يوميات الأخبار

ذكريات ممنوعة !

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

لن تعرفوا أبدا، تفاصيل مغامراتى الليلية فى الحى اللاتينى، ولا المحاولة الفاشلة لدخول صالة مولان روج الشهيرة، أو ما رصدتُه فى الشانزيليزيه من مشاهد جذّابة ومُتناقضة.

أرْشفة الحنين

الخميس:

تفرض التكنولوجيا ذكرياتنا علينا وفق معاييرها. كى أكون أكثر تحديدا، أنا أعنى «فيس بوك»، الذى اعتبرناه فى البداية فضاء افتراضيا، ثم احتلّ واقعنا تدريجيا، وأصبح أحد أهم مُفرداته.

يرافقنا فى كل الأوقات والأماكن، حتى الحمّام يزاحمنا فيه أحيانا! يعدّ علينا أنفاسنا بخوارزمياته، ونُطلق فيه كلماتنا وصورنا وأفكارنا حتى صرْنا أشباه عرايا أمام الآخرين. المهم أن الموقع الشهير استحضر عددا من صورى التى نشرتها قبل سبع سنوات، خلال زيارتى لباريس. سألنى إن كنتُ أريد مشاركة الذكرى فرفضتُ، كى أتفادى تعليقات من لا يُكلفون أنفسهم عناء قراءة الكلمات القليلة، ويسارعون بعد نظرة عابرة على الصُور، إلى ضخ تعليقات بمذاق «الأكلاشيهات»، تهنىْ بالرحلة الميمونة كأنها لا تزال طازجة، رغم الإشارة الواضحة إلى أن المنشور المُعلّب مُستدعى من خزانة الذكريات. أطالع الصور وأستعيد حكايات ارتبطت بالرحلة، ورفاق أبعدتْهم المشاغل عنى أو أبعدتنى عنهم. على غير العادة لن أستسلم لنشوة القصص القديمة، وسأحرمكم من حكايات تُجدّد طاقة الشجن بداخلكم، أو تمنحكم هدنة ابتسام بين حشود المتاعب.

وهكذا لن تعرفوا أبدا، تفاصيل مغامراتى الليلية فى الحى اللاتيني، ولا المحاولة الفاشلة لدخول صالة مولان روج الشهيرة، أو ما رصدتُه فى الشانزيليزيه من مشاهد جذّابة ومُتناقضة، جمعتْ بين عشّاق عاشوا فى الشوارع المُزدحمة خُلوات غير شرعية، ومتسوّلين متعددى الجنسيات لا يختلفون عن أمثالهم فى بلادنا، سوى أنهم لا يفرضون «بلاهم» على المارة بالإكراه والإلحاح. لن أحكى رغم معرفتى أنكم مولعون بالحواديت. امتناعى ليس من قبيل شعور مفاجئ بالرغبة فى «الغلاسة»، لكن لأننى اكتشفتُ أن الموقع الشهير يفرض علينا ذاكرة انتقائية. يتجاهل أحداثا ويختار أخرى، ويسلبنا حرية استدعاء ما نشعر بالحنين إليه. إنها محاولة مكشوفة لتدمير إرادتنا، ولن أقع فى الفخ نفسه كل مرة.

المشكلة الحقيقية من وجهة نظري، أن «فيس بوك» جعل ذكرياتنا قصيرة العُمْر، ترتبط فقط بسنّه الأحدث نسبيا، مقارنة بأعمار الكثيرين منا. إنه فتى عابث يلهو بحماقتنا وولعنا بالظهور، مما يجعلنا نكتفى بالحكايات المُؤرشفة فى دهاليزه، بينما نُهمل قصصا أخرى أكثر قِدما وربما جمالا، فضلا عن أنها معايشات لا ترتبط بشهوة الانتشار وحصد نقرات الإعجاب!

حلم ليلة صيف

السبت:

للمرة الثانية خلال شهر، تصلنى الرسالة نفسها. أعترف أنها نجحتْ فى التلاعب بأفكاري، بعد أن فشلت السُلف الصغيرة فى مقاومة تبخّر النقود، وأصبح الحصول على قرض كبير نسبيا أمرا شبه مستحيل. أصبحت القروض الحسنة عُملة صعبة، والقروض ذات الفوائد «عَمْلة» سيئة! ويبدو أن مندوب «أمازون» يعرف كلّ ذلك. تسلّمتُ منه رسالة على «واتس آب»، يعرض علىّ عملا مُجزيا. مطلوب منى فقط أن أتفرّغ ثُلث ساعة يوميا، لأحصل فى المقابل على ثلاثة آلاف جنيه كل شهر، أى أن توفير ساعتين من وقتى الثمين سيعود علىّ بدخل يقترب من 20 ألف جنيه. أخذتُ أعد الكتاكيت قبل أن يفقس البيض، حتى أننى فكرتُ فى التفرغ الكامل كى أحصد مئات الآلاف فى عام واحد، بما يكفل لى تقاعدا مناسبا مع اقتراب سن المعاش. لم يعرض الرجل تفاصيل عن العمل ولا طبيعته، لكنه اكتفى باللعب على أوتار جيوبى الفارغة. 

شعرتُ أن الدنيا لا تزال بخير، وأن هناك جهات دولية تُتابع نشاطى وتُقدّره، وترغب فى الاستفادة من خبراتى غير المحدودة. ولأننى عدو نفسي، بدأتُ أستدعى الشكوك، وأتساءل عن أسباب اختيارى دون غيرى من الملايين على مستوى العالم. إنها عملية نصب بالتأكيد، بدليل أننى قرأتُ الرسالة من الخارج ولم أجرؤ على فتحها، كى أغلق الباب أمام أى رابط يجعل هاتفى مُستباحا. الرقم الدولى لم يمنح المُرسل أية ضمانات تدعو للثقة به. بالعكس، معظم عمليات الاختراق عابرة للحدود. نسيتُ الأمر حتى فوجئت اليوم برسالة شبه مُستنسخة من الأولى، غير أنها من رقم مُختلف، إنه من الهند هذه المرة بعد أن كان الأول من موناكو! وربما تعقبها رسائل أخرى من أماكن أخرى أنبهر بمجرد سماعى أسمائها، غير أننى لن أستسلم لإغوائها. لكن لا مانع من قراءة الرسائل كل فترة، لمُجرّد إنعاش قُدرتى على الحُلم!

تكييف مُعطّل

الأربعاء:

مع بداية الصيف، أعلن تكييف السيارة العصيان، واضطررتُ لرفع الراية البيضاء أمام الحر الشديد، بعد أن فشلتْ كلّ محاولات الإصلاح لأسباب لا مجال لذكرها. لم يعُد التكييف رفاهية فى ظل أمراض مُزمنة، وتغيّرات مناخية فتحت علينا بوابات الشمس، حتى أن الشرق الأوسط مهدّد بارتفاع مُلتهب فى درجات الحرارة، حسبما توقعتْ دراسة قرأتُها اليوم فى صحيفة يومية. ولأننى لا أتقن فنّ الاعتراف بالهزيمة، فقدْ أقنعتُ نفسى أن العُطْل المُستعصى على الإصلاح منحنى ميزة كنتُ أفتقدها، هى الارتباط بالأخوة المواطنين!

 منذ سنوات عزلنى التكييف عن الشارع. اعتدتُ تشغيله صيفا وشتاءً كى أتفادى الصخب. ومع انسياب أغنيات أحبها، أتابع ما يجرى حولى من وراء حجاب زجاجي. أرصد تعبيرات الوجوه الغاضبة وحركات الشفاه التى تُطلق السباب، نتيجة تذمر من الزحام أو الممارسات المرورية العشوائية، ثم أراقب المُتذمّرين وهم يرتكبون بعدها مباشرة حماقات مماثلة بسياراتهم. إنه طبْعنا البشرى الذى يحلّل لنا ما نُحرّمه على غيرنا.

عبر رحلتيّ الصباح والمساء، ابتدعتُ هواية جديدة، تشغلنى عن انقراض الهواء البارد فى الصيف الحار. بدأتُ أتنصّت على حوارات المحيطين. التنصّت ليس لفظا دقيقا. الحقيقة أن الكلمات هى التى تلقى نفسها فى أذنيّ، فالكثيرون أدمنوا الصوت العالى حتى عند الحديث عن مسائل شديدة الخصوصية. كى أكون دقيقا، لابد من توضيح أن النبرات تكون أقل إثارة للضجيج فى فترة الصباح، عندما تخترق السيارة كوبرى أكتوبر فى طريقنا إلى مقر الجريدة بالإسعاف.

مساءً ترتفع الأصوات، ربما بفعل يوم صاخب يفرض إيقاعاته على الجميع، أو لأن طريق العودة إلى المنزل مختلف. نسلُك عادة شارع رمسيس، والمسافة من الميدان الشهير حتى منطقة غمرة تصلح أن تكون موْضع دراسة فنّية مُلهمة! ما يجرى بها إحياء لشكل مُنقرض هو مسرح السامر، الذى يقوم على التلقائية والارتجال. فى الواقع، يُمكن إضافة نمط مسرحى آخر هو العبث! فقمة العبثية أن تتّخذ الحركة نفس مواصفات السكون، بسبب انسداد فى شرايين غمرة، التى تشهد وقوف سيارات الميكروباص والأوتوبيسات، لالتقاط راكب واحد، وتفرض على القادمين من الخلف وضع الجمود الاضطراري. تُضاف إلى كل ما سبق حواديت العابرين، التى يُمكن لراكب أية سيارة متابعة جانب كبير منها، حتى أنه قد يشعر بالضيق إذا حدثتْ مُعجزة وانفتح المسار أمامه، لأنه لن يستطيع استكمال تفاصيل الحكاية التى يتابعها فى سيارة مجاورة، أو على متن «موتوسيكل» يحمل عائلة كاملة. شخصيا، أدمنتُ الاستماع لزوجة تُحدّث شريك حياتها بحدة وهى تشكو أفعال أمه، أو رجل يرتدى عباءة العارف وينصح صديقه بحل مشكلة أدركتُ بعض تفاصيلها خلال جيرة السيارات مؤقتا. القصص كثيرة، تُنافس الدراما التليفزيونية، وأحيانا تتفوّق عليها فى جُرعة الخيال. حتى أننى فكرتُ فى تأليف كتاب، اخترتُ له اسم «حواديت من وحْى السكتة المرورية» كعنوان مؤقت. 

اليوم، اخترقتْ أذنى عبارة قالها راكب دراجة بخارية لمرافقه، ويبدو أنه يحاول إقناعه بأمْر ما. لم أستطع معرفته لأن الدراجة قفزتْ فجأة بحركة بهلوانية، واستطاعت العبور ببراعة من فجوة بالغة الضيق بين عدة سيارات، مُتحدّية كل قوانين الفيزياء المعروفة. راقبتُها وهى تبتعد مُسرعة رغم أنف التكدس، وتلاعبت العبارة بعقلى كأننى أسمعها لأول مرة: «طباخ السمّ بيدوقه»!

طباخ السم

لا أعرف هل توجد أمثلة عربية يتشابه معناها مع هذا المثل المصريّ الأصيل أم لا. سمعتُه مئات المرات طوال حياتي، دون أن يستوقفنى معناه. لكن يبدو أن ثنائية الحر والزحام تجعل العقل أكثر رغبة فى التفكير النقدي. مالذى يُجبر طبّاخ السم على تذوّقه وهو يعلم أن طعامه ممزوج ببقايا غدره؟! لا سبب منطقيا يدفع الإنسان إلى المخاطرة بحياته، وأعتقد أن المثل الشهير نتاج عصور شهدتْ استنزاف جهد الكادحين، فى سبيل ملء بطون طبقة الأثرياء، دون أن يستفيد المُنتجون الحقيقيون مما زرعتْه أياديهم. هنا ظهر المثل الذى يُضفى شرعية على اختلاس الفُتات. غير أنه من المؤكد أن السارق المُضطر لن يلجأ لتذوّق غنيمته الضئيلة لو احتوتْ على سمّ حقيقي.

مرّات قليلة تذوّق الطباخ سمّه، فى قصص تضمّنتها صفحات كتب التاريخ والحكايات، عندما يكون شريكا فى مؤامرة على الملك كشفتْها الصُدفة، وهكذا يُجبر الحاكم صانع طعامه على التهام ما أعدّه فيسقط صريعا. بعدها أحيلت الصُدفة للتقاعد، وأصبح الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات صارمة لإحباط المؤامرة فى مهدها. وظهرت وظيفة «الجاشنكير» فى العصر المملوكي، ليقوم من يشغلها بتذوق طعام السلطان بهدف التأكد من أنه غير مسموم.

تنطلق السيارة بعد أن غاب «الموتوسيكل» وراكباه عن الأنظار. شكرتُ الزحام على منحى فرصة نقض المثل الشهير، وقررتُ أن أرسل برقية شُكر لكل من ساهم فى عدم إصلاح تكييف السيارة!