د. خالد غريب يكتب: «مرسوم منف» ودوره في معرفتنا باللغة المصرية القديمة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

هذا المرسوم عثر على نسخ منه أخرى غير النسخة الشهيرة ومنها نسخة من النوبارية وهى المحفوظة بالمتحف المصرى ونسخة من ألفنتين محفوظة باللوفر، ونسخة أخرى من مدينة ليونتوبوليس (تل اليهودية).

يمثل حجر رشيد أو مرسوم منف أحد أهم مصادر التاريخ المصرى فى العصر البطلمى، وينسب هذا المرسوم لعهد الملك بطلميوس الخامس (إبيفانس) فنحن نعلم من المصادر أن الكهنة المصريين قد اجتمعوا فى كانوب (أبو قير الحالية) عام 237 قبل الميلاد، إبان عهد الملك بطلميوس الثالث أيورجيتيس الأول، وقدموا له الشكر على كل ما قام به للمصريين حيث فتح مخازن الغلال، وأعفى الناس من الضرائب بعد مشاكل الفيضان.


أبدأ بهذا الطرح لأهمية المقارنة بين موقف المصريين من البطالمة من خلال المراسيم، لأنه بعد وفاة بطلميوس الثالث ووصول بطلميوس الرابع (فيلوباتور) إلى الحكم كان هذا الملك ألعوبة فى أيدى رجال القصر الذين تحكموا فى كل الأمور، حتى أن الملك هرب من ساحة المعركة فى الحرب السورية الرابعة.

وقد تمكن المصريون خلال هذه الحرب التى تعرف بمعركة رفح من تحقيق الانتصار على السلوقيين، وقام كهنة الصعيد بالانفصال وإعلان الصعيد مملكة مستقلة وهو ما قبله الملك الضعيف.

لكن بعد موت بطلميوس الرابع انتقل العرش إلى ابنه الطفل بطلميوس الخامس إبيفانس والذى ضاعت فى عهده منطقة جوف سوريا التى كانت تسيطر عليها مصر منذ بدايات العصر البطلمى، وتداخلت أمور عديدة فى سياسة البلاد.


وفى يوم 27 مارس 196 ق.م حدث أن جاء الفيضان أقل من المعتاد فطلب بعض المصريين من الملك أن يتنازل حكام الصعيد عن انفصالهم مقابل أن يقوم الملك بنفس تصرف جده بطلميوس الثالث من فتح مخازن الغلال، والإعفاء من الضرائب.

وقد قام الملك بهذا الأمر لكنه نكل بالثوار ولم يعف عنهم، وحينها اجتمع الكهنة فى مدينة منف المصرية مقر تتويج الملوك، وليس كانوب التى تجاوز عاصمة ملك البطالمة الإسكندرية، ثم قام الكهنة بعد ذلك بإضافة عبارتين هامتين؛ الأولى أن الملك لم يفعل إلا ما يقضى به القانون أى أنه لم يقدم معروفًا للمصريين، والثانية أن الملك فعل ما فعله من قبل أبيه وجده، أى أنه لم يقم بعمل غير مسبوق.

عكس هذ المرسوم سلوك المصريين. ومن الجدير بالذكر أن هذا المرسوم عثر على نسخ منه أخرى غير النسخة الشهيرة ومنها نسخة من النوبارية وهى المحفوظة بالمتحف المصرى ونسخة من ألفنتين محفوظة باللوفر، ونسخة أخرى من مدينة ليونتوبوليس (تل اليهودية).


ويعنى هذا أن المرسوم كان بمثابة قرار رسمى يتم إرسال نسخ منه إلى كافة المناطق لإعلانه وإعلامه للناس.ويظل مرسوم منف (حجر رشيد) حبيس الرمال حتى عثر عليه الضابط الفرنسى بوشار عام 1799 فى قلعة جوليان بمدينة رشيد.

وظل فى بيت الجنرال مينو الذى كان قائداً للحملة الفرنسية، وبعد مقتل كليبر حتى عام 1801 ثم أخذه الإنجليز معهم بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر ومعروض حالياً فى المتحف البريطانى بلندن.

وهو على غرار اللوحات السابقة مكتوب بالهيروغليفية والديموطيقية واليونانية والحجر غير كامل ولكنه أكبر النسخ التى عثر عليها وقد تبقى منه 14 سطراً هيروغليفياً  و32 ديموطيقياً و54 سطراً يونانياً، أى  أنه كتب بلغتين اللغة المصرية ممثلة فى الخط الهيروغليفى والخط الديموطيقى، ويبلغ ارتفاع الحجر  113 سم، عرضه 75 سم وسمكه 27 سم تقريبا.


بدأت المحاولات لمعرفة أسرار اللغة المصرية القديمة قبل جان فرانسوا شامبليون، ولن أبتعد كثيرًا بل سأقف عند بعض المحاولات التى تمت فى بداية القرن التاسع عشر حين قام دى ساسى عام 1802، ومن بعده توماس يونج» عام 1814، بتفسير رموز الهيروغليفية اعتماداً على مقارنة النصوص الثلاثة لحجر رشيد، ومع أن جهودهما باءت بالإخفاق لكنهما خرجا ببعض الملاحظات التى أفاد منها شامبليون فيما بعد، من قبيل أن الأسماء الملكية كانت تحاط بإطار (خرطوش) يميزها من بقية النص.


ثم جاء الدور الكبير لجان فرانسوا شاملبيون الذى ولد فى الرابع من ديسمبر عام 1790، والذى بدأ حياته التعليمية بدراسة اليونانية واللاتينية وتمكن فى سن العاشرة تقريبا من قراءة النسخة اليونانية من الإلياذة لهوميروس.


فى جرونوبل ظهرت عبقرية شامبليون حيث التقى بفورييه سكرتير البعثة العلمية فى حملة نابليون إلى مصر، وشاهد عنده مجموعة كبيرة من الآثار المصرية، ووقعت فى يده نسخة مرسوم منف (حجر رشيد) معتمدًا على جهود دى ساسى وتوماس يونج وبالفعل تمكن بعد قراءة نص يونانى وهيراطيقى لنفس الملك بطلميوس الخامس، ووصل إلى تحديد مجموعة حروف مصرية منها القاف والألف.


وفى عام 1822 نشر شامبليون بحثه الأول والذى أعلن فيه أن اللغة المصرية القديمة ليست لغة حروف بل لغة تعتمد على الحروف والعلامات التصويرية وعلى سبيل المثال علامة الحياة فى مصر القديمة تقرأ عنخ أى أن علامة واحدة تقرأ بثلاثة حروف. 


لكن يتبقى سؤال هل ما قام به شامبليون من محاولات تمت بمفرده؟ فى الحقيقة هناك إشارات تؤكد أن شامبليون استعان بالكاهن المصرى أبونا يوحنا الشفتشى الذى التقاه شامبليون،  حسب ما أشار إليه الأستاذ مجدى كامل، فى كنيسة سانت روش بمدينة مونبلييه.

ويبدو أن الشفتشى قد لفت نظر شامبليون إلى أن اللغة المصرية القديمة وإن تضمنت حروف وعلامات إلا أن النطق يبقى لغزًا حله فى المرحلة الأخيرة لتطور اللغة المصرية القديمة وهى المرحلة التى لم تكن خطية بل كانت لغوية وهى القبطية التى أشبهها دائمًا بكتابة رسائل الهواتف المحمولة التى نعرفها بالفرانكو.

والتى تكتب بحروف أجنبية مع نطق عربى، هكذا كانت القبطية اللغة المصرية القديمة بحروف يونانية وعلى سبيل المثال فى اللغة المصرية القديمة نقول نفر أى جميل وهى فى القبطية بحروف يونانية Nofri وتعطى نفس المعني.


لم يكتف شامبليون بما تعلمه عن مصر بل زارها بالفعل وقضى فيها عامين بين 1828 -1830 ميلادية، وبعدها بعامين وأثناء عملة كأستاذ لعلم المصريات بالسوربون مات فى سن الثانية والأربعين من عمره تاركًا إرثًا لغويًا كبيرًا فتح من خلاله آفاق علم المصريات ووضع النواة الأولى لهذا العلم.

اقرأ أيضا | حملة شعبية لاستعادة «مرسوم ملكي» كشف أسرار حضارتنا