حازم نصر يكتب.. أخي الوضاء في جبين العدالة 

حازم نصر
حازم نصر

" ينتمي لأسرة محترمة " تلك العبارة المقتضبة التي سجلها المحامي العام لنيابات المنصورة عقب لقائه بوالدي رحمه الله وكان المعلم المثالي على مستوى الجمهورية حينها ..حيث هنأه بقرب تعيين ابنه الأكبر الفائق في دراسة القانون  وكيلا للنائب العام  .
بعدها بفترة وجيزة تم تعيينه بالفعل وكيلا للنيابة بالإسكندرية وهي المدينة التي عشقها أثناء دراسته بكلية الحقوق بجامعتها  منذ قرابة نصف قرن من الزمان .
وكما كان نابها ومتميزا وفائقا في طفولته لازمه هذا النبوغ والتميز طوال رحلته في محراب العدالة التي تولى فيها الكثير من المناصب المرموقة دون أن يتخلى عن بساطته وتواضعه ونزاهته وشموخه  وكبريائه يوما ما ..كان يضع نصب عينيه اللحظة التي سيلاقي فيها ربه فظل زاهدا في كل ما يلهث وراءه الكثيرون حتى لقي ربه راضيا مرضيا بعد أن عاش وضاءا في جبين العدالة في مصر .
شقيقي الأكبر المستشار عبد المطلب محمد نصر الذي ودعناه منذ ساعات في مشهد مهيب نادرا ما يتكرر حيث اكتظت ساحة مسجد المواساة  بالإسكندرية ومحيط المسجد بالمشيعين من مختلف الفئات والأعمار وإن كان معظمهم من رجال القضاء والنيابة من مختلف الأجيال .. 
أتم حفظ القرآن قبل التحاقه بالمدرسة الابتدائية وحصل على المركز الأول على مستوى الجمهورية وكرمه الرئيس جمال عبد الناصر على هذا النبوغ المبكر وكان هذا من أسباب تفوقه في عمله القضائي لاحقا ..فلا يغيب على فطن تأثير حفظ القرآن الكريم في التقويم التلقائي للغة ..علاوة على أن ميزان العدالة لن يغيب عمن يحفظه يوما ولن  يتخذ قرارا أو يصدر حكما عن هوى ..  كما كانت مرافعاته أمام المحاكم أثناء عمله بالنيابة قبل أن يجلس على المنصة محل اهتمام من الجميع لرصانة أسلوبه وقوة حجته ومنطقه .
ثم تفوق في الثانوية العامة وأصر على الالتحاق بكلية الحقوق برغبته لذا تميز في كل المواقع التي شغلها رغم حساسية معظمها فقد كانت قناعته أنه ما عظمت  أمة إلا بقضاء عادل نزيه مستقل ..فكان قاضيا بدرجة عالم فقد حمل في قلبه كل صور الرجمة في طريقه للبحث عن وجه العدالة في كل ما يعرض عليه ..وكثيرا ما كان يؤكد لي أن قضاء مصر سيبقى حاميا للحقوق وحارسا لها مهما ظهرت ممارسات لا تتسق مع هيبة القاضي من نفر قليل هنا وهناك لأن جسد القضاء المصري بخير كما أن هناك محاسبة صارمة لا يعلن عنها لكل من يخرج على قيم وتقاليد القضاء .
أنعم الله عليه بزوجة صالحة هي المرحومة منى أبو وافية أحد انجب صحفيات أخبار اليوم وعمها السياسي المحترم الراحل محمود أبو وافية عديل الرئيس أنور السادات الذي حضر زفافهما مع الراحلة السيدة جيهان السادات .. الزفاف كان بسيطا وأنيقا في ذات الوقت  وتم في حضور عدد محدود من المدعوين .
خشى والدي أن يخرج عن نهجه الذي رباه عليه فانتحي به جانبا  يوم الزفاف وبعد أن أوصاه خيرا بعروسه  أعاد عليه وصاياه الذهبية بألا يهجر القرآن وألا يظلم أحدا  وأن يحافظ على ثوبه نقيا بالحرص على قيم العدالة وألا يتهاون في تطبيقها تحت أي ظرف من الظروف .
ظل أخي  عبد المطلب  كلما التقينا يتذكر وصايا والدنا الرجل الصالح  له حيث كان يحفظها عن ظهر قلب ..كما كان يحتفظ برسائله وكانت كل منها بمثابة  قطعة أدبية بديعة تحمل بين طياتها كل القيم الإنسانية النبيلة التي تصلح كدستور أخلاقي في هذا الزمان .
وعندما ابتليت زوجته بالمرض اللعين كان لها نعم العون والسند في مواجهته ولم يتخلى عنها لحظة واحدة واستأجر غرفة بفندق مجاور بإحدى المستشفيات الكبرى حتى لقيت ربها راضية مرضية .
وفي رمضان الماضي كان يتأهب لتتويج عمله القضائي بعد أن شارف على السبعين عاما وأصيب بوعكة صحية فطلب منه الطبيب الإفطار في رمضان وألا يتعرض للإجهاد لكنه ضرب بتعليماته عرض الحائط وعندما عاتبته على ذلك بعد ان زادت متاعبه قال لي :
هل كنت  تريد مني  أن أنهي مشواري القضائي وأنا في إجازة ؟ فقلت له وما الضير في ذلك طالما كان ذلك بعذر قهري ؟
أجابني : ولما لا أتحمل بعض العناء لأصدر أحكاما في قضايا لها حساسية كبيرة وتحتاج جهد كبير وواجبي كان يحتم علي ذلك .
رحم الله أخي الأكبر المستشار عبد المطلب نصر جزاء ماقدم من أجل رسالة القضاء فقد ظل وضاءا في جبينه ..ويشهد الله أني تحفظت كثيرا في الكتابة عما قدم في حياته راجيا المولي عز وجل أن يجعله في ميزان حسناته وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة .. " وإنا لله وإنا إليه راجعون "