حديث الاسبوع

الحرب اقتصادية بقفازات عسكرية

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

هل العالم حاليا بصدد مرحلة مخاض حقيقية تؤشر على تغيير فى معالم موازين القوى بين التحالفات الكبرى فى العالم؟

معطيات كثيرة وتطورات متعددة تؤكد أن النظام العالمى السائد يتعرض منذ فترة إلى هزات عنيفة، وتجاذبات قوية بين أطراف مؤثرة فى النظام العالمي. فقد أتاحت التطورات السياسية الأخيرة.

فمن جهة أتاحت هذه التطورات للقوى التقليدية فرصة تحصين اختياراتها وتقوية صفوفها، حيث نجحت الولايات المتحدة الأمريكية فى تعزيز تحالفاتها، خصوصا داخل القارة الأوروبية بعدما اضطرت دول أوربية كثيرة إلى الحسم النهائى فى تحالفاتها، وإعلان تغيير كبير وعميق فى اختياراتها المتعلقة بسياساتها الخارجية.

ويتعلق الأمر هنا بالسويد وهولندا وألمانيا وغيرها كثير، التى اتخذت قرارات حاسمة لم تكن متوقعة، ارتمت من خلالها فى أحضان التحالف العسكرى والاستراتيجى الغربى، وحققت الإدارة الأمريكية مكاسب استراتيجية على هذا المستوى مكنتها من تعزيز تحالفاتها الدولية.

من جهة ثانية لا يمكن إنكار الرجة العنيفة الذى أحدثها الحلف المناهض للطرف التقليدى، حيث أبان عن قدرة كبيرة على المواجهة والصمود رغم حجم وقوة الطرف المناهض، ورغم تأثيرات التدابير المتخذة التى ركزت على محاولة إضعافه وإنهاكه اقتصاديا وعسكريا.

ويعتبر الاقتصاد والمال جوهر وعمق هذا المخاض العسير الذى يعيشه النظام العالمى الحالي، وما الحروب الدائرة والنزاعات العسكرية والدبلوماسية السائدة حاليا بين القوى العالمية المؤثرة، فى حقيقتها إلا تجليات واضحة للأسباب الاقتصادية لها. ولذلك ركزت أطراف الأزمة العالمية الراهنة على هذه الأسباب حيث التجأت الدول الغربية إلى الإعلان عن رزمة كبيرة من العقوبات الاقتصادية بهدف فرض حصار اقتصادى خانق على الطرف الآخر.

فى حين التجأت روسيا ومن معها إلى البحث فى الخيارات الاقتصادية المضادة فى إفراغ العقوبات من محتواها، أو التخفيف منها على الأقل، وإحداث تغيير عميق فى النظام العالمى الاقتصادى السائد.

وبذلك، سواء تعلق الأمر بالحرب فى أوكرانيا، أو بغيرها من التطورات العسكرية، فإن المستهدف الحقيقى هو بنية النظام العالمى الاقتصادى بالخصوص.

و على هذا المستوى يقفز التحالف الاقتصادى الجديد للقوى المناهضة للتحالفات الاقتصادية التقليدية أو المنافسة لها إلى واجهة الاهتمام والانشغال، والحديث هنا عن مجموعة (البريكس BRICS ) الاقتصادية التى تضم الصين وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل والهند، التى جذبت إليها خلال الفترة الأخيرة دولا أخرى من قبيل إيران والأرجنتين، والتى عقد قادتها قبل أسابيع قليلة من اليوم لقاء لهم عن بعد بحث سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية بين دولهم.

الأمر يتعلق بتكتل اقتصادى عالمى قوى ومؤثر يشكل قرابة 25 بالمائة من الناتج الإجمالى العام العالمى، و41 بالمائة من سكان العالم (حوالى نصف السوق الاستهلاكى العالمي)، وإذا كان التكتل الاقتصادى العالمى التقليدى راهن على الحرب فى أوكرانيا لإضعاف هذا التجمع الناشئ عبر تعميق عزل روسيا وإغراء الصين بالانخراط فى العقوبات المالية والاقتصادية المفروضة على روسيا، فإن العكس هو الذى حصل، حيث نأت بكين بنفسها عن المشاركة فى فرض العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وتعززت مجموعة (البريكس) بإعلان كل من إيران والأرجنتين رغبتهما فى الانضمام إلى المجموعة وقدمتا طلبات رسمية فى هذا الصدد.

ويمكن القول إن هذا التحالف الاقتصادى الناشئ من ركام المواجهات العسكرية والدبلوماسية بين القوى التقليدية انتقل إلى مراحل تنسيق، يصفها الخبراء بالمتقدمة، حيث تداول قادتها فى اجتماعهم الأخير إمكانية استبدال الدولار الأمريكى بالعملات الوطنية فى المبادلات التجارية والاقتصادية بين دولها، وتسهيل المساطر القانونية والجمركية لتطوير هذا التعاون الاقتصادى بينها.

لذلك كله وغيره كثير، فإن النظام العالمى السائد يخضع فى الفترة الراهنة فى العالم إلى اختبار حقيقى، وأن الحرب الحقيقية لا تقصر على مساحة جغرافية محددة، سواء فى أوكرانيا أو فى غيرها فى الزمن المقبل، بل إنها لحظة صدام حقيقى تاريخى يكاد يكون غير مسبوق خلال العقد الأخير بين قوى دولية تحاول كل واحدة منها فرض وجهة نظرها وترجيح كفة مصالحها، وبالتالى وأد نظام عالمى تقليدى رهن العالم بأسره بتقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية حافلة بالمخاطر.
< نقيب الصحفيين المغاربة