د. محمد أبوالفضل بدران يكتب: أين «الوَقْف» التعليمى؟

د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران

حين بحثتُ عن ذاتى وجدتُها نائمة تحت شجرة وعندما أيقظتُها ابتسمت العصافير وطارتْ ذاتى.

معظم الجامعات العالمية المرموقة تنمو وتتطور بما يُوقِفه الأثرياء والشركات والمصانع لها وهذا النظام ليس جديدا علينا فقد كان إرثا تراثيا عندنا فكم من الأفدنة أوقفها مُلَّاكها للصرف على طلاب العلم إعاشةً وسكنا بل كان بعضهم يُبتعَث على نفقة هؤلاء، لكن الملف للإنتباه اختفاء هذه الظاهرة أو اضمحلالها فى مصر بل العالم العربى كله وهذا يتطلب بحثا وحوارا مجتمعيا، وقد رأينا حاجة جامعاتنا الحكومية إلى أموال وقْفية لتركض نحو الجودة والاعتماد الأكاديمى وقد ذكر العالم الكبير أ.د. سمير الصياد فى اجتماع حضرناه سويا إن أموال وقْف جامعة هارفارد يديرها العالم  المصرى الدكتور محمد العريان (خريج جامعة أكسفورد) ولنا أن نتخيل المليارات الوقفية للجامعتين المذكورتين؛ ومن عجب أن العرب يوقفون متبرعين بسخاء لجامعة هارفارد وشبيهاتها وكم أتمنى لو تحولت هذه الأموال للجامعات العربية، وحبذا لو تبنّى هذا الأمر الوزير الدكتور عمرو عزت سلامة الأمين العام لاتحاد الجامعات العربية والتقى بالحكومات العربية ورجال الأعمال والأغنياء العرب ومديرى الشركات والمصانع وفتح صندوقا عبر الجامعة العربية لجمع الأموال لتطوير الجامعات العربية، هذا الوقف التعليمى يحتاج تشريعا قانونيا آمل أن يتبناه المجلسان النواب والشيوخ ويتطلب إدارة يستحدثها أ.د. أيمن عاشور وزير التعليم العالى و أ.د. محمد لُطيف الأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات علما بأنه لا علاقة لهذا الوقف المخصص للتعليم الجامعى بوزارة الأوقاف وإنما هو خاص بالجامعات تنفق ريعه على البحث العلمى والمعامل الطلابية والبحثية والبعثات والطلاب المحتاجين والمبانى بجانب ميزانية الدولة وهذا ما ينبغى أن نوجه إعلامنا لنشر ثقافة «الوقف» وأهميته وأوجه صرفه وحاجة الجامعات إليه حتى نعيد شعيرة الوقف الغائبة.     

مصطفى الفقى وسيرته وحكاويه
فى معظم السِّير الذاتية العربية نجد كاتبها يصوّر نفسه بطلا، فهو الأشطر والأجمل والأشجع والأقوى والأقدر على تغيير الأحداث إلى الصورة التى يودُّها على خلاف ما حدث، وتُصاب ذاكرته بالألزهايمر عندما يمر بذكريات مُخجلة فى حياته فلا يذكرها على الإطلاق أو يقلب حقائقها التى ما يزال شهودها أحياء متكئا على ضعف ذاكرتهم فيسكتون خوفا من بطشه وجبروته... معظم السّير الذاتية وقعت فى فخ «الأنا» إلا مِن القليل أقله، لذلك عندما قرأت مذكرات د.مصطفى الفقى: «الرواية، رحلة الزمان والمكان» أدركت أنى أمام سيرة صادقة تحكى رحلته بكل ما فيها من نجاحات وإخفاق أحيانا، وبكل ما حوته من نجومية وحضور ومشكلات وإصرار على إكمال المشوار ولأنه حكّاء ماهر فقد خلط السياسة والدبلوماسية والدراسات الاجتماعية بأدب السيرة الذاتية وأدب الرحلات فى كتابه هذا الذى يشدك بتفاصيل التّذكر وجمال الأسلوب وصدق الرواية حتى لو كانت ضده فهو لا يخجل من ذكرها معللا ذلك أنه بشر يصيب ويخطئ، حاول قدر جهده ألا يقع فى تعصب سياسى وربما كانت خلفيته العلمية هى التى أرشدته إلى حِياد الباحث وموضوعية المنهج العلمى؛ فهو يحكى عن عائلته منذ صغره ولا يميزهم عن الناس وعن رحلاته التى أكسبته سعة الرؤى وغزارة التجربة وعُمق الخبرة وتعجَب وأنت تقرأ هذه السيرة من «كوكتيل المعارف» من رحلاته والأشخاص الذين التقاهم ويبدو أنه كان يدوّن يومياته «يوميا» فقد ساعدته على حكى تفاصيل اللقاءات مكانا وزمانا وحكايا ومشاهدات وقد سمعتُه متحدثا لبقا يحكى وكأن الحدث الذى مرت عليه سنوات يتشكَّل الآن أمام عينيه ويصف ما يراه؛ قَلّ أن نجد سياسيا أديبا لكن هذه السيرة بها من الحكايا والتفاصيل ما يجعلها قابلة للتحويل إلى فيلم سينمائى يؤرّخ لمصر فى نصف قرن بما فيها من المواجع والمضحكات التى جعلته كاتبا سياسيا تتفق وتختلف مع آرائه السياسية لكن ستقرّ له ببراعة الكاتب وفصاحة الخطيب وبلاغة الجملة ودهاء السياسى وحكمة المحامى - الذى كان من الممكن أن يكونه - هذا المحامى الذى عرف قدر مصر وحضارتها ومكانتها، اقترب من الحُكّام، نصح بعضهم عندما طُلِبَ منه، قد يأخذون ما يرى وقد يرفضون لكن الخطاب الذى كتبه للرئيس مبارك عقب انتخابه رئيسا يشير إلى نُصحه ورؤاه وجرأته (مؤرخ فى 17 نوفمبر 1981) وَوُجِد  الخطاب فى أوراق الدكتور أسامة الباز، هذه الرسالة تؤكد وطنيَّته وتفكيره للخروج من أزمات لو سمعها مبارك لما صار ما صار!! وكأن حال د. مصطفى الفقى كحال الشاعرالقائل: أَمَرْتتُهمُ أمْرى بمُنْعَرج الّلوَى.

فلم يستبينوا الرُّشْدَ إلا ضُحى الغَدِ
 ولم يغفل د. مصطفى عائلته الصغيرة فقد تحدث عنها بحب واحترام، وتحدث عن الوحدة الوطنية والملفات التى شغلته والاجتماعات التى حضرها والأقوال التى سمعها والألفاظ التى تحدث بها، يبدو الأمر تسجيلا وافيا، ومن أجمل ما رأيته فى هذه السيرة الذاتية احترام الموتى والوفاء لهم فلا نراه ينحاز لجوقة الشامتين الشاتمين لأى مسئول لأنه رحل أو ترك منصبه بل يذكر شهادته للتاريخ فى أدب يليق بحرمة الموتى وصِدق الحديث وكأنه فهم نصيحة أبى العلاء المعرى:-لا تظلموا الموتى وإنْ طالَ المدَى 

إنى أخافُ عليكمُ أن تلتقوا  
غدت هذه السيرة ذاكرة مصر والعرب فى خمسين عاما فحبذا لو قررنا جزءا منها فى مناهجنا المدرسية ومعاهدنا الدبلوماسية حتى يعرف شبابنا ماذا حدث فى مصر والعالم العربى فى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين من خلال مناصبه العديدة التى تبوأها وسوف يجدون فيه طرائف مضحكة فهو ذو دُعابة لا تخفى على عارفيه وسامعيه؛ كل الشكر للدكتور مصطفى الفقى على هذا السِّفر الأدبى الممتع والباعث على تفسير ما حدث وشكرا للأستاذ محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب على نشره هذا الكتاب فى صورة تليق بالنشر العربى وبالدار التى تمنحنا كنوز العلم والمعرفة. 
 تأمُّلات بدرانية
كلُّ الطرق تؤدى إلى الحب
لا تسألنى عن اتّجاه القِبلة بل سَلْنى عن اتجاه القلب.
كيف تنفخ فى الناى بين الصم؟
لا تبحث عن مفقود وهو موجود بداخلك.
السَّعى وُصول، والوصول قَبول.
لا تبحث عن قلبك فى صدرك بل ابحث عنه فى كل جوارحك.
سامِحْ أعداءك فقد كانوا بالأمس أصدقاءك.
كيف أكتب وأنا لا أعرف الحروف وكيف أقرأ وأنا لا أمتلك البصيرة؟
دائما أتعثَّر فى حرف «نون» فتغوص قدماى وأتشبث بنقطة النون عساى أنجو.
كان هنالك طائران  يتناجيان وعندما أبصرانى صَمَتا صمْتا عجيبا ثم ودَّعانى..
أفكّرُ لأنجو لكنى أعود منتشيا بالنصر لأحفر قبرا لأفكارى الهائمة.
أنا أفكر إذن أنا مسروق من أناى بواسطة هذه الأفكار.
حين بحثتُ عن ذاتى وجدتُها نائمة تحت شجرة وعندما أيقظتُها ابتسمت العصافير وطارتْ ذاتى.
لا تشغلْ بالَك بالشّجار واشغل ذاتك بالأذْكار.
حين رأيتُها كانت خلف المرآة واختفت.
كلُّ وجود فى الأرض يحتاج إلى عدم.
كل رمل دليل ماء.
هل ما زلتَ تتذكرها؟.. إذنْ ساكنة فيك.
التذكُّر احتلال العقل ووجود الذات.
لولا الظلام لما شاهدت النور 
إذا أصابكَ الشكُّ فاسْلك طريق الحب حتى تصل إلى اليقين.
كلُّ الطرق مغلقة إلا طريق الحب.
حين عرفتُ ذاتى فقدتُ الأغْيار.  
ماذا ولماذا؟ أسئلة حارت البشرية فى سُؤلها وإجابتها.
أعطانى كتابا قرأتُه وحفظتُه وفهمتُه.. كان الكتاب خاليا من الحروف والكلمات.  
الحياة قدَر فاغْترف من نهرها وارقص مع الدراويش وأَسْرِ بهم نحو الخلود.   
كل من باع خسر فاشتر قبل أن ينفضّ السوق.
اقرأ نفسك أوّلًا حتى تقرأ ما يخطُّه الآخرون. 
من الظلام ينبع الضَياء.
المرءُ مجموعَ أحاديثِ الناسِ عنه.
لا يُعرَف الرجل حتى تسافر معه ولا يُختبَر إلا إذا عاملتَه ماديا. 
سامحْهم فهم مرضى واعذرْ جهلهم فقد خُلقْنا من طين.
لا تسألَ متى تصل؟ بل سلْ عن سلامة الطريق.
الذّكر نسيانُ الذّاتِ فى المحبوب.
الغيابُ حضور كامل.
كانوا يتكلمون بصوت عالٍ لكن لم يسمعهم أحد.
عندما تمايلوا فى الذَّكر اعتدل القلب.  
كلُّ الأُسودِ التى تخافُها، تيقّنْ أنها تخاف منك.
الحروفُ رموزٌ تبحث عن معانيها. 
البدايات نهايات.

تشجير جوانب الترع
بعد تبطين التُّرع الذى نفذته الدولة فى منظر حضارى جميل تم اقتلاع كل الأشجار المزروعة على جوانب الترع حتى يستطيعوا بناء الأحجار لمنع تسرب المياه والحفاظ على حصة مصر المائية وكان الاقتلاع واجبا حتميا لرص الأحجار والبناء، أما وقد تم ذلك فإننى أدعو هنا إلى أن يتبنّى شباب الجامعات والأندية الرياضية ومراكز الشباب حملة زراعة أشجار مثمرة على الترع حتى تحل محل المقطوعة وأن تِحدّد وزارة الرى وأساتذة الفاكهة أنواع الأشجار المثمرة التى لا تؤثر جذورها على ما تم بناؤه على حواف الترع وبهذا سنعيد جمال الأشجار ونسهم فى تحسين المناخ ونفيد من ثمارها وخشبها وهذه دعوة تتسق مع استضافة مصر لمؤتمر المناخ العالمى؛ فلماذا لا تتسابق الأسر الجامعية واتحادات الطلاب ومجالس الأندية فى تنفيذ هذا المشروع الذى سيستظل بظله الجميع؟ 
فى النهايات تتجلَّى البدايات
كلُّ رملٍ تذكارُ ماءْ
كل حرفٍ مِدادُ ياءْ
كلُّ حاءٍ مقرونُ باءْ
كلُّ ليلٍ إلىُ ضياءْ
كل بُعْدٍ إلى لقاءْ
كل بَدْءٍ إلى انتهاءْ
كل حيٍّ إلى فناءْ