. وتوقفت المدفعية وفى السادسة والنصف أخذت أسلحة الطرفين إطلاق طلقاتها فى الهواء.. إعلان لوقف القتال.

لكن قواتنا وهى تدافع عن أرضها.. وأمام معركة تليفزيونية، هدفها الدعاية والتفاوض.. لم تقبل أن يبقى العدو هادئاً ولو لحظة.. فمنذ يوم 24 أكتوبر.. بدأ دفاع نشط.. لإرهاق العدو.. واستنزاف قدراته وجنوده، بصفة مستمرة، ليلاً ونهاراً.. حتى وضعت خطة تصفية الثغرة والتى لم تنفذ لبدء مفاوضات وقف إطلاق النار التى انسحبت بعدها قوات العدو من كل الثغرة.. وتحقق النصر الكبير.. الذى بدأناه فى السادس من أكتوبر ..
***
نهار الثانى من يناير 74..
كان هو اليوم 78 من أيام الثغرة التى بدأت فى 16 أكتوبر73..
وكان وقفة عيد الأضحى المبارك..ثانى الأعياد التى تأتى على قواتنا وهى فىالحرب فقد جاء عيد الفطر فى 26 أكتوبر.. بعد 20 يوماً من العبور  وعشرة أيام من الثغرة..


وجاءت وقفة العيد فى قمة التداخل ما بين قواتنا وقوات العدو فى  الثغرة  وفى قمة دفاعنا  النشط  منذ 24 أكتوبر.. وحتى نهاية المائة يوم من الثغرة والتى انتهت بمباحثات الكيلو 101.. وجاء أيضاً فى وجود قوات طوارئ دولية.. على الخطوط الفاصلة بين القوات لرصد اشتباكاتها ونقل الاحتجاجات..


وتأكد أن العدو.. مصر على ألا تمر هذه المناسبة الدينية دون منغصات..
وتحول سطح جبل مريم إلى جحيم من اللهب.. فى قصف  ثلاث ساعات بكل أنواع المدفعية من الشرق ومن الغرب فظن الكثيرون استشهاد كل رجال الموقع..
وخسرت قواتنا عشرة شهداء وخمس وعشرون جريحاً..
ولم يعد الصمت مجدياً..
والغل يجرى مع الدماء التى تغلى فى العروق..
واستمرت حالة الصمت ثلاث ساعات كاملة.. مرت كدهور..
لكن العناد والذكاء وحسن التقدير.. كانوا هناك أيضاً..
الفكرة بسيطة.. هى أن هناك سبعة مواقع هامة لتشوينات العدو.. يتم رصدها منذ بداية الثغرة.. ويقوم قائد مدفعية الموقع بضبط (إحداثياتها) على خرائطه فى كل اشتباك، ومدافعه جاهزة لقصفها فوراً وبدقة..

وكان رأى المقدم عاطف.. هو قصفها قبل آخر ضوء بعشر دقائق فقط.. حتى لا يتمكن العدو خلالها من الرد.. وتقوم نيران مواقعهم بكشفهم لنا، ولا يستطيعون رؤيتنا فى الظلام..
وقد كان ..

أغرت ثلاث ساعات من الصمت.. قوات العدو.. بعجزنا عن الرد.. فتحرك بحرية.. وكانت لديه زيارة عسكرية مع تبديل أجازات جنوده وضباطه وتجمعت سياراتهم أمام مسجد (عزبة عطوة) فلجأوا إليه.. على أساس أن المصريين لن يضربوهم هناك..

ولم يجد المقدم عاطف أمامه إلا الأزهر.. متمثلاً فى الشيخ محمد أبو داود واعظ المظلات المتواجد بالموقع رغم ما نبه إليه من مخاطر.. وسأله.. ماذا نفعل الآن يا مولانا ؟..
فأجابه على الفور.. الرسول عليه الصلاة والسلام قال.. لو تعلق العدو بأستار الكعبة .. اهدموها..
فانطلقت المدافع تدك المسجد بمن فيه.. وسنعيد بناءه على أحسن ما يكون بإذن الله بعد النصر 

وكان نصر الله عظيماً.. 164 قتيلاً من ضباط وجنود العدو.. اضطر قادتهم إلى اللجوء للأمم المتحدة، ليشكوا ويطلبون ضبط وربط النيران.. وأصبح يومهم هذا هو يوم (معركة مريم).. وجاء قائد الجيش الثانى اللواء فؤاد عزيز غالى.موقع ليتناول طعام العيد مع رجاله .